الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد **
قال موسى بنُ عقبة: ولما قدِمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ مِن الحُديبية، مَكَثَ بها عشرين ليلةً أو قريباً منها، ثم خرج غازياً إلى خيبر، وكان اللهُ عزَّ وجلَّ وعده إياها، وهو بالحُديبية. وقال مالك: كان فتحُ خيبرَ في السنة السادسة، والجمهور: على أنها في السابعة. وقطع أبو محمد بنُ حزم: بأنها كانت في السادسةِ بلا شك، ولعل الخلافَ مبنىٌ على أوَّلِ التاريخ، هل هو شهر ربيع الأول شهرُ مَقدَمِه المدينة، أو مِن المحرَّم في أوَّل السنة ؟ وللناس في هذا طريقانِ: فالجمهورُ على أن التاريخَ وقع مِن المحرَّم، وأبو محمد بن حزم: يرى أنه مِن شهر ربيع الأول حين قَدِمَ، وكان أوَّلَ مَن أرَّخ بالهجرة يَعلى بن أُمية باليمن، كما رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح، وقيل: عمرُ بن الخطاب رضى الله عنه، سنةَ ست عشرة مِن الهجرة. وقال ابنُ إسحاق: حدثنى الزُّهرى، عن عُروة، عن مروانَ بن الحكم، والمِسور بنِ مَخْرَمَة، أنهما حدَّثاه جميعاً، قالا: انصرفَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عامَ الحُديبية، فنزلت عليه سورةُ الفتح فيما بينَ مكة والمدينة، فأعطاه اللهُ عزَّ وجلَّ فيها خيبرَ: وقال سلمةُ بنُ الأكوع: ( خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، فسِرْنا ليلاً، فقال رجلٌ مِن القَومِ لعامر بنِ الأكوع: ألا تُسمِعُنَا مِن هُنَيْهَاتِك، وكان عامر رجلاً شاعراً ؟ فنزل يحدُو بالقوم يقول: فاغْفِر فِدَاءً لَكَ ما اقْــتَفَيْنَا ** وَثَبِّتِ الأقْــدَامَ إنْ لاَقَـــيْنَا
وَأَنْزِلَنْ سَــكِينةً عَلَيْنـَـا ** إنَّا إذَا صِــــيحَ بِنَا أَتَــيْنَا
وبِالصِّــيَاحِ عَـوَّلُوا عَلَيْنَا ** وإنْ أرَادُوا فـِــتْنَةً أَبَيْنـــا فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( مَنْ هَذَا السّائِقُ ) ؟ قالوا: عامر. فقال: ( رَحِمَهُ اللهُ )، فقال رجلٌ مِن القوم: وجبت يا رسولَ اللهِ لولا أمتعتَنَا به. قال: فأتينا خيبر، فحاصرناهم حتى أصابتنا مخمصةٌ شديدة، ثم إنَّ الله تعالى فتح عليهم، فلما أَمْسَوْا، أوقدوا نيراناً كثيرة، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ( مَا هَذِهِ النِّيرانُ، عَلَى أَىِّ شَىءٍ تُوقِدُونَ ) ؟ قالوا: على لحم. قال: ( عَلَى أَىِّ لَحْمٍ ) ؟ قالوا: على لحم حُمُر أنسـية. فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( أهْريقُوها واكْسِرُوها )، فقال رجل: يا رسول الله؛ أو نُهْرِيقُها ونغسِلُها ؟ فقال: ( أو ذَاكَ )، فلما تصافّ القومُ، خرج مَرْحَب يخطُر بسيفه وهو يقول: * شَاكى السِّلاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ *
* إذا الحُرُوبُ أَقْبَلَتْ تَلَهَّبُ * فنزل إليه عامر وهو يقول: فاختلفا ضربتين، فوقع سيف مَرْحَب في ترس عامر، فذهب عامر يَسْفُلُ له، وكان سيفُ عامر فيه قِصر، فرجع عليه ذُباب سيفه، فأصابَ عينَ ركبته، فمات منه، فقال سلمة للنبىِّ صلى الله عليه وسلم: زعمُوا أن عامراً حَبِطَ عملُه، فقال: ( كَذَبَ مَنْ قَالَهُ، إنَّ لَهُ أَجْرَيْنِ وجمع بين أصبعيه إنه لَجَاهِدٌ مُجاهِدٌ، قلَّ عربىٌ مشى بها مِثْلَه ). ولما قَدمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خيبر، صلَّى بها الصُّبحَ، وركب المسلمون، فخرج أهلُ خيبر بمساحِيهم ومكاتِلهم، ولا يَشْعُرونَ، بل خرجُوا لأرضهم، فلما رأوا الجيش، قالوا: محمَّدٌ واللهِ، محمَّدٌ والخميسُ، ثم رجعوا هاربين إلى حصونهم، فقال النبىُّ صلى الله عليه وسلم: ( اللهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إنَّا إذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْم، فَسَاءَ صَبَاحُ المُنْذَرِين ). ولما دنا النبىُّ صلى الله عليه وسلم وأشرف عليها، قال: ( قفوا ) فوقف الجيشُ، فقال: (اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمواتِ السَّبْعِ وَمَا أَظْلَلْنَ، ورَبَّ الأَرَضينَ السَّبْعِ ومَا أَقْلَلْنَ، وربَّ الشَّيَاطِين وَمَا أَضْلَلْنَ، فإنَّا نَسْألُكَ خَيْرَ هذِهِ القرْيَةِ وخَيْرَ أَهْلِها وَخَيْرَ مَا فِيهَا، ونَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ هذِهِ القَرْيَةِ وشَرِّ أَهْلِهَا وشَرِّ مَا فيها، أقْدِمُوا بِسْم اللهِ ). ولما كانت ليلة الدخول، قال: ( لأُعْطِيَنَّ هذِهِ الرَّايَةَ غَدَاً رَجُلاً يُحبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، ويُحِبُّهُ اللهُ ورَسُولُهُ، يَفْتَحُ اللهُ عَلَى يَدَيْهِ )، فبات الناسُ يدوكون أيهُّم يُعطاها، فلما أصبح الناسُ، غَدَوْا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كُلُّهم يَرْجُو أن يُعطاها، فقال: ( أَيْنَ عَلِىُّ بْنُ أبى طَالب ) ؟ فقالُوا: يا رسُولَ الله؛ هو يَشتكى عينيه. قال: ( فأرْسِلُوا إلَيْهِ )، فأُتى به، فبصق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في عينيه، ودعا لهُ، فَبَرَأ حتَّى كأنْ لم يَكُنْ به وَجَعٌ، فأعطاهُ الرايَةَ، فقال: يا رسولَ اللهِ؛ أُقاتِلهم حتى يكُونوا مثلنا ؟ قال: ( انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهم، ثُمَّ ادْعُهُمْ إلى الإسْلامِ، وأَخْبِرْهُم بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللهِ فيهِ، فَوَاللهِ لأَنْ يَهْدِىَ اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِداً، خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ ). فخرج مَرْحَبٌ وهو يقول: * شَاكِى السِّلاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ *
* إذا الحُرُوبُ أَقْبَلَتْ تَلَهَّبُ * فبرز إليه علىٌ وهو يقول: * كَلَيْثِ غَابَاتٍ كَرِيهِ المَنْظَرَهْ *
* أوفيهمُ بِالصَّاعِ كَيْلَ السَّنْدَرَهْ * فضرب مَرْحَباً، ففلَق هامتَه، وكان الفتح. ولما دنا علىُّ رضىَ الله عنه من حُصونهم، اطلع يهودىٌ مِن رأس الحصن، فقال: مَنْ أنت ؟ فقال: أنا علىُّ بنُ أبى طالب. فقال اليهودى: علوتُم وما أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى. هكذا في ( صحيح مسلم ): أن علىَّ بن أبى طالب رضى الله عنه هو الذي قتل مَرْحَبَا. وقال موسى بن عُقبة، عن الزهرى وأبى الأسود، عن عروة ويونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدَّثنى عبد الله بن سهل أحد بنى حارثة عن جابر بن عبد الله، أن محمَّد بن مسلمة هو الذي قتله، قال جابر في حديثه: خرج مَرْحبُ اليهودىُّ مِن حصن خيبر قد جمع سِلاحه، وهو يرتجزُ ويقول: مَن يُبارِزُ ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( مَنْ لِهذَا ) ؟ فقال محمَّدُ بنُ مسلمة: أنا له يا رسولَ الله، أنا واللهِ المَوْتُورُ الثائرُ، قتلوا أخى بالأمسِ، يعنى محمودَ بن مسلمة، وكان قُتِل بخيبر، فقال: ( قُمْ إلَيْهِ، اللَّهُمَّ أَعِنْهُ عَلَيْهِ )، فلما دنا أحدُهما مِن صاحبه، دخلَتْ بينهما شجرةٌ، فجعل كُلُّ واحد منهما يلوذُ بها من صاحبه، كلما لاذ بها منه اقتطع صاحبه بسيفه ما دونه منها، حتى برز كُلُّ واحد منهما لصاحبه، وصارت بينهما كالرجُل القائم، ما فيها فَنَن، ثُمَّ حملَ على محمد فضربه، فاتقاه بالدَّرقة، فوقع سيفُه فيها، فعضَّتْ به، فَأَمْسَكَتْهُ، وضربه محمَّدُ بن مسلمة فقتله، وكذلك قال سلمة بن سلاَّمة، ومجمع بن حارثة: إن محمد بن مسلمة قتل مرحباَ. قال الواقدى: وقيل: إن محمَّد بن مسلمة ضرب ساقى مَرْحب فقطعهما، فقال مرحب: أَجْهِز علىَّ يا محمد. فقال محمد: ذُقِ الموت كما ذاقه أخى محمود، وجاوزه، ومرَّ به علىُّ رضى الله عنه، فضرب عُنقه، وأخذ سلَبه، فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في سَلَبِهِ، فقال محمَّدُ بن مسلمة: يا رسولَ الله؛ ما قطعتُ رجليه ثم تركتُه إلا لِيذوقَ الموتَ، وكنت قادراً أن أُجْهِزَ عليه. فقال علىُّ رضى الله عنه: صَدَقَ، ضربتُ عنقه بعد أن قطع رجليه، فأعطى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم محمَّد بن مسلمة سيفَه ورمحه، ومِغفره وبَيْضَته، وكان عند آلِ محمد بن مسلمة سيفُه فيه كتاب لا يُدرى ما فيه، حتى قرأه يهودى، فإذا فيه: هذَا سَيْفُ مَرْحَبْ مَنْ يَذُقْهُ يَعْطَبْ ثم خرج[ بعد مرحب أخوه ] ياسر، فبرز إليه الزبير، فقالت صفيَّةُ أُمه: يا رسولَ اللهِ؛ يقتلُ ابنى ؟ قال: ( بَلْ ابنُكِ يَقْتُلُهُ إنْ شَاءَ الله )، فقتله الزبير. قال موسى بن عقبة: ثم دخل اليهودُ حِصناً لهم منيعاً يقال له: القَمُوص، فحاصرهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قريباً مِن عشرينَ ليلة، وكانت أرضاً وَخْمَةً شَدِيدَةَ الحرِّ، فجُهِدَ المسلمون جَهْدَاً شديداً، فذبحوا الحُمُرَ فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكلها، وجاء عبدٌ أسود حبشى من أهل خيبر، كان في غنم لسيده، فلما رأى أهلَ خيبر قد أخذوا السلاح، سألهم ما تُريدون ؟ قالوا: نُقاتل هذا الذي يزعم أنه نبىٌ، فوقع في نفسه ذكر النبى صلى الله عليه وسلم، فأقبل بغنمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ماذا تقول وما تدعو إليه ؟ قال: ( أَدْعُو إلى الإسْلام، وأَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إلهَ إلا الله، وأنِّى رَسُولُ الله، وأَنْ لا تَعْبُدَ إلا الله ). قال العبدُ: فمالى إن شهدتُ وآمنتُ باللهِ عَزَّ وجَلَّ ؟ قال: ( لَكَ الجَنَّةُ إنْ مِتَّ على ذلكَ )، فأسلم، ثم قال: يا نبىَّ اللهِ؛ إن هذه الغنم عندى أمانة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أخْرِجْها مِنْ عِنْدِكَ وارْمِها بالحَصْباءِ، فإنَّ اللهَ سَيُؤَدِّى عَنْكَ أَمَانَتَكَ )، ففعل، فرجعت الغنم إلى سيِّدها، فعلم اليهودى أن غلامه قد أسلم، فقام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الناس، فوَعَظهم، وحضَّهم على الجهاد، فلما التقى المسلمون واليهودُ، قُتِلَ فيمن قُتِلَ العبدُ الأسود، فاحتمله المسلمون إلى معسكرهم، فأُدخل في الفُسْطَاطِ، فزعموا أن رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم اطلع في الفُسطاط، ثم أقبل على أصحابه وقال: ( لَقَدْ أَكْرَمَ اللهُ هذا العَبْدَ، وسَاقَهُ إلى خَيْرٍ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ عِنْدَ رَأْسِهِ اثْنَتَيْنِ مِنَ الحُور العين، وَلَمْ يُصَلِّ للهِ سَجْدَةً قَطُّ ). قال حمَّاد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس: أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ فقال: يا رسولَ اللهِ؛ إنى رجل أسودُ اللَّون، قبيحُ الوجه، مُنْتِنُ الرِّيح، لا مالَ لى، فإن قاتلتُ هؤلاء حتى أُقْتَلَ، أأدخلُ الجنَّة ؟ قال: ( نعم )، فتقدَّم، فقاتلَ حتَّى قُتِلَ، فأتى عليه النبىُّ صلى الله عليه وسلم وهو مقتول، فقال: ( لَقَدْ أَحْسَنَ اللهُ وَجْهَكَ، وَطَيَّبَ رِيحَكَ، وَكَثَّرَ مَالَكَ )، ثم قال: ( لَقَدْ رَأَيْتُ زَوْجَتَيْهِ مِنَ الحُورِ العينِ يَنْزِعَان جُبَّتَهُ عَنْهُ، يدْخُلانِ فِيما بَيْنَ جِلْدِهِ وجُـبَّته ). وقال شدَّادُ بنُ الهاد: جاء رجل من الأعرابِ إلى النبى صلى الله عليه وسلم، فآمنَ به واتَّبعه، فقَالَ: أُهاجِرُ معكَ، فأوصى به بعضَ أصحابه، فلما كانت غزوةُ خيبر، غَنِمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، فقسمه، وقسم للأعرابى، فأعطى أصحابه ما قسمه له، وكان يَرعى ظهرَهم، فلما جاء، دفعُوهُ إليه، فقال: ما هذا ؟ قالوا: قَسْمٌ قَسَمَهُ لَكَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فأخذهُ، فجاء به إلى النبىِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هَذَا يا رسول اللهِ ؟ قال: ( قَسْمٌ قَسَمْتُهُ لَكَ )، قال: ما على هذا اتبعتُك، ولكن اتبعتُك على أن أُرمى هاهنا وأشار إلى حَلْقِه بسهم، فأموتَ فأدخل الجنَّة، فقال: ( إنْ تَصْدُقِ اللهَ يَصْدُقْكَ )، ثم نهض إلى قتال العدو، فأُتِى به إلى النبى صلى الله عليه وسلم وهو مقتول، فقال: ( أهو هو ) ؟ قالوا: نعم. قال: ( صَدَقَ اللهَ فَصَدَقَهُ )، فكفَّنه النبىُّ صلى الله عليه وسلم في جبته، ثم قدَّمه، فصلَّى عليه، وكان مِن دعائه له: ( اللَّهُمَّ هذا عَبْدُكَ خَرَجَ مُهاجِراً في سَبِيلِكَ، قُتِلَ شَهِيداً، وأَنَا عَلَيْهِ شَهِيدٌ). قال الواقدى: وتحوَّلت اليهود إلى قلعة الزبير: حصنٍ منيع في رأس قُلّةٍ، فأقام رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثلاثةَ أيام، فجاء رجل من اليهود يقال له ( عزال ) فقال: يا أبا القاسم؛ إنك لو أقمتَ شهراً ما بَالوا، إن لهم شراباً وعُيوناً، تحتَ الأرض، يخرجُون بالليل، فيشربُون منها، ثم يرجعون إلى قلعتهم، فيمتنعُون منك، فإن قطعْت مشربَهم عليهم أصحَرُوا لك، فسار رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى مائهم، فقطعه عليهم، فلما قُطِع عليهم،خرجوا، فقاتلُوا أشد القتال، وقُتِلَ مِن المسلمين نَفَرٌ، وأُصيب نحو العشرة من اليهود، وافتتحه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تحوَّل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل الكُتَيْبَةِ والوَطِيح والسُّلالِم حصنِ ابن أبى الحُقيق، فتحصَّن أهلُه أشد التحصن، وجاءهم كُل فَلٍّ كان انهزم مِن النَّطاة والشَّق، فإن خيبر كانت جانبين: الأول:الشَّق والنَّطاة، وهو الذي افتتحه أولاً، والجانب الثانى: الكُتيبة والوطيح والسُّلالم، فجعلوا لا يخرجُون مِن حُصونهم حتى همَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن ينصبَ عليهم المَنجنيق، فلما أيقنُوا بالهَلَكَةِ، وقد حصرهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أربعةَ عشر يوماً، سألُوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم الصُّلْحَ، وأرسل ابنُ أبى الحُقيق إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: أنْزِلُ فَأُكَلِّمك ؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ( نعم )، فنزل ابنُ أبى الحُقيق، فصالَحَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على حقن دِماء مَنْ في حُصونهم من المقاتلة وتركِ الذُّرِّيَّة لهم، ويخرجُون من خيبر وأرضِها بذراريهم، ويُخلُّون بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينَ ما كان لهم من مال وأرض، وعلى الصفراء والبيضاء، والكُراع والحلقة إلا ثوباً على ظهر إنسان، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ( وَبَرِئَتْ مِنْكُم ذَِمَّةُ اللهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ إنْ كَتَمْتُمونى شَيْئاً )، فصالحوه على ذلك. قال حمَّادُ بن سلمة: أنبأنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: ( أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر حتى ألجأهم إلى قصرهم، فغلبَ على الزرعِ والنخل والأرض، فصالحُوه على أن يُجلوا منها، ولهم ما حملت ركابُهم ولِرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراءُ والبيضاءُ، واشترط عليهم أن لا يكتموا ولا يُغَيِّبُوا شيئاً، فإن فعلُوا فلا ذِمَّةَ لهم ولا عهد، فغيَّبوا مَسْكاً فيه مال وحُلى لحُيَىّ بن أَخْطَب، كان احتمله معه إلى خيبر حين أُجليت النضيرُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لِعم حُيى ابن أخطب: ( ما فَعَلَ مَسْكُ حُيَىّ الذي جَاءَ بِهِ مِنَ النَّضِير ) ؟. قال: أذهبته النفقاتُ والحروب، فقال: ( العَهْدُ قَريبٌ، والمَالُ أكْثَرُ مِنْ ذلِكَ )، فدفعه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى الزُّبير، فمسَّه بعذاب، وقد كان قبل ذلك دخل خربة فقال: ( قَدْ رأيْتُ حُيَيّاً، يَطُوفُ في خربة هاهنا )، فذهبوا، فطافوا، فوجدوا المَسْكَ في الخربة، فقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنى أبى الحُقيق، وأحدُهما زوج صفية بنت حُيَىّ بن أخطب، وسبى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم نساءهم وذراريهم، وقسم أموالَهم بالنَّكْثِ الذي نَكَثُوا، وأراد أن يُجليهم منها، فقالوا: يا محمد؛ دعنا نكُون في هذه الأرض نُصلِحُها ونقوم عليها، فنحن أعلم بها منكم، ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لأصحابه غلمان يقومون عليها، وكانوا لا يفرغُون يقومون عليها، فأعطاهم خيبر على أن لهم الشطرَ مِن كل زَرعٍ وكل ثمرٍ ما بدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرهم. وكان عبد الله بن رواحة يخرصُه عليهم كما تقدم. ولم يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الصلح إلا ابنى أبى الحُقيق للنكث الذي نكثوا، فإنهم شرطوا إن غيَّبوا، أو كتموا، فقد برئت منهم ذِمَّة الله وذِمَّة رسوله، فغيَّبوا، فقال لهم: ( أين المال الذي خرجتم به من المدينة حين أجليناكم ) ؟ قالوا:ذهب فحلفوا على ذلك ، فاعترف ابن عم كنانه عليهما بالمال حين دفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الزبير يعذبه ، فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانه إلى محمد بن مسلمة فقتله ويقال : إن كنانه هو كان قتل أخاه محمود بن مسلمه. وسبى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفيه بنت حيي بن أخطب وابتة عمتها ، وكانت صفية تحت كنانه لن أبى الحقيق ، وكانت عروساً حديثة عهد بالدخول ، فأمر بلالاً أن يذهب بها إلى رحله ، فمر بها بلال وسط القتلى ، فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال : أذهبت الرحمة منك يا بلال. وعرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، فأسلمت، فاصطفاها لنفسه، وأعتقها، وجعل عِتْقَهَا صَدَاقها، وبنى بها في الطريق، وأولم عليها، ورأى بوجهها خُضرةً، فقال: ( ما هذا ) ؟ قالت: يا رسولَ اللهِ؛ رأيتُ قبل قدومك علينا، كأن القَمرَ زال من مكانه، فسقط في حَجرى، ولا واللهِ ما أذكرُ مِن شأنك شيئاً، فقصصتها على زوجى، فلطم وجهى، وقال: تمنين هذَا المَلِكَ الذي بالمدينة. وشك الصحابة: هل اتخذها سُرِّيَّة أو زوجة ؟ فقالوا: انظروا إن حجبها، فهى إحدى نِسائه، وإلا فهى مما ملكتْ يمينُه، فلما رَكِب، جعل ثَوبه الذي ارتدى به على ظهرها ووجهها، ثم شدَّ طرفه تحته، فتأخَّرُوا عنه في المسير، وعَلِمُوا أنها إحدى نسائه، ولما قدم لِيحملها على الرَحْل أجلَّته أن تضع قدمها على فخذه، فوضعت ركبتها على فخذه ثم ركبت. ولما بنى بها، بات أبو أيوب ليلَته قائماً قريباً من قُبته، آخذاً بقائم السيف حتى أصبح، فلما رأى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، كبَّرَ أبو أيوب حين رآه قد خرج، فسأله رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ( مالك يا أبا أيوب ) ؟ فقال له: أَرِقْتُ ليلتى هذِهِ يا رسولَ اللهِ لما دخلتَ بهذه المرأة، ذكرتُ أنك قتلتَ أباها وأخاها، وزوجَها وعامةَ عشيرتها، فخِفْتُ أن تغتالك. فضحِكَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقال له معروفاً. وقسم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خيبرَ على ستة وثلاثين سهماً، جمع كُلُّ سهم مائةَ سهمٍ، فكانت ثلاثةَ آلافٍ وستَّمائة سَهْمٍ، فكان لِرسولِ الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين النصفُ مِن ذلك، وهو ألف وثمانمائة سهم، لرسول الله صلى الله عليه وسلم سهمٌ كسهمِ أحدِ المسلمين، وعَزَلَ النِّصفَ الآخر، وهو ألف وثمانمائة سهمٍ لنوائبه وما ينزلُ به من أُمور المسلمين، قال البيهقى: وهذا لأن خيبر فُتحَ شَطْرُهَا عَنْوَةً، وشطرُها صُلحاً، فقسم ما فتح عَنوةً بين أهلِ الخمس والغانمين، وعزل ما فتح صلحاً لِنوائبه وما يحتاجُ إليه من أُمور المسلمين. قلت: وهذا بناء منه على أصل الشافعى رحمه الله، أنه يجب قسم الأرض المفتتحةِ عَنوة كما تُقسم سائرُ المغانم، فلما لم يجده قسم النصفَ مِن خيبر، قال: إنه فُتِح صلحاً. ومَن تأمّل السيرَ والمغازي حقَّ التأمل، تبيَّن له أن خيبر إنما فُتحت عَنوة، وأن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم استولى على أرضها كُلِّهَا بالسيفِ عَنوة، ولو فُتِح شئ منها صُلحاً، لَم يُجلهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم منها، فإنه لما عزم على إخراجهم منها، قالوا: نحن أعلمُ بالأرض منكم، دعونا نكون فيها، ونعمرها لكم بشرط ما يخرج منها، وهذا صريح جدا في أنها إنما فتحت عنوة، وقد حصل بين اليهود والمسلمين بها من الحراب والمبارزة والقتل من الفريقين ما هو معلوم، ولكن لما أُلجئُوا إلى حصنهم نزلوا على الصلح الذي بذلوه، أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء، والحَلْقَةَ والسلاح، ولهم رقابهم وذريتهم، ويجلوا من الأرض، فهذا كان الصلح، ولم يقع بينهم صلح أن شيئاً من أرض خيبر لليهود، ولا جرى ذلك البتة، ولو كان كذلك، لم يقل: نقركم ما شئنا، فكيف يقرهم في أرضهم ما شاء؟ ولم كان عمر أجلاهم كُلَّهم مِن الأرضِ، ولم يُصالحهم أيضاً على أن الأرضَ للمسلمين، وعليها خراجٌ يؤخذ منهم، هذا لم يقع، فإنه لم يضرب على خيبر خراجاً البتة. فالصوابُ الذي لا شكَّ فيه: أنها فُتِحت عَنوة، والإمام مُخيَّر في أرض العَنوة بين قَسْمها ووقفها، أو قَسْمِ بعضها ووقفِ البعض، وقد فعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الأنواع الثلاثة، فقسم قُريظة والنضير، ولم يَقْسِمْ مكة، وقسم شَطْرَ خيبر، وترك شطرها، وقد تقدَّم تقريرُ كون مكة فُتِحت عَنوة بما لا مدفع له. وإنما قُسِمَتْ على ألف وثمانمائة سهم، لأنها كانت طُعمة مِن الله لأهل الحُديبية مَن شهد منهم، ومَن غاب، وكانوا ألفاً وأربعمائة، وكان معهم مائتا فرس، لكل فرس سهمانِ، فَقُسِمَتْ على ألف وثمانمائة سهم، ولم يغب عن خيبرمن أهل الحُديبية إلا جابر بن عبد الله، فقسم له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كسهم مَنْ حضرها. وقسم للفارس ثلاثة أسهم، وللراجل سهماً، وكانوا ألفاً وأربعمائة وفيهم مائتا فارس، هذا هو الصحيحُ الذي لا ريبَ فيه. وروى عبد الله العمرى، عن نافع، عن ابن عمر، أنه أعطى الفارس سهمين والراجلَ سهماً. قال الشافعى رحمه الله: كأنه سمع نافعاً يقول: للفرس سهمين، وللراجل سهماً، فقال: للفارس، وليس يَشُكُّ أحد مِن أهل العلم في تقدُّم عُبيد الله بن عمر على أخيه في الحفظ، وقد أنبأنا الثقة من أصحابنا، عن إسحاق الأزرق الواسطى، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ضرب للفرس بسهمين، وللفارس بسهم. ثم روى من حديث أبى معاوية، عن عُبيد الله بن عُمر، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أسهم للفارس ثلاثة أسهم: سهم له، وسهمان لفرسه، وهو في ( الصحيحين )، وكذلك رواه الثورى، وأبو أسامة عن عُبيد الله. قال الشافعى رحمه الله: وروى مجمع بن جارية أن النَّبىَّ صلى الله عليه وسلم قسم سهام خيبر على ثمانية عشر سهماً، وكان الجيش ألفاً وخمسمائة، منهم ثلاثمائة فارس، فأعطى الفارسَ سهمين، والراجل سهماً. قال الشافعى رحمه الله: ومجمع بن يعقوب يعنى راوى هذا الحديث عن أبيه، عن عمه عبد الرحمن بن يزيد، عن عمه مجمع بن جارية شيخ لا يُعرف فأخذنا في ذلك بحديث عُبيد الله، ولم نر له مثله خبراً يُعارضه، ولا يجوز ردُّ خبر إلا بخبر مثله. قال البيهقى: والذي رواه مجمع بن يعقوب بإسناده في عدد الجيش وعدد الفرسان، قد خُولِفَ فيه، ففى رواية جابر، وأهل المغازي: أنّهم كانوا ألفاً وأربعمائة، وهم أهلُ الحُديبية، وفى رواية ابن عباس، وصالح بن كيسان، وبشير بن يسار، وأهلِ المغازي: أن الخيل كانت مائتى فرس، وكان لِلفرس سهمان، ولصاحبه سهم، ولكل راجل سهم. وقال أبو داود: حديثُ أبى معاوية أصحُّ، والعملُ عليه، وأرى الوهم في حديث مجمع أنه قال: ثلاثمائة فارس، وإنما كانوا مائتى فارس. وقد روى أبو داود أيضاً من حديث أبى عمرة، عن أبيه، قال: ( أتينا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أربعة نَفَرٍ، ومعنا فرس، فأعطى كل إنسان منا سهماً، وأعطى الفرس سهمين ). وهذا الحديث في إسناده عبد الرحمن بن عبد الله ابن عتبة بن عبد الله بن مسعود، وهو المسعودى، وفيه ضعف. وقد رُوى الحديثُ عنه على وجهٍ آخر، فقال: أتينا رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم ثلاثة نَفَرٍ، معَنَا فرس، فكان للفارس ثلاثة أسهم، ذكره أبو داود أيضاً. وفى هذه الغزوة، قدم عليه صلى الله عليه وسلم ابن عمه جعفرُ ابنُ أبى طالب وأصحابه، ومعهم الأشعريون: عبدُ الله بنُ قيس أبو موسى، وأصحابُه، وكان فيمن قَدِمَ معهم أسماءٍ بنت عميس. قال أبو موسى: بلغنا مَخْرَجُ النبى صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن، فخرجنا مُهاجرين أنا وأخوانِ لى:أنا أصغرُهما، أحدهُما أبو رُهْم، والآخر أبو بُردة، في بِضع وخمسين رجلاً من قومى، فركبنا سفينةً، فألقتنا سفينتُنا إلى النجاشىِّ بالحبشة، فوافَقْنَا جَعْفَرَ بنَ أبى طالب وأصحابَه عنده، فقال جعفر: إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بعثنا، وأَمَرَنَا بالإقامة، فأقيمُوا معنا، فأقمنا معه حتى قدمنا جميعاً، فَوَافَقْنَا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم حينَ افتَتَحَ خيبر، فأسهم لنا، وما قسم لأحدٍ غابَ عن فتح خيبر شيئاً إلا لمن شهد معه، إلا لأصحابِ سفينتنا مع جعفر وأصحابه، قسم لهم معهم، وكان ناس يقولون لنا: سبقناكم بالهِجرة، قال: ودَخَلَتْ أسماءُ بِنتُ عميس على حفصة، فدخل عليها عمر، فقال: مَنْ هذِهِ ؟ قالت: أسماءُ. فقال عُمَرُ: سبقناكم بالهجرة، نحن أحقُّ برسول الله صلى الله عليه وسلم مِنكم، فَغَضِبَتْ، وقالت: يا عُمَرُ؛ كلا واللهِ، لقد كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يُطعِمُ جائعكم، ويَعِظُ جاهِلَكُم، وكنا في أرض البُعداء البُغضاء، وذلك في اللهِ، وفى رسوله، وايمُ اللهِ، لا أطعَمُ طَعَاماً، ولا أشربُ شراباً حتى أذكر ما قلتَ لِرسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن كنا نُؤذى ونخاف، وسأذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيدُ على ذلك، فلما جاء النبىُّ صلى الله عليه وسلم قالت: يا رسول الله؛ إن عمر قال كذا وكذا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما قلتِ له ) ؟ قالت: قلت له كذا وكذا. فقال: ( لَيْسَ بِأَحَقَّ بى مِنْكُم، ولَهُ ولأَصْحابه هِجْرَةٌ وَاحِدَةٌ، ولَكُمْ أَنْتُمْ أَهْلَ السَّفِينَةِ هِجْرَتَان )، وكان أبو موسى وأصحابُ السفينة يأتون أسماء أرسالاً يسألونها عن هذا الحديث، ما مِن الدنيا شىء، هم به أفرحُ ولا أعظمُ في أنفسهم مما قال لهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ). ولما قَدِمَ جعفرٌ على النبىِّ صلى الله عليه وسلم، تلقاه وقبَّل جبهته، وقال: ( واللهِ ما أدرى بأَيِّهما أفْرَحُ، بِفَتْحِ خَيْبَر أَمْ بِقُدُومِ جَعْفَر ) ؟. وأما ما رُوى في هذه القِصة، أن جعفراً لما نظر إلى النبىِّ صلى الله عليه وسلم، حجَل يَعنى: مشى على رِجل واحدةٍ إعظاماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعله أشباهُ الدِّباب الرَّقَّاصُون أصلاً لهم في الرقص، فقال البيهقى وقد رواه مِن طريق الثورى عن أبى الزبير، عن جابر : وفى إسناده إلى الثورى مَن لا يُعرف. قلت: ولو صح، لم يكن في هذا حُجة على جواز التشبُّه بالدّباب، والتكسر والتخَنُّث في المشى المنافى لهَدْى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن هذا لعله كان من عادة الحبشة تعظيماً لِكبرائها، كضرب الجُوك عند الترك ونحو ذلك، فجرى جعفر على تلك العادة وفعلها مرة، ثم تركها لِسُّـنَّة الإسلام، فأين هذا من القفز والتكسر، والتثنى والتخنُّث.. وبالله التوفيق. قال موسى بن عقبة: كانت بنو فَزارة ممن قدم على أهلِ خيبر ليعينوهم، فراسلهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ألا يُعينوهم، وأن يخرجوا عنهم، ولكم من خيبر كذا وكذا، فأبَوْا عليه، فلما فتح اللهُ عليه خيبَر، أتاهُ مَن كان ثَمَّ من بنى فزارة، فقالوا: وعدك الذي وعدتنا، فقال: ( لكم ذو الرُّقيبة جبل من جبال خيبر ) فقالوا: إذاً نُقاتلك. فقال: ( مَوْعِدُكم كذا )، فلما سَمِعُوا ذلك مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرجوا هاربين. وقال الواقدى: قال أبو شُييم المزنى وكان قد أسلم فحسن إسلامه : لما نفرنا إلى أهلنا مع عيينة بن حصن، رجع بنا عُيينة، فلما كان دون خيبر، عرَّسنا من اللَّيل، ففزِعنا، فقال عُيينة: أبشروا، إنى أرى الليلة في النوم أننى أُعطيت ذا الرُّقيبة جبلاً بخيبر قد واللهِ أخذتُ برقبة محمد، فلما قدمنا خيبر، قدم عُيينة، فوجد رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قد فتح خيبر. فقال: يا محمد؛ أعطنى ما غنمتَ من حُلفائى، فإنى انصرفتُ عنك، وقد فرغنا لك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كَذَبْتَ ولكِنَّ الصِّيَاحَ الذي سَمِعْتَ نَفَّرَكَ إلى أهْلِكَ ). قال: أجزنى يا محمد ؟ قال: ( لك ذو الرقيبة ). قال: وما ذو الرقيبة ؟ قال: ( الجبلُ الذي رأيتَ في النوم أنك أخذته ). فانصرف عُيينة، فلما رجع إلى أهله، جاءه الحارث بن عوف، فقال: ألم أقل لك: إنك تُوضِع في غير شىء، واللهِ لَيَظْهَرَنَّ محمد على ما بين المشرق والمغرب، يهود كانوا يُخبروننا بهذا، أشَهد لسمِعْتُ أبا رافع سلام بن أبى الحُقيق يقول: إنَّا نحسُد محمداً على النبوة حيث خرجت من بنى هارون، وهو نبى مرسل، ويهود لا تُطاوعنى على هذا، ولنا منه ذبحان، واحد بيثرب وآخر بخيبر، قال الحارث: قلت لسلام: يملِكُ الأرض جميعاً ؟ قال: نعم والتوراةِ التي أنزلت على موسى، وما أُحِبُّ أن تعلم يهودَ بقولى فيه. وفى هذه الغزاةِ، سُمَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أهدت له زينبُ بنتُ الحارث اليهوديةُ امرأةُ سلام بن مِشْكَم شاةً مشويَّةً قد سمَّتها، وسألت: أىُّ اللَّحم أحبُّ إليه ؟ فقالوا: الذِّراعُ، فأكثرت من السُّمِّ في الذراع، فلما انتهش من ذِراعها، أخبره الذِّراعُ بأنه مسموم، فلفظ الأكلة، ثم قال: ( اجْمَعُوا لى مَنْ هاهنا من اليَهُودِ )، فجُمِعوا له، فقالَ لهم: ( إنِّى سَائِلُكُم عَن شَىءٍ، فَهَلْ أنتمْ صَادِقِىَّ فيه ) ؟ قالوا: نَعَمْ يا أبا القاسم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( مَنْ أَبُوكُم ) ؟ قالوا: أبونا فلان. قال: ( كَذَبْتُمْ، أبُوكُم فُلان ). قالوا: صدقتَ وبَررْتَ، قال: ( هَلْ أَنْتُمْ صَادِقىَّ عَنْ شىءٍ إنْ سَأَلْتُكُم عَنْهُ ) ؟ قالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذَبْنَاكَ، عرفتَ كذبنا كما عرفتَه في أبينا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( مَنْ أَهْلُ النَّار ) ؟ فقالوا: نكون فيها يسيراً، ثم تَخْلُفُوننا فيها. فقال لهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ( اخْسَؤوا فيها، فَواللهِ لاَ نَخْلُفُكُم فيها أَبَدَاً )، ثم قال: ( هَلْ أَنْتُم صَادِقِىَّ عَن شَىءٍ إن سأَلْتُكُم عَنْهُ ) ؟ قالوا: نعم. قال: ( أجَعَلْتُمْ في هذِهِ الشَّاةِ سُمّاً ) ؟ قالوا: نعم. قال: ( فَمَا حَمَلَكُم على ذلكَ ) ؟ قالوا: أردنا إن كنت كاذِباً نستريحُ منك، وإن كنت نبيَّاً لم يضرَّك ). وجئ بالمرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: أردتُ قتلَكَ. فقال: ( ما كان اللهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلَىَّ )، قالوا: ألا نقتُلها ؟ قال: ( لا )، وَلم يتعرض لها، ولم يُعاقبها، واحتجم على الكاهِلِ، وأمرَ مَن أكل منها فاحتجم، فمات بعضُهم، واختُلِف في قتل المرأة، فقال الزهرى: أسلمت فتركها، ذكره عبد الرزاق، عن معمر، عنه، ثم قال معمر: والناسُ تقول: قتلها النبىُّ صلى الله عليه وسلم. قال أبو داود: حدثنا وهب بن بقية، قال: حدثنا خالد، عن محمد بن عمرو، عن أبى سلمة: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أهدت له يهوديةٌ بخيبرَ شاةً مَصْلِيَّةً.... وذكر القصة، وقال: فمات بشرُ بن البراء بن مَعرور، فأرسل إلى اليهودية: ( ما حملكِ على الذي صنعتِ ) ؟ قال جابر: فأمر بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَقُتِلَتْ. قلت: كلاهما مرسل، ورواه حمَّاد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة متصلاً: ( أنه قتلها لما مات بشر بن البراء ). وقد وُفِّقَ بين الروايتين، بأنه لم يقتُلْها أولاً، فلما مات بشر، قتلها. وقد اختُلِف: هل أكل النبىُّ صلى الله عليه وسلم منها أو لم يأكل ؟ وأكثرُ الروايات، أنه أكل منها، وبقى بعد ذلك ثلاثَ سنين حتى قال في وجعه الذي مات فيه: ( مَا زِلْتُ أَجِدُ مِن الأُكْلَةِ التي أَكَلْتُ مِنَ الشَّاةِ يَوْمَ خَيْبَر، فهذَا أوانُ انْقِطَاع الأبْهَرِ منِّى ). قال الزهرى: فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم شهيداً. قال موسى بن عقبة وغيره: وكان بينَ قريش حين سمعوا بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبرَ تَرَاهُنٌ عظيم، وتبايع، فمنهم مَن يقول: يظهر محمدٌ وأصحابُه، ومنهم يقول: يظهر الحليفان ويهودُ خيبر، وكان الحجَّاج بن عِلاط السُّلمى قد أسلم وشَهِدَ فتح خيبر، وكانت تحتَهُ أُمُّ شيبة أختُ بنى عبد الدار بن قُصَىّ، وكان الحجاجُ مُكثِرَاً مِن المال، كانت له معادِن بأرضِ بنى سُليم، فلما ظهر النبىُّ صلى الله عليه وسلم على خيبر، قال الحجاج بن عِلاط: إن لى ذهباً عِند امرأتى، وإن تعلم هي وأهلُها بإسلامى، فلا مال لى، فَأْذَنْ لى، فلأسرع السَّيرَ وأسْبقِ الخبر، ولأخبِرَنَّ أخباراً إذا قدمت أدرأُ بها عن مالى ونفسى، فأَذِنَ له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَلما قَدِمَ مكة، قال لامرأته: أخفى علىَّ واجمعى ما كان لى عندكِ مِن مال، فإنى أريد أن أشترىَ مِن غنائم محمد وأصحابه، فإنهم قد استُبيحُوا، وأُصيبت أموالُهم، وإن محمدَاً قد أُسِرَ، وتفرَّق عنه أصحابُه، وإن اليهودَ قد أقسموا: لَتَبْعَثَنَّ به إلى مكة ثم لتقتُلَنَّه بقتلاهم بالمدينة، وفشا ذلك بمكة، واشتد على المسلمين، وبلغ منهم، وأظهر المشركون الفرحَ والسرورَ، فبلغ العباسَ عمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم زَجَلَةُ النَّاس وجَلَبَتُهم، وإظهارُهم السُّرور، فأراد أن يقوم ويخرج، فانخزل ظهرُه، فلم يقدر على القيام، فدعا ابناً له يقال له: ( قُثَمُ ). وكان يُشبه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فجعل العباس يرتَجِزُ، ويرفع صوته لئلا يشمتَ به أعداءُ الله: نَبِىُّ ربِّى ذى النِّـعَمْ ** برَغْــمِ أَنْفِ مَـنْ رَغـَمْ وحشر إلى باب داره رجالٌ كثيرون من المسلمين والمشركين، منهم المظهِرُ للفرح والسرور، ومنهم الشامِتُ المغرى، ومنهم مَنْ به مثلُ الموت من الحُزْن والبلاء، فلما سمع المسلمون رجزَ العباس وتجلُّدَه، طابت نفوسُهم، وظن المشركون أنه قد أتاه ما لم يأتهم، ثم أرسلَ العباسُ غلاماً له إلى الحجاج، وقال له: اخلُ به، وقل له: ويلَك ما جئتَ به، وما تقول، فالذى وعَد الله خيرٌ مما جئتَ به ؟ فلما كلَّمه الغلامُ قال له: اقرأ على أبى الفضل السلام، وقل له: فَلْيَخْلُ بى في بعض بيوته حتى آتيَه، فإن الخبرَ على ما يَسُرُّه، فلما بلغ العبدُ باب الدار، قال: أبشر يا أبا الفضل، فوثب العباسُ فرحاً كأنه لم يُصبه بلاءٌ قطُّ، حتى جاءه وقبَّل ما بين عينيه، فأخبره بقول الحجاج، فأعتقه، ثم قال: أخبرنى. قال: يقولُ لك الحجاج: أُخْلُ بِهِ في بعض بيوتِك حتى يأتيكَ ظهراً، فلما جاءه الحجاج، وخلا به، أخذ عليه لتكتمَنَّ خبرى، فوافقه عباس على ذلك، فقال له الحجاج: جئتُ وقد افتتح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خيبر، وغنم أموالهم، وجرت فيها سهامُ الله، وإنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قد اصطفى صفيَّةَ بِنت حُيَىّ لنفسه، وأعرسَ بها، ولكن جئتُ لمالى، أردت أن أجمعه وأذهب به، وإنى استأذنتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول، فَأَذِنَ لى أن أقول ما شئت، فأخْفِ علىَّ ثلاثاً، ثم اذكرْ ما شئت. قال: فجمعت له امرأتُه متاعه، ثم انشمر راجعاً، فلما كان بعدَ ثلاث، أتى العباسُ امرأة الحجاج، فقال: ما فعل زوجُكِ ؟ قالت: ذهب، وقالت: لاَ يَحْزُنْك اللهُ يا أبا الفضل، لقد شقَّ علينا الذي بلغك. فقال: أجل، لا يَحْزُنُنى الله، ولم يكن بحمد الله إلا ما أُحِبُّ، فتح اللهُ على رسوله خيبرَ، وجرت فيها سهامُ الله، واصطفى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صفيَّة لنفسه، فإن كان لكِ في زوجك حاجة، فالحقى به. قالت: أظنُّك واللهِ صادقاً. قال: فإنى واللهِ صادق، والأمرُ على ما أقول لك. قالت: فمن أخبرك بهذا ؟ قال: الذي أخبركِ بما أخبركِ، ثم ذهب حتَّى أتى مجالسَ قريش، فلما رأوه، قالوا: هذا واللهِ التجلُّدُ با أبا الفضل، ولا يصيبُك إلا خير. قال: أجل لم يُصبنى إلا خيرٌ، والحمد لله، أخبرنى الحجَّاج بكذا وكذا، وقد سألنى أن أكتُمَ عليه ثلاثاً لحاجة، فردَّ الله ما كان للمسلمين مِن كآبة وجَزَع على المشركين، وخرج المسلمون مِن مواضعهم حتى دخلوا على العباس، فأخبرهم الخبرَ، فأشرقت وجوهُ المسلمين. فمنها محاربةُ الكفار ومقاتلتُهم في الأشهر الحُرُم، فإن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رجع مِن الحُديبية في ذى الحِجَّة، فمكث بها أيَّاماً، ثم سار إلى خَيْبَرَ في المحرَّم، كذلك قال الزُّهرىُّ عن عُروة، عن مروان والمِسور بن مخرمة، وكذلك قال الواقدى: خرج في أول سنة سبع من الهِجرة، ولكن في الاستدلال بذلك نظر، فإن خُروجَه كان في أواخر المحرَّم لا في أوله، وفتحُها إنما كان في صَفَر، وأقوى من هذا الاستدلال بيعةُ النبى صلى الله عليه وسلم أصحابَه عند الشجرة بَيْعةَ الرضوان على القتال، وألا يَفِرُّوا، وكانت في ذى القَعْدَة، ولكن لا دليلَ في ذلك، لأنه إنما بايعهم على ذلك لما بلغه أنهم قد قتلوا عثمان وهم يُريدون قتاله، فحينئذ بايع الصحابة، ولا خلاف في جواز القتال في الشهر الحرام إذا بدأ العدو، إنما الخلاف أن يُقاتل فيه ابتداءً، فالجمهور: جوَّزوه، وقالوا: تحريمُ القِتَال فيه منسوخٌ، وهو مذهبُ الأئمة الأربعة، رحمهم الله. وذهب عطاء وغيرُه إلى أنه ثابتٌ غيرُ منسوخ، وكان عطاء يحلِفُ بالله: ما يَحِلُّ القِتَالُ في الشهر الحرام، ولا نسَخَ تحريمَه شىءٌ. وأقوى من هذين الاستدلالين الاستدلالُ بحصار النبى صلى الله عليه وسلم للطائف، فإنه خرج إليها في أواخِر شوَّال، فحاصرهم بضعاً وعشرين ليلة، فبعضُها كان في ذى القَعَدة، فإنه فتح مكة لِعَشرٍ بقينَ مِن رمضان، وأقام بها بعد الفتح تسع عشرةَ يقصُرُ الصلاة، فخرج إلى هَوازن وقد بقى من شوَّال عشرون يوماً، ففتح الله عليه هَوازِنَ، وقسم غنائمها، ثم ذهب منها إلى الطائف، فحاصرها بضعاً وعشرين ليلة، وهذا يقتضى أن بعضها في ذى القَعَدة بلا شك. وقد قيل: إنما حاصرهم بضع عشرة ليلة. قال ابنُ حزم: وهو الصحيح بلا شك، وهذا عجيب منه، فمن أين له هذا التصحيح والجزم به ؟ وفى (الصحيحين) عن أنس بن مالك في قصة الطائف، قال: (فحاصرناهُم أربعينَ يوماً، فاستعصوا وتمنعوا) وذكر الحديث فهذا الحصار وقع في ذي القَعدة بلا ريب، ومع هذا فلا دليل في القصة، لأن غزو الطائف كان مِن تمام غزوة هَوازن، وهم بدؤوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بالقتال، ولما انهزموا، دخل ملكُهم، وهو مالكُ بنُ عوف النَّضري مع ثقيف في حِصن الطائف محاربينَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان غزوُهُم مِن تمام الغزوة التي شرع فيها، والله أعلم. وقال اللّه تعالى في (سورة المائدة) وهي من آخر القرآن نزولاَ ، وليس فيها منسوخ : وقال في سورة البقرة : ومنها: قِسمة الغنائم، للفارس ثلاثة أسهم، وللراجل سهم، وقد تقدم تقريره. ومنها: أنه يجوز لآحادِ الجيش إذا وجد طعاماَ أن يأكلَه ولا يُخمسَه، كما أخذ عبد الله بن المغفل جِراب الشحْمِ الذي دُلي يومَ خيبر، واختص به بمحضر النبي صلى الله عليه وسلم. ومنها: أنه إذا لحق مددٌ بالجيش بعد تَقضّي الحرب، فلا سهمَ له إلا بإذن الجيش ورضاهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كلَم أصحابَه في أهل السفينة حينَ قَدِمُوا عليه بخيبر - جعفرٍ وأصحابه -أن يُسهِمَ لهم، فأسهم لهم. ومنها تحريمُ لحوم الحُمُرِ الإِنسية، صح عنه تحريمُها يومَ خيبر، وصح عنه تعليلُ التحريم بأنها رِجسٌ، وهذا مقدَّمٌ على قول من قال من الصحابة: إنما حرمها، لأنها كانت ظهرَ القوم وحَمُولَتهم، فلما قيل له: فنيَ الظهرُ وأكلت الحمر، حرمها، وعلى قول من قال: إنما حرمها، لأنها لم تُخمس، وعلى قول من قال: إنما حرمها لأنها كانت حول القرية، وكانت تأكُلُ العَذِرَةَ، وكل هذا في (الصحيح)، لكن قولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنها رِجْسٌ) مقدَّم على هذا كلَه، لأنه مِن ظن الراوي، وقولِه بخلاف التعليل بكونها رجساً. ولا تعارضُ بين هذا التحريم وبين قوله تعالى: ولم تُحرم المتعةُ يومَ خيبر، وإنما كان تحريمُها عامَ الفتحِ هذا هو الصوابُ، وقد ظنَّ طائفة مِن أهل العلم أنه حرمها يومَ خيبر، واحتجوا بما في (الصحيحين) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (أن رسولَ الله نَهى عن مُتعة النساء يومَ خيبر، وعَن أكل لحوم الحمر الإِنسية). وفي (الصحيحين) أيضاً: أن علياً رضي الله عنه، سمع ابن عباس يُلينُ في مُتعة النساء، فقال: مهلاً يا ابنَ عباس، فإن رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم (نهى عنها يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الإنسية)، وفي لفظ للبخاري عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن مُتعة النساء يومَ خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الإِنسية. ولما رأى هؤلاء أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أباحها عامَ الفتح، ثم حرَمها، قالوا: حُرمَت، ثُم أبيحت، ثم حُرِّمَت. قال الشافعي: لا أعلمُ شيئاَ حُرم، ثم أبيح، ثم حُرمَ إلا المتعة، قالُوا: نُسِخَتْ مرتين، وخالفهم في ذلك آخرون، وقالوا: لم تُحرم إلا عامَ الفتح، وقبل ذلك كانت مباحة. قالوا: وإنما جمع علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه بين الإخبار بتحريمها، وتحريمِ الحُمُر الأهلية، لأن ابن عباس كان يُبيحهما، فروى له علي تحرِيمَهما عن النبي صلى الله عليه وسلم رداً عليه، وكان تحريمُ الحُمُرِ يومَ خيبر بلا شك، وقد ذكر يومَ خيبر ظرفاً لتحريم الحُمُرِ، وأطلَقَ تحريمَ المتعة، ولمٌ يقيده بزمن، كما جاء ذلك في (مسند) الإمام أحمد بإسناد صحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (حرَّم لحومَ الحُمُرِ الأهلية يومَ خَيْبَر، وحرَّم مُتعة النساء) وفى لفظ: (حرَّم مُتعة النساء، وحرَّم لحومَ الحُمُر الأهلية يومَ خَيْبَر)، هكذا رواه سفيان بن عيينة مفصلاً مميزاً، فظن بعضُ الرواة أن يومَ خَيْبَر زمنٌ للتحريمين، فقيَّدهما به، ثم جاء بعضُهم، فاقتصر على أحد المحرَّمين وهو تحريمُ الحُمُر، وقيَّده بالظرف، فمن هاهنا نشأ الوهم. وقصة خَيْبَر لم يكن فيها الصحابةُ يتمتعون باليهوديات، ولا استأذنوا في ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، ولا نقلَه أحدٌ قطُّ في هذه الغزوة، ولا كان للمُتعة فيها ذِكرٌ البتة، لا فِعلاً ولا تحريماً، بخِلاف غزاة الفتح، فإن قصةَ المتعة كانت فيها فِعلاً وتحريماً مشهورة، وهذه الطريقة أصحُّ الطريقتين. وفيها طريقة ثالثة: وهى أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لم يُحرِّمها تحريماً عاماً البتة، بل حرَّمها عند الاستغناء عنها، وأباحها عند الحاجة إليها، وهذه كانت طريقةَ ابن عباس حتى كان يُفتى بها ويقولُ: هي كالميتةِ والدمّ ولحمِ الخنزير، تُباح عند الضرورة وخشيةِ العنت، فلم يفهم عنه أكثرُ الناسِ ذلك، وظنوا أنه أباحها إباحةً مطلقةً، وشبَّبوا في ذلك بالأشعار، فلما رأى ابنُ عباس ذلك، رجع إلى القول بالتحريم. ومنها: جوازُ المساقاة والمزارعة بجُزء مما يخرُج مِن الأرض مِن ثمر أو زرع، كما عامل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أهلَ خَيْبَر على ذلك، واستمر ذلك إلى حين وفاته لم يُنسخ البتة، واستمر عملُ خلفائه الراشدين عليه، وليس هذا من باب المؤاجرة في شىء، بل مِن باب المشاركة، وهو نظيرُ المضاربة سواء، فمَن أباح المضاربةَ، وحرَّم ذلك، فقد فرَّق بين متماثلين. ومنها: أنه دفع إليهم الأرضَ على أن يعملُوها مِن أموالهم، ولم يدفع إليهم البِذْرَ، ولا كان يَحمِلُ إليهم البِذرَ من المدينة قطعاً، فدل على أن هَدْيَه عدمُ اشتراط كونِ البِذر مِن ربِّ الأرض، وأنه يجوز أن يكون من العامل، وهذا كان هَدْىَ خلفائه الراشدينَ مِن بعده، وكما أنه هو المنقولُ، فهو الموافقُ للقياس، فإن الأرضَ بمنزلة رأس المال في القِراض، والبِذر يجرى مجرى سقى الماء، ولهذا يموتُ في الأرض، ولا يرجعُ إلى صاحبه، ولو كان بمنزلة رأس مال المضاربة لاشْتُرِطَ عودُه إلى صاحبه، وهذا يُفسِدُ المزارعة، فعُلِمَ أن القياسَ الصحيح هو الموافق لهَدْى رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين في ذلك.. والله أعلم. ومنها: خَرْصُ الثمار على رؤوس النخل وقِسمتها كذلك، وأن القسمة ليست بيعاً. ومنها: الاكتفاءُ بخارِصٍ واحد، وقاسِمٍ واحد. ومنها: جواز عقدِ المُهادنة عقداً جائزاً للإمام فسخُه متى شاء. ومنها: جوازُ تعليق عقد الصلح والأمان بالشرط، كما عَقَدَ لهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بشرط أن لا يُغيِّبوا ولا يَكْتُموا. ومنها: جوازُ تقريرِ أربابِ التُّهم بالعُقوبة، وأن ذلك من الشريعة العادلة لا مِن السياسة الظالمة. ومنها: الأخذُ في الأحكام بالقرائن والأمارات، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم لِكنانة: ( المَالُ كَثيرٌ، والعَهْدُ قَرِيبٌ )، فاستدل بهذا على كذبه في قوله: أذهبته الحروبُ والنفقة. ومنها: أن مَن كان القولُ قولَه إذا قامت قرينةٌ على كذبه، لم يُلتفت إلى قوله، ونُزِّلَ منزلة الخائن. ومنها: أن أهلَ الذِّمة إذا خالفوا شيئاً مما شُرِطَ عليهم، لم يبق لهم ذِمة، وحلَّت دِماؤهم وأموالهم، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد لهؤلاء الهُدنة، وشرط عليهم أن لا يُغيِّبوا ولا يَكتُموا، فإن فعلوا حلَّت دِماؤهم وأموالُهم، فلما لم يفُوا بالشرط، استباحَ دماءَهم وأموالَهم، وبهذا اقتدى أميرُ المؤمنين عمرُ بن الخطاب في الشروط التي اشترطها على أهل الذِّمة، فشرط عليهم أنهم متى خالفُوا شيئاً منها، فقد حلَّ له منهم ما يَحِلُّ مِن أهل الشِّقاق والعَداوة. ومنها: جوازُ نسخ الأمر قبل فِعله، فإن النبىَّ صلى الله عليه وسلم أمرهم بكسرِ القُدور، ثم نسخه عنهم بالأمر بِغَسْلِهَا. ومنها: أن ما لا يُؤكل لحمُه لا يَطْهُر بالذَّكاة لا جِلدهُ ولا لحمه، وأن ذبيحته بمنزلة موته، وأن الذكاة إنما تعمل في مأكول اللَّحم. ومنها: أن مَن أخذ مِن الغنيمة شيئاً قبل قسمتها لم يملكْه، وإن كان دونَ حقه، وأنه إنما يملِكُه بالقسمة، ولهذا قال في صاحب الشَّملة التي غلَّها: ( إنَّها تَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَاراً ). وقال لصاحب الشِّراك الذي غلَّه: ( شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ ). ومنها: أن الإمام مخيَّر في أرض العَنوة بين قِسمتها وتركها، وقَسْم بعضها، وتَرْكِ بعضها. ومنها: جواز التفاؤُل بل استحبابُه بما يراه أو يسمعه مما هو من أسباب ظهورِ الإسلام وإعلامه، كما تفاءل النبىُّ صلى الله عليه وسلم برؤية المَساحى والفؤوس والمكاتِل مع أهل خَيْبَر، فإن ذلك فألٌ في خرابها. ومنها: جواز إجلاء أهل الذِّمةِ من دار الإسلام إذا اسْتُغنِىَ عنهم، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم: ( نُقِرُّكُم مَا أَقَرَّكمُ اللهُ )، وقال لكبيرهم: ( كَيْفَ بكَ إذا رَقَصَتْ بِكَ رَاحِلَتُكَ نَحْوَ الشَّام يَوْماً ثُمَّ يَوْماً )، وأجلاهم عمرُ بعد موته صلى الله عليه وسلم، وهذا مذهبُ محمد بن جرير الطبرى، وهو قولٌ قوى يسوغُ العملُ به إذا رأى الإمامُ فيه المصلحةَ. ولا يُقال: أهل خَيْبَر لم تكن لهم ذِمة، بل كانُوا أهلَ هُدنة، فهذا كلام لا حاصِل تحته، فإنهم كانوا أهلَ ذِمة، قد أمِنوا بها على دمائهم وأموالهم أماناً مستمراً، نعم لم تكن الجزيةُ قد شُرِعَت، ونزل فرضُها، وكانوا أهلَ ذِمة بغير جزية، فلما نزل فرضُ الجزية، استُؤنِفَ ضربُها على مَن يُعقد له الذِّمة مِن أهل الكِتاب والمجوس، فلم يكن عدمُ أخذ الجزية منهم، لكونهم ليسوا أهلَ ذِمة، بل لأنها لم تكن نزل فرضُها بعد. وأما كونُ العقد غيرَ مؤبَّد، فذاك لمدة إقرارهم في أرض خَيْبَر، لا لمدة حقنِ دمائهم، ثم يستبيحها الإمامُ متى شاء، فلهذا قال: ( نُقِرُّكُمْ ما أقرَّكمُ اللهُ أَوْ مَا شَئْنَا)، ولم يقل: نحقِنُ دماءكم ما شئنا، وهكذا كان عقدُ الذمة لقُريظة والنَّضير عقداً مشروطاً، بأن لا يُحاربوه، ولا يُظاهِرُوا عليه، ومتى فعلوا، فلا ذِمة لهم، وكانوا أهلَ ذِمة بلا جزية، إذ لم يكن نزلَ فرضُها إذ ذاك، واستباحَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سَبْىَ نسائهم وذرارِيهم، وجعل نقضَ العهد سارياً في حق النِّساء والذُرِّية، وجعل حُكم الساكت والمقر حُكمَ الناقِضِ والمحارب، وهذا موجبُ هَدْيه صلى الله عليه وسلم في أهل الذِّمة بعد الجزية أيضاً، أن يسرىَ نقضُ العهد في ذُرِّيتهم ونسائهم، ولكن هذا إذا كان الناقِضُون طائفةً لهم شَوْكة ومَنَعة، أما إذا كان الناقض واحداً مِن طائفة لم يُوافقه بقيتهم، فهذا لا يسرى النقضُ إلى زوجته وأولاده، كما أن مَن أهدر النبىُّ صلى الله عليه وسلم دماءهم ممن كان يسبُّه، لَمْ يَسْبِ نساءَهم وذُرِّيتهم، فهذا هَدْيُه في هذا، وهو الذي لا محيدَ عنه.. وبالله التوفيق. ومنها: جوازُ عِتق الرجل أَمَتَه، وجعل عِتقها صَداقاً لها، ويجعلها زوجتَه بغير إذنها، ولا شهودٍ، ولا ولى غيره، ولا لفظِ إنكاح ولا تزويجٍ، كما فعل صلى الله عليه وسلم بصفيَّة، ولم يقل قطّ: هذا خاصٌ بى، ولا أشار إلى ذلك، مع علمه باقتداء أُمَّته به، ولم يقُلْ أحد من الصحابه: إن هذا لا يصْلُح لغيره، بل رَوَوُا القِصة ونقلُوها إلى الأُمَّة، ولم يمنعوهم، ولا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من الاقتداء به في ذلك، والله سبحانه لـمَّا خصَّه في النكاح بالموهوبة قال: والقياس الصحيحُ: يقتضى جوازَ ذلك، فإنه يملِكُ رقبتَها، ومنفعة وطئها، وخدمتها، فله أن يُسقِطَ حقَّه مِن مِلك الرقبة، ويستبقى مِلك المنفعةِ، أو نوعاً منها، كما لو أعتق عبدَه، وشرط عليه أن يخدِمَه ما عاش، فإذا أخرج المالك رقبةَ ملكه، واستثنى نوعاً مِن منفعته، لم يُمنع من ذلِكَ في عقد البيع، فكيف يُمنع منه في عقد النكاح، ولما كانت منفعةُ البُضع، لا تُستباح إلا بعقدِ نكاح أو مِلك يمين، وكان إعتاقُها يُزِيلُ ملكَ اليمين عنها، كان مِن ضرورة استباحة هذه المنفعة، جعلُها زوجة، وسيدها كان يلى نكاحها، وبيعها ممن شاء بغير رضاها، فاستثنى لنفسه ما كان يَملِكُه منها، ولما كان مِن ضرورته عقدُ النكاح ملكه، لأن بقاء ملكه المستثنى لا يَتِمُّ إلا به، فهذا محضُ القياس الصحيح الموافق للسُّـنَّة الصحيحة.. والله أعلم. ومنها: جوازُ كذب الإنسانِ على نفسه وعلى غيره، إذا لم يتضمَّن ضرَر ذلك الغير إذا كان يُتوصل بالكذب إلى حقه، كما كذب الحجَّاحُ بن عِلاط على المسلمين، حتى أخذَ مالَه مِن مكة مِن غير مضرَّة لحقت المسلمين من ذلك الكذب، وأما ما نال مَن بمكة من المسلمين من الأذى والحزن، فمفسدةٌ يسيرة في جنب المصلحة التي حصلت بالكذب، ولا سيما تكميلَ الفرح والسرور، وزيادةَ الإيمان الذي حصل بالخبرِ الصَّادِق بعد هذا الكذب، فكان الكذبُ سبباً في حصول هذه المصلحة الراجحة، ونظيرُ هذا الإمامُ والحاكمُ يوهِمُ الخصمَ خلافَ الحق لِيتوصل بذلك إلى استعلام الحقِّ، كما أوهم سليمانُ بن داود إحدى المرأتين بِشَقِّ الولد نِصفين حتى توصَّل بذلك إلى معرفة عَيْن الأُم. ومنها: جوازُ بناء الرجل بامرأته في السفر، وركوبها معه على دابة بين الجيش. ومنها: أن مَنْ قتل غيره بسُمٍّ يَقْتُلُ مثله، قُتِلَ بِهِ قِصاصاً، كما قُتِلَتِ اليهوديةُ ببشر بن البراء. ومنها: جوازُ الأكل من ذبائح أهل الكتاب، وحِلُّ طعامهم. ومنها: قبولُ هديةِ الكافر. فإن قيل: فلعل المرأةَ قُتِلَتْ لنقض العهد لِحرابها بالسُّمِّ لا قِصاصاً، قيل: لو كان قتلُها لنقض العهد، لقُتِلَت من حين أقرَّت أنها سمَّت الشاة، ولم يتوقف قتلُها على موت الآكل منها. فإن قيل: فهلاَّ قُتِلَتْ بنقضِ العهد ؟ قيل: هذا حُجَّةُ مَن قال: إن الإمام مخيَّر في ناقض العهد، كالأسير. فإن قيل: فأنتم تُوجبون قتله حتماً كما هو منصوص أحمد، وإنما القاضى أبو يعلى ومَن تبعه قالوا: يُخيَّر الإمامُ فيه، قيل: إن كانت قِصةُ الشاة قبلَ الصُّلح، فلا حُجَّةَ فيها، وإن كانت بعدَ الصلح، فقد اختُلِفَ في نقضِ العهد بقتل المسلم على قولين، فمَن لم ير النقضَ به، فظاهر، ومَن رأى النقضَ به، فهل يتحتمُ قتلُهُ، أو يُخيَّر فيه، أو يفصِلُ بينَ بعض الأسباب الناقضة وبعضها، فيتحتم قتلُه بسبب السبب، ويُخيَّر فيه إذا نقضه بحرابه، ولحوقه بدار الحرب، وإن نقضه بسواهما كالقتل، والزنى بالمسلمة، والتجسُّس على المسلمين، وإطلاع العدو على عَوْراتهم ؟ فالمنصوصُ: تَعيُّنُ القتل، وعلى هذا فهذه المرأةُ لما سمَّتِ الشاةَ، صارت بذلك محاربة، وكان قتلُها مُخيَّراً فيه، فلما مات بعضُ المسلمين من السُّم، قُتِلَتْ حتماً إما قِصاصاً، وإما لنقض العهد بقتلها المسلم، فهذا محتمل.. والله أعلم. واختُلِف في فتح خَيْبَر: هل كان عَنوة، أو كان بعضُها صلحاً، وبعضُها عَنوة ؟ فروى أبو داود من حديث أنس: ( أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم غزا خَيْبَرَ، فأصبناها عَنوة فَجُمِعَ السَّبى ). وقال ابنُ إسحاق: سألتُ ابنَ شهاب، فأخبرنى أن رسولَ الله صلى الله عليه سلم افتتح خَيْبَرَ عَنوَةً بعد القتال. وذكر أبو داود، عن ابن شهاب: ( بلغنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح خَيْبَرَ عَنوةً بعد القتالِ، ونزل مَن نزل من أهلها على الجلاء بعد القتال ). قال ابنُ عبد البر: هذا هو الصحيح في أرض خَيْبَر، أنها كانت عَنوة كلّها مغلوباً عليها، بخلافِ فَدَك، فإنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قسم جميعَ أرضِها على الغانمين لها، المُوجِفين عليها بالخيلِ والرِّكاب، وهم أهلُ الحُديبية، ولم يختلفِ العلماءُ أن أرض خَيْبَرَ مقسومة، وإنما اختلفوا: هل تُقسم الأرض إذا غُنِمَتِ البلادُ أو توقَف ؟ فقال الكوفيون: الإمام مخيَّرٌ بين قِسمتها كما فعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بأرضِ خَيْبَر، وبين إيقافها كما فعل عُمَرُ بسوادِ العراق. وقال الشافعى: تُقسم الأرض كُلُّهَا كما قَسَمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ، لأن الأرضَ غنيمةٌ كسائر أموال الكفار. وذهب مالك إلى إيقافها اتباعاً لعمر، لأن الأرض مخصوصة من سائر الغنيمة بما فعل عمر في جماعة من الصحابة من إيقافها لمن يأتى بعده من المسلمين، وروى مالك، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: سمعتُ عمر يقول: ( لَوْلاَ أنْ يُتْرَكَ آخِرُ النَّاسِ لا شَىء لَهُمْ ما افْتَتَحَ المُسْلِمُونَ قَرْيَةً إلاَّ قَسَمْتُها سُهْمَاناً كَمَا قَسَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ سُهْمَاناً ). وهذا يدل على أن أرضَ خَيْبَر قُسِمَتْ كُلُّهَا سُهماناً كما قال ابنُ إسحاق. وأما مَن قال: إن خَيْبَر كان بعضُها صلحاً، وبعضُها عَنوة، فقد وهم وغَلِطَ، وإنما دخلت عليهم الشبهةُ بالحِصنين اللَّذينِ أسلمهما أهلُهُما في حقن دمائهم، فلما لم يكن أهلُ ذينك الحِصنين مِن الرجال والنساء والذُرِّية مغنومين، ظن أن ذلك لصلح، ولعمرى إن ذلك في الرجال والنساء والذُرِّية، كضربٍ من الصلحِ، ولكنهم لم يتركوا أرضَهم إلا بالحصار والقتالِ، فكان حكمُ أرضهما حكمَ سائر أرضِ خَيْبَر كلِّها عَنوة غنيمةً مقسومةً بين أهلها. وربما شُـبِّهَ على مَن قال: إن نصفَ خَيْبَر صُلحٌ، ونصفها عَنوة، بحديث يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار: ( أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قسم خَيْبَرَ نِصفين: نصفاً له، ونِصفاً لِلمسلمين ). قال أبو عمر: ولو صح هذا، لكان معناه أنَّ النِّصْفَ له مع سائر مَن وقع في ذلك النصف معه، لأنها قُسمت على ستة وثلاثين سهماً، فوقع السهمُ للنبى صلى الله عله وسلم وطائفة معه في ثمانية عشر سهماً، ووقع سائرُ الناس في باقيها، وكُلُّهُم ممن شهد الحُديبية ثم خَيْبَرَ، وليست الحصونُ التي أسلمها أهلُها بعد الحصار والقتال صُلحاً، ولو كانت صُلحاً لملكها أهلُها كما يملك أهلُ الصُّلْحِ أرضَهم وسائر أموالهم، فالحق في هذا ما قاله ابن إسحاق دون ما قاله موسى بن عقبة وغيره عن ابن شهاب، هذا آخر كلام أبى عمر. قلت: ذكر مالك، عن ابن شهاب، أن خَيْبَرَ كان بعضُها عَنوة، وبعضُها صلحاً، والكُتيبة أكثُرها عَنوةً، وفيها صلح، قال مالك: والكُتيبة أرضُ خَيْبَرَ، وهو أربعون ألف عَذق. وقال مالك: عن الزهري، عن ابن المسيب: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح بعض خيبر عنوة). ثم انصرف رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن خَيْبَر إلى وادى القُرَى، وكان بها جماعةٌ من اليهود، وقد انضاف إليهم جماعةٌ من العرب، فلما نزلوا استقبلهم يهودُ بالرمى، وهم على غير تعبئةٍ، فقُتِلَ مِدْعَمٌ عبدُ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال الـنَّاس: هنيئاً له الجنَّةُ، فقال النبىُ صلى الله عليه وسلم: ( كَلاَّ والذي نَفْسِى بِيَدِهِ، إنَّ الشَّمْلَةَ التي أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ المَغَانِم، لَمْ تُصِبْهَا المَقَاسِمُ لتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَاراً )، فلما سمع بذلك الناس، جاء رجل إلى النبى صلى الله عليه وسلم بِشِرَاكٍ أو شِرَاكين، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: ( شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ أوْ شراكان مِنْ نارٍ ). فعبَّأ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصحابه لِلقتال، وصفَّهم، ودفع لواءه إلى سعدِ بْنِ عُبادة، ورايةً إلى الحُباب بن المنذر، ورايةً إلى سَهل بن حُنيف، وراية إلى عبَّاد بن بشر، ثم دعاهم إلى الإسلام، وأخبرهم أنهم إن أسلموا، أحرزوا أموالهم، وحقنوا دماءَهم وحسابهم على الله، فبرز رجل منهم، فبرز إليه الزبيرُ بن العوَّام، فقتله، ثم برز آخرُ، فقتله، ثم برز آخر، فبرز إليه علىُّ بن أبى طالب رضى الله عنه فقتله، حتى قُتِلَ منهم أحد عشرَ رجلاً، كلما قُتِلَ منهم رجلٌ، دعا مَن بقى إلى الإسلامِ، وكانت الصلاة تحضُر ذلك اليومَ، فيُصلِّى بأصحابه، ثم يعودُ فيدعوهم إلى الإسلام وإلى الله ورسوله، فقاتلهم حتى أَمْسوا، وغدا عليهم، فلم ترتفع الشمس قيد رمح حتى أعطَوْا ما بأيديهم، وفتحها عَنوة، وغنمه اللهُ أموالهم، وأصابُوا أثاثاً ومتاعاً كثيراً، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادى القُرَى أربعةَ أيًَّام، وقسم ما أصابَ على أصحابه بوادى القُرَى، وترك الأرضَ والنخل بأيدى اليهود، وعامَلهم عليها، فلما بلغ يهودَ تيماءَ ما واطأ عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أهلَ خَيْبَر وفَدَك ووادى القُرَى، صالحوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وأقاموا بأموالهم، فلما كانَ زمنُ عمرَ بن الخطاب رضى الله عنه، أخرج يهود خَيْبَر وفَدَك، ولم يُخرج أهلَ تيماء ووادى القُرَى، لأنهما داخلتان في أرض الشام، ويرى أن ما دون وادى القُرَى إلى المدينة حِجاز، وأن ما وراء ذلك مِن الشام وانصرف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم راجعاً إلى المدينة. فلما كانَ ببعضِ الطريق، سار ليله حتَّى إذا كان ببعض الطريق أدركهم الكَرى، عرَّس، وقال لبلال: ( اكلأ لَنا اللَّيْلَ ) [ فصلَّى بلالٌ ما قُدِّر له، ونام رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه فلما تقاربَ الفجرُ استند بلال إلى راحِلته مُواجه الفجر ]، فغلبت بلالاً عيناه، وهو مستند إلى راحلته، فلم يستيقظ النبىُّ صلى الله عليه وسلم ولا بلالٌ، ولا أحدٌ من أصحابه حتى ضربتهم الشمسُ، فكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أوَّلَهُم استيقاظاً، فَفَزِعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ( أىْ بلالُ ) ؟ فقال: أخذَ بنفسى الذي أَخَذَ بِنَفْسِكَ، بأبى أنتَ وأُمِّى يا رسولَ اللهِ. فاقتادوا رواحلهم شيئاً حتى خرجُوا مِن ذلك الوادى، ثم قال: ( هذا وادٍ به شَيْطَانٌ )، فلما جاوزه، أمرهم أن ينزِلُوا وأن يتوضؤوا، ثم صلَّى سُـنَّة الفجر، ثم أمر بلالاً، فأقام الصلاة، وصلَّى بالناس، ثم انصرف إليهم وقد رأى من فزعهم وقال: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ؛ إنَّ اللهَ قَبضَ أَرْوَاحَنا، ولَوْ شَاءَ لَرَدَّهَا إلَيْنَا في حِين غَيْرِ هذا، فإذا رَقَدَ أَحَدُكُم عَنِ الصَّلاةِ أَوْ نَسِيَهَا، ثُمَّ فَزِعَ إليها فَلْيُصَلِّهـا كمَا كانَ يُصَلِّيهَا في وَقْتِهَا )، ثم التفتَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى أبى بكر فقال: ( إنَّ الشَّيْطَانَ أتى بِلالاً، وهُوَ قائِمٌ يُصَلِّى فَأضْجَعَه فَلَمْ يَزَلْ يُهدِّئه كَمَا يُهَدَّأُ الصَّبىُّ حَتَّى نام )، ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً، فأخبره بمثل ما أخبر به أبا بكر.وقد رُوى أن هذه القصة كانت في مرجعهم مِن الحدَيبية ، ورُوى أنها كانت في مرجعهم مِن غزوة تبوك ، وقد روى قِصَّة النومِ عن صلاةِ الصبح عِمرانُ بن حُصين ، ولم يُوقِّت مدتَها ، ولا ذكر في أى غزوة كانت ، وكذلك رواها أبو قتادة كلاهما في قصة طويلة محفوظة . وروى مالك ، عن زيد بن أسلم : أن ذلك كان بطريق مكة ، وهذا مرسل . وقد روى شعبة ، عن جامع بن شداد ، قال : سمعتُ عبد الرحمن بن أبى علقمة ، قال: سمعت عبد الله بن مسعود ، قال : أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحُديبية ، فقال النبى صلى الله عليه وسلم : (مَنْ يَكْلَؤنا) ؟ . فقال بلال : أنا ... فذكر القصة . لكن قد اضطربت الرواةُ في هذه القصة ، فقال عبد الرحمن بن مهدى عن شعبة ، عن جامع : إن الحارس فيها كان ابنَ مسعود ، وقال غُنْدَرٌ عنه : إن الحارس كان بلالاً ، واضطربت الرواية في تاريخها ، فقال المعتمِرُ بنُ سليمان : عن شعبة عنه : إنها كانت في غزوة تبوك ، وقال غيرُه عنه : إنها كانت في مرجعهم من الحُديبية ، فدل على وهمٍ وقع فيها ، ورواية الزهرى عن سعيد سالمة مِن ذلك .. وبالله التوفيق. فيها : أن من نام عن صلاة أو نسيها ، فوقتُها حينَ يستيقظ أو يذكرُها . وفيها : أن السنن الرواتبَ تُقضَى ، كما تُقضَى الفرائض ، وقد قضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سُنَّةَ الفجر معها ، وقضى سُنَّةَ الظهر وحدها ، وكان هَديُه صلى الله عليه وسلم قضاءَ السنن الرواتب مع الفرائض . وفيها : أن الفائتة يُؤذَّن لها ويُقام ، فإن في بعض طرق هذه القصة ، أنه أمر بلالاً ، فنادى بالصلاة ، وفى بعضها : فأمر بلالاً ، فأذَّن وأقام ذكره أبو داود. وفيها : قضاء الفائتة جماعة . وفيها : قضاؤها على الفور لقوله : (فليُصلِّها إذا ذكرها) ، وإنما أخَّرها عن مكان مُعرَّسِهم قليلاً ، لكونه مكاناً فيه شيطان ، فارتحل منه إلى مكان خيرٍ منه ، وذلك لا يفُوِّت المبادرة إلى القضاء ، فإنهم في شغل الصلاة وشأنها . وفيها : تنبيه على اجتناب الصلاة في أمكنة الشيطان . كالحمَّام ، والحُشِّ بطريق الأَوْلى، فإن هذه منازِلُه التي يأوى إليها ويسكُنها ، فإذا كان النبىُّ صلى الله عليه وسلم ، ترك المبادرةَ إلى الصلاة في ذلك الوادى ، وقال : (إن به شيطاناً) ، فما الظن بمأوى الشيطان وبيته . ولما رجع رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، ردَّ المهاجرون إلى الأنصار منائِحَهم التي كانوا منحُوهم إياها مِن النخيل حين صار لهم بخَيْبَر مالٌ ونخيلٌ ، فكانت أُمُّ سُليم وهى أُم أنس بن مالك أعطت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عِذَاقاً ، فأعطاهن أُمَّ أيمن مولاته ، وهى أُم أُسامة بن زيد ، فردَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على أُم سُليم عِذاقها ، وأعطى أُم أيمن مكانهن من حائطه مكانَ كل عَذق عشرة . وأقام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في المدينة بعد مقدَمه مِن خَيْبَر إلى شوَّال ، وبعث في خلال ذلك السرايا . فمنها : سريةُ أبى بكر الصِّدِّيق رضى الله عنه إلى نجدٍ قِبَلَ بنى فَزارة ، ومعه سلمةُ بنُ الأكوع ، فوقع في سهمه جاريةٌ حسناء ، فاستوهبها مِنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، وفادى بها أسرى من المسلمين كانوا بمكة . ومنها : سريةُ عمر بن الخطاب رضى الله عنه في ثلاثين راكباً نحو هوازن ، فجاءهم الخبر ، فهربوا وجاؤوا محالهم ، فلم يَلْقَ منهم أحداً ، فانصرف راجعاً إلى المدينة ، فقال له الدليل : هل لك في جمعٍ من خَثْعَم جاؤوا سائرين ، وقد أجدبت بلادُهم ؟ فقال عمر : لم يأمرنى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بهم ، ولم يَعْرِضْ لهم . ومنها : سرية عبد الله بن رواحة في ثلاثين راكباً ، فيهم عبد الله بن أنيس إلى يسير بن رِزَام اليهودى ، فإنه بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يجمع غَطفان لِيغزوه بهم ، فأتوه بخَيْبَر فقالوا : أرسلنا إليك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ليستعملك على خَيْبَر ، فلم يزالوا حتى تَبِعَهم في ثلاثين رجلاً مع كُلِّ رجل منهم رديفٌ من المسلمين ، فلما بلغوا قَرقرة نِيار وهى من خَيْبَر على ستة أميال ندم يسير ، فأهوى بيده إلى سيف عبد الله بن أنيس ، ففطن له عبد الله بن أنيس ، فزجر بعيره ، ثم اقتحم عن البعير يسوقُ القوم حتى إذا استمكن مِن يسير ، ضرب رجله فقطعها ، واقتحم يسير وفى يده مِخرشَ من شوحط ، فضرب به وجه عبد الله فشجَّه مأمومَة ، فانكفأ كُلُّ رجل من المسلمين على رديفه ، فقتله غيرَ رجل مِن اليهود أعجزهم شداً ، ولم يُصَبْ مِن المسلمين أحدٌ ، وقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبصق في شجَّة عبد الله بن أنيس ، فلم تَقِحْ ، ولم تُؤذه حتى مات . ومنها : سريةُ بشير بن سعد الأنصارى إلى بنى مُرَّة بفدك في ثلاثين رجلاً ، فخرج إليهم ، فلقى رِعاء الشاء ، فاستاق الشاءَ والنَّعم ، ورجع إلى المدينة ، فأدركه الطلبُ عند الليل ، فباتُوا يرمونهم بالنَبْلِ حتى فنى نَبْلُ بشير وأصحابه ، فولَّى منهم مَنْ ولَّى ، وأُصيب منهم مَنْ أُصيب ، وقاتل بشير قتالاً شديداً ، ورجع القومُ بنَعمهم وشائهم ، وتحامل بشيرٌ حتى انتهى إلى فدك ، فأقام عند يهود حتى برئت جِراحه ، فرجع إلى المدينة ثم بعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى الحُرَقَةِ من جُهينة ، وفيهم أسامةُ بن زيد ، فلما دنا منهم ، بعث الأميرُ الطلائع ، فلما رجعوا بخبرهم ، أقبل حتى إذا دنا منهم ليلاً ، وقد احتلبوا وهدؤوا، قام فحمدَ الله ، وأثنى عليه بما هو أهلُه ، ثم قال : أوصيكم بتقوى الله وحدَه لا شريكَ له ، وأن تُطيعونى ، ولا تعصونى ، ولا تُخالفوا أمرى ، فإنه لا رأى لمن لا يُطاع ، ثم رتبهم وقال : يا فلان ، أنت وفلان ، ويا فلان أنت وفلان ، لا يُفارِقْ كلٌ منكما صاحِبَه وزميله ، وإياكم أن يَرْجع أحد منكم ، فأقول : أين صاحبك ؟ فيقول : لا أدرى ، فإذا كبَّرتُ ، فكبِّروا ، وجرَّدوا السيوف ، ثم كَبَّروا ، وحملوا حملة واحدة ، وأحاطُوا بالقوم ، وأخذتهم سيوفُ الله ، فهم يضعونها منهم حيث شاؤوا ، وشعارهم : أَمِتْ أمِتْ ، وخرج أُسامة في أثر رجل منهم يقال له مِرداسُ بن نَهِيك ، فلما دنا منه ، وَلَحَمَهُ بالسيف ، قال : لا إله إلا الله ، فقتله ، ثم استاقوا الشَّاءَ والنَّعم والذُّرِّيَّة ، وكانت سُهمانُهم عشرة أبعرة لكل رجُل أو عِدْلَها من النَّعم ، فلما قَدِمُوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أُخبر بما صنع أُسامة ، فكَبُر ذلك عليه ، وقال : (أقتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ؟) فَقَالَ : إنَّمَا قالها متعوِّذاً ، قال : (فَهَلاَّ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِه) ثم قال : (مَنْ لَكَ بلا إله إلاَّ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ) ، فما زال يُكرر ذلك عليه حتى تمنَّى أن يكون أسلمَ يومئذ وقال : يا رسولَ الله ؛ أُعطى الله عهداَ ألا أقتُل رجلاَ يقول : لا إله إلا الله ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : (بعدى) فقال أُسامة : بعدك . وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم غالب بن عبد الله الكَلبى إلى بنى المُلَوَّح بالكَدِيد، وأمره أن يُغير عليهم. قال ابن إسحاق: فحدَّثنى يعقوبُ بن عتبة، عن مسلم بن عبد الله الجهنى، عن جندب بن مَكيث الجُهنى، قال: كنتُ في سريته، فمضينا حتى إذا كنا بِقَدِيد لَقِينَا به الحارث بن مالك بن البَرْصَاء الليثى، فأخذناه، فقال: إنما جئتُ لأسلم، فقال له غالب بن عبد الله: إن كنتَ إنما جئتَ لِتسلم، فلا يضرُّك رِباطُ يوم وليلة، وإن كنتَ على غير ذلك، استوثقنا مِنك، فأوثقه رِباطاً وخلَّف عليه رُويجلاً أسود، وقال له: امكث معه حتى نمر عليك، فإذا عَازَّك، فاحتَّز رأسَه، فمضينا حتى أتينا بطن الكَدِيد، فنزلناه عشيةً بعد العصر، فبعثنى أصحابى إليه، فَعَمَدْتُ إلى تل يُطلعنى على الحاضر، فانبطحتُ عليه، وذلك قبلَ غروب الشمس، فخرج رجل منهم، فنظر فرآنى منبطِحاً على التل، فقال لامرأته: إنى لأرى سَواداً على هذا التلِّ ما رأيتُه في أوَّلِ النهار، فانظرى لا تكونُ الكِلابُ اجترَّت بعضَ أوعيتك، فنظرتْ، فقالت: لا واللهِ لا أفقد شيئاً. قال: فناولينى قوسى وسهمين من نبلى، فناولته، فرمانى بسهم، فوضعه في جنبى، فنزعته فوضعتُه ولم أتحرك، ثم رمانى بالآخر، فوضعه في رأس منكبى، فنزعتُه فوضعتُه ولم أتحرك، فقال لامرأته: أما واللهِ، لقد خالطه سهامى، ولو كان ربيئةً لتحرَّك، فإذا أصبحتِ، فابتغى سَهْمَىَّ فخُذيهما لا تمضغهما الكلاب علىَّ، قال: فأمهلناهم حتى إذا راحت روائحهم، واحتلبُوا وسكنوا، وذهبت عَتَمَةُ الليل، شننا عليهم الغارة، فقتلنَا مَن قتلنا، واستقنا النَّعم، فوجهنا قافلين به، وخرج صريخُهم إلى قومهم، وخرجنا سِراعاً حتى نمر بالحارث بن مالك وصاحِبه، فانطلقنا به معنا، وأتانا صريخُ الناس، فجاءنا ما لا قِبَلَ لنا به، حتى إذا لم يكن بيننا وبينهم إلا بطنُ الوادى مِن قُدَيْدٍ، أرسل اللهُ عزَّ وجَلَّ من حيث شاء سيلاً، لا واللهِ ما رأينا قبل ذلك مطراً، فجاء بما لا يقدر أحد يَقْدَمُ عليه، فلقد رأيتُهم وقوفاً ينظرون إلينا ما يَقْدِرُ أحد منهم أن يقدَم عليه، ونحن نَحْدوها، فذهبنا سِراعاً حتى أسندناها في المُشلَّل، ثم حدرناها عنه، فأعجزنا القومَ بما في أيدينا. وقد قيل: إن هذه السرية هي السرية التي قبلها.. والله أعلم. ثم قدم حُسيل بن نُويرة، وكان دليلَ النبى صلى الله عليه وسلم إلى خَيْبَر، فقال له النبىُّ صلى الله عليه وسلم: (ما وراءك)؟ قال: تركتُ جمعاً من يَمَن وغَطَفَان وحيَّان، وقد بعث إليهم عُيينة: إما أن تسيروا إلينا، وإما أن نَسيرَ إليكم، فأرسلوا إليه أن سِرْ إلينا، وهم يُريدونك، أو بعضَ أطرافك، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر، فذكر لهما ذلك، فقالا جميعاً: ابعث بشير بن سعد، فعقد له لواء، وبعث معه ثلاثمائة رجل، وأمرهم أن يسيروا الليل، ويكمنُوا النهار، وخرج معهم حُسيل دليلاً، فساروا الليل وكمنوا النَّهارَ، حتى أتوا أسفلَ خَيْبَر، حتى دَنَوْا مِن القوم، فأغاروا على سرحهم وبلغ الخبرُ جمعهم فتفرَّقوا، فخرج بشير في أصحابه حتى أتى محالَّهم، فيجدُها ليس بها أحد، فرجع بالنَّعم، فلما كانوا بسلاح، لَقُوا عيناً لعُيينة، فقتلوه، ثم لقُوا جمعَ عُيينة وعُيينة لا يشعُرُ بهم، فناوشوهم، ثم انكشفَ جمع عُيينة، وتبعهم أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصابُوا منهم رجلين، فَقَدِمُوا بهما على النبى صلى الله عليه وسلم، فأسلما فأرسلهما. وقال الحارث بن عوف لعُيينة وقد لقيه منهزماً تعدُو به فرسه: قف. قال: لا أقدِرُ خلفى الطلب، فقال له الحارث: أما آن لك أن تُبصرَ بعضَ ما أنت عليه، وأن محمداً قد وطأ البلادَ، وأنت تُوضع في غير شىء؟ قال الحارث: فأقمتُ مِن حين زالت الشمسُ إلى الليل وما أرى أحداً، ولا طلبوه إلا الرعبَ الذي دخله. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أبى حَدْرَدٍ الأسلمى في سَرِيَّة، وكان مِن قصته ما ذكر ابن إسحاق، أن رجلاً من جُشَم بنِ معاوية، يقال له: قيس بن رفاعة، أو رِفاعة بن قيس، أقبل في عدد كثير حتى نزلوا بالغابة يُريد أن يجمع قَيْساً على محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ذا اسم وشَرَفٍ في جُشَم، قال: فدعانى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلين من المسلمين، فقال: (اخرُجُوا إلى هذا الرَّجُلِ حَتَّى تَأتُوا مِنْهُ بِخَبَرٍ وعِلْمٍ)، فقدَّم إلينا شارفاً عجفاءَ، فَحُمِلَ عليها أحدُنا، فواللهِ ما قامت به ضعفاً حتى دعمها الرجالُ من خلفها بأيديهم حتى استقلَّت وما كادت، وقال: (تَبَلَّغُوا عَلَى هَذِهِ) فخرجنا ومعنا سِلاحُنا من النبل والسيوف، حتى إذا جئنا قريباً من الحاضر مع غروب الشمس، فكَمَنْتُ في ناحيةٍ، وأمرتُ صاحبىَّ، فكمنا في ناحية أُخرى مِن حاضر القوم، قلت لهما: إذا سمعتمانى قد كبَّرتُ وشددتُ في ناحية العسكر، فكبِّرا وشُدَّا معى، فواللهِ إنَّا كذلك ننتظر أن نرى غِرة أو نرى شيئاً، وقد غَشِيَنَا الليلُ حتى ذهبت فحمة العشاء، وقد كان لهم راع قد سرح في ذلك البلد، فأبطأ عليهم، حتى تخوَّفُوا عليه، فقام صاحبُهم رِفاعة بن قيس، فأخذ سيفَه، فجعله في عنقه، وقال: واللهِ لأتبَعَنَّ أثر راعينا هذا، واللهِ لقد أصابه شرٌ، فقال نفر ممن معه: واللهِ لا تذهبُ، نحنُ نكفيكَ. فقال: واللهِ لا يذهبُ إلا أنا. قالوا: فنحن معك، وقال: واللهِ لا يتبعُنى منكم أحد، وخرج حتى يمرَّ بى، فلما أمكننى، نفحتُه بسهم فوضعتُه في فؤاده، فواللهِ ما تكلَّم، فوثبتُ إليه فاحتززتُ رأسه، ثم شددتُ في ناحية العسكر، وكبَّرتُ، وشدَّ صاحبَاى فكبَّرا، فواللهِ ما كان إلا النجاءُ ممن كان فيه: عندك عندك بكلِّ ما قدرُوا عليه من نسائهم وأبنائهم، وما خفَّ معهم من أموالهم، واستقنا إبلاً عظيمة، وغنماً كثيرة، فجئنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجئتُ برأسه أحمله معى، فأعطانى من تلك الإبل ثلاثة عشر بعيراً في صداقى، فجمعتُ إلىَّ أهلى، وكنتُ قد تزوجتُ امرأة من قومى، فأصدقتها مائتى درهم، فجئتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أستعينُه على نكاحى، فقال: (والله ما عندى ما أعينك)، فلبثتُ أياماً، ثم ذكر هذه السرية. وبعث سرية إلى إضَم، وكان فيهم أبو قَتادة، ومُحلِّم بن جَثَّامة في نفر من المسلمين، فمرَّ بهم عامِرُ بن الأضبط الأشجعى على قَعودٍ له معه مُتَيِّعٌ له، ووطَبٌ مِن لَبن، فسلَّم عليهم بتحية الإسلام، فأمسكوا عنه، وحمل عليه مُحُلِّم بنُ جَثَّامة فقتله لشئ كان بينه وبينه، وأخذ بعيرَه ومُتَيِّعه، فلما قَدِمُوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخبرُوه الخبر، فنزل فيهم القرآن: ولما كان عامُ خَيْبَر، جاء عُيينةُ بن بدرٍ يطلُب بِدَمِ عامر بن الأضبط الأشجعى وهو سيِّدُ قَيْس، وكان الأقرعُ بنُ حابس يرُدُّ عن مُحَلِّم، وهو سيدُ خِنْدِف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوم عامر: (هَلْ لَكُمْ أنْ تَأْخُذُوا الآن مِنَّا خَمْسِينَ بَعيراً وخَمْسِينَ إذا رَجَعْنَا إلى المدينة)؟ فقال عُيينةُ بنُ بدر: واللهِ لا أدعُه حتى أُذيقَ نساءه من الحُرقة مثل ما أذاق نسائى، فلم يزل به حتَّى رضُوا بالدية، فجاؤوا بمُحلِّم حتى يستغفر له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فلما قام بين يديه، قال: (اللَّهُمَّ لا تَغْفِرْ لمحلِّم) وقالها ثلاثاً، فقام وإنه ليتلقى دموعه بطرف ثوبه . قال ابن إسحاق: وزعم قومه أنه استغفر له بعد ذلك، قال ابن إسحاق: وحدَّثنى سالم أبو النضر، قال: لم يقبلوا الديةَ حتى قام الأقرعُ بنُ حابس، فخلا بهم، فقال: يا معشر قَيْس ؛ سألكم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قتيلاً تترُكُونه لِيُصلحَ به بين النَّاس، فمنعتمُوه إياه . أفأمِنْتُم أن يغضَبَ عليكم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فيغضبَ اللهُ عليكم لِغضبه، أو يلعَنَكُم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فيلعَنَكُم اللهُ بلعنته، واللهِ لتُسْلِمُنَّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لآتِيَنَّ بخمسين من بنى تميم كُلُّهم يشهدُون أن القتيل ما صلَّى قَط فلأطُلَّنَّ دمه، فلما قال ذلك: أخذُوا الدية . ثبت في (الصحيحين) من حديث سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، قال: نزلَ قولُه تعالى: وثبت في (الصحيحين) أيضاً من حديث الأعمش، عن سعيد بن عُبيدة، عن أبى عبد الرحمن السُّلَمى، عن علىٍّ رضى الله عنه، قال: استعملَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم رجُلاً مِنَ الأنصارِ على سَرِيَّةٍ، بعثَهم وأمرهم أن يسمعُوا له ويُطِيعُوا، قال: فأغضبُوه في شىءٍ، فقال: اجمعوا لى حَطَباً، فجمعوا، فقال: أَوْقِدُوا نارا، فأوقَدُوا، ثم قال: ألم يَأْمُرْكُم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أن تسمعُوا لى وتُطيعوا؟ قالُوا: بَلَى، قال: فادْخُلُوهَا، قال: فنظر بعضُهم إلى بعضٍ، وقالُوا: إنما فَرَرْنَا إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن النَّار . فَسَكَن غَضَبُهُ، وطُفِئَتِ النَّارُ، فلما قَدِمُوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرُوا ذلك له فقال: (لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا، إنَّمَا الطَّاعَةُ في المَعْرُوف) . وهذا هو عبد الله بن حُذافة السَّهمى . فإن قيل: فلو دخلُوها دخلُوها طاعة للهِ ورسُولِه في ظنهم، فكانوا متأوِّلين مخطئين، فكيف يُخَلَّدُون فيها؟ قيل: لما كان إلقاءُ نفوسهم في النار معصيةً يكونون بها قاتِلى أنفسهم، فهمُّوا بالمُبَادرة إليها من غير اجتهاد منهم: هل هُو طاعةٌ وقُربة، أو معصيةٌ؟ كانوا مُقْدِمينَ على ما هو محرَّم عليهم، ولا تَسوغُ طاعةُ ولى الأمر فيه، لأنه لا طاعةَ لمخلوق في معصيةِ الخالق، فكانت طاعةُ مَنْ أمرهم بدخول النار معصيةً للهِ ورسوله، فكانت هذه الطاعة هي سببَ العُقوبة، لأنها نفسُ المعصية، فلو دخلُوها، لكانُوا عُصاةً للهِ ورسولِه، وإن كانوا مطيعين لولى الأمر، فلم تدفع طاعتُهم لولى الأمرِ معصيتَهم للهِ ورسوله، لأنهم قد عَلِمُوا أن مَن قتل نفسه، فهو مستحِقٌ للوعيد، واللهُ قد نهاهم عن قتل أنفسهم، فليس لهم أن يُقْدِمُوا على هذا النهى طاعة لمن لا تَجِبُ طاعتُه إلا في المعروف . فإذا كان هذا حُكْمَ مَنْ عذَّب نفسه طاعة لولى الأمر، فكيف مَن عذَّب مسلماً لا يجوز تعذيبُه طاعة لولى الأمر . وأيضاً فإذا كان الصحابةُ المذكورون لو دخلُوها لما خرجوا منها مع قصدِهم طاعةَ اللهِ ورسوله بذلك الدخولِ، فكيف بمن حمله على ما لا يجوزُ مِن الطاعة الرغبةُ والرهبةُ الدنيوية . وإذا كان هؤلاء لو دخلُوها، لما خرجوا منها مع كونهم قصدُوا طاعة الأمير، وظنُّوا أن ذلك طاعةٌ للهِ ورسوله، فكيف بمن دخلها مِن هؤلاء المُلَبِّسين إخوان الشياطين، وأوهمُوا الجُهَّالَ أن ذلك ميراثٌ من إبراهيم الخليل، وأن النار قد تصيرُ عليهم بَرْداً وسلاماً، كما صارت على إبراهيم، وخيارُ هؤلاء ملبوسٌ عليه يظنُّ أنه دخلها بحال رحمانى، وإنما دخلها بحالِ شيطانى، فإذا كان لا يعلم بذلك، فهو ملبوس عليه، وإن كان يعلم به، فهو مُلبِّسٌ على الناس يُوهمهم أنه مِن أولياء الرحمن، وهو مِن أولياء الشيطان، وأكثرُهم يدخلها بحال بُهتانى وتحيُّل إنسانى، فهم في دخولها في الدنيا ثلاثةُ أصناف: ملبوسٌ عليه، وملبِّس، ومتحيِّل، ونار الآخرة أشد عذاباً وأبقى قال نافع: كانت في ذى القَعدة سنةَ سبع، وقال سليمان التَّيمى: لما رجعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من خيبر، بعث السَّرايا، وأقام بالمدينةِ حتى استهل ذو القَعدة، ثم نادى في النَّاس بالخروج. قال موسى بن عقبة: ثم خرجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من العام المقبل مِن عام الحُديبية معتمراً في ذى القَعدة سنةَ سبع، وهو الشهر الذي صدَّه فيه المشركون عن المسجدِ الحرام، حتى إذا بلغ يَأْجُج، وضع الأداة كُلَّهَا: الجَحَف والمِجَانَّ، والنَّبل والرِّماح، ودخلوا بسلاح الراكبِ السيوفِ، وبعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم جعفرَ بنَ أبى طالب بين يديه إلى ميمونة بنتِ الحارث ابن حَزْنِ العامِرِيَّة، فخطبها إليه، فجعلت أمرَها إلى العبَّاس بن عبد المطلب، وكانت أُختها أُم الفضل تحتَه، فزوَّجَهَا العباسُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فلما قَدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمر أصحابه فقال: (اكْشِفُوا عَنِ المَنَاكِب، واسْعَوْا في الطَّوَاف)، لِيَرَى المُشْرِكُونَ جَلَدَهم وقُوَّتَهم. وكان يُكايدُهم بكُلِّ ما استطاع، فوقف أهل مكة: الرجالُ والنساءُ والصبيانُ، ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم يطوفون بالبيت، وعبدُ الله بنُ رواحة بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتجز متوشِّحاً بالسيف يقول: * قَدْ أَنْزَلَ الرَّحْمنُ في تَنْزِيلِهِ *
* في صُحُفٍ تُتْلَى عَلى رَسُولِهِ *
* يَارَبِّ إنِّى مُؤْمِنٌ بِقــيلِهِ *
* إنِّى رَأَيْتُ الحَــقَّ في قبُولِهِ *
* اليَوْمَ نَضْرِبْكُمْ عَلى تَأْوِيلِهِ *
* ضَـرْباً يُزِيلُ الهَامَ عَنْ مَقِيلِه *
* وَيُذْهِلُ الخَلِيلَ عَنْ خَلِيلـهِ * وتغيَّب رجال من المشركين كراهية أن ينظُروا إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حَنَقَاً وغيظاً، فأقامَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثاً، فلما أصبحَ مِن اليوم الرابع، أتاه سُهَيْلُ بنُ عمروٍ، وحُويطِبُ بنُ عبد العُزَّى، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم في مجلسِ الأنصارِ يتحدَّث مع سعدِ بن عُبادة، فصاح حُويطب: نناشدُك الله والعقد لما خرَجْتَ مِنْ أرضِنَا، فقد مضت الثلاثُ، فقال: سعد بن عُبادة: كذبتَ لا أُمَّ لك، ليست بأرضِكَ ولا أرض آبائك، واللهِ لا نخرُج، ثم نادى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حُويطِباً أو سُهيلاً، فقال: (إنِّى قَدْ نَكَحْتُ مِنْكُم امْرَأَةً فما يَضُرُّكُم أَنْ أَمْكُثَ حَتَّى أَدْخُلَ بِهَا، ونَضَعَ الطَعَامَ، فَنَأْكُل، وتَأكُلونَ مَعَنَا)، فقالوا: نُنَاشِدُك الله والعقد إلا خرجتَ عنا، فأمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أبا رافع، فأذَّنَ بالرحيل، وركِبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلَ بطنَ سَرِف، فأقام بها، وخلَّف أبا رافع لِيحمِلَ ميمونَةَ إليه حين يُمسى، فأقام حتى قَدِمَتْ ميمونةُ ومَنْ معها، وقد لَقُوا أذى وعَناءً مِن سُفهاءِ المشركين وصِبيانهم، فبنى بها بِسَرِف، ثم أدلجَ وسار حتَّى قَدِمَ المدينة، وقدَّر اللهُ أن يكون قبر ميمونَةَ بِسَرِفَ حيث بنى بها. وأما قولُ ابنِ عباس: (إن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم تزوَّجَ مَيْمُونَةَ، وهُوَ مُحْرمٌ، وبَنَى بِهَا وهُوَ حَلالٌ) فمما استدُركَ عليهِ، وعُدَّ من وهمه، قال سعيدُ بنُ المسيِّب: ووهم ابن عباس وإن كانت خالته، ما تَزَوَّجها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلا بعد ما حلَّ. ذكره البخارى. وقال يزيدُ بن الأصم عن ميمونة: تزوَّجنى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ونَحْنُ حَلاَلاَنِ بِسَرِفَ. رواه مسلم. وقال أبو رافع: تزوَّجَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَيمونةَ، وهُوَ حلالٌ، وبَنَى بها وهُوَ حلال، وكُنْتُ الرَّسُولَ بينهما. صحَّ ذلك عنه. وقال سعيدُ بنُ المسيِّب: هذا عبدُ الله بن عباس يزعُمُ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نكح ميمونَة وهو مُحْرمٍ، وإنما قَدِم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مكَّةَ، وكان الحِلُّ والنكاحُ جميعاً، فشُبِّهَ ذلك على الناس. وقد قيل: إنه تزوَّجها قبل أن يُحرم، وفى هذا نظر إلا أن يكونَ وكَّل في العقد عليها قبل إحرامه، وأظنُّ الشافعىَّ ذكر ذلك قولاً، فالأقوال ثلاثة: أحدها: أنه تزوَّجها بعد حلِّه من العُمرة، وهو قولُ ميمونة نفسها، وقولُ السفير بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أبو رافع، وقولُ سعيد بن المسيِّب، وجمهورِ أهل النقل. والثانى: أنه تزوَّجها وهو مُحرِم، وهو قولُ ابن عباس، وأهلِ الكوفة وجماعة والثالث: أنه تزوَّجها قبل أن يُحرم. وقد حُمِلَ قولُ ابن عباس أنه تزوجها وهو مُحْرمٌ، على أنه تزوجها في الشهر الحرام، لا في حال الإحرام، قالوا: ويُقال: أحرم الرجلُ: إذا عقد الإحرام، وأحرم: إذا دخل في الشهر الحرام، وإن كان حلالاً بدليل قول الشاعر: وإنما قتلُوه في المدينة حلالاً في الشهر الحرام. وقد روى مسلم في (صحيحه) من حديث عُثمانَ بن عفَّان رضى الله عنه، قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لاَ يَنْكِحُ المُحْرِمُ وَلاَ يُنْكَحُ، وَلاَ يَخْطُبُ). ولو قُدِّرَ تعارضُ القولِ والفِعل ههنا، لوجب تقديمُ القولِ، لأن الفِعلَ موافق للبراءة الأصلية، والقولُ ناقل عنها، فيكون رافعاً لحكم البراءة الأصلية، وهذا موافق لقاعدة الأحكام، ولو قُدِّمَ الفِعْلُ، لكان رافعاً لموجب القول، والقولُ رافع لموجب البراءة الأصلية، فيلزمُ تغييرُ الحكم مرتين، وهو خلاف قاعدة الأحكام.. والله أعلم. ولما أراد النبىُّ صلى الله عليه وسلم الخروجَ مِن مكة، تبعتهم ابنةُ حمزةَ تُنادى: يا عَمُّ يَا عَمُّ، فتناولها علىُّ بنُ أبى طالب رضى الله عنهُ، فأخذ بيدها، وقال لِفاطمة: دونك ابنةَ عمِّكِ، فحملتها، فاختصم فيها علىٌ وزيدٌ وجعفرٌ، فقال على: أنا أخذتُها، وهى ابنةُ عمى، وقال جعفرٌ: ابنةُ عمى وخالتُها تحتى، وقال زيد: ابنةُ أخى، فقضى بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لِخالتها، وقال: (الخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الأُمِّ)، وقال لعلى: (أَنْتَ مِنِّى وأَنَا مِنْكَ)، وقال لجعفر: (أَشْبَهْتَ خَلْقى وخُلُقى)، وقال لزيد: (أَنْتَ أَخُونَا ومَوْلاَنَا). متفق على صحته. وفى هذه القصة مِن الفقه: أن الخالةَ مقدَّمة في الحَضانة على سائر الأقارِبِ بعد الأبوين. وأن تزوُّجَ الحاضِنَة بقريب من الطفل لا يسقط حضانَتَها، نص أحمد رحمه الله تعالى في رواية عنه على أن تزويجها لا يسقط حضانتها في الجارية خاصة، واحتج بِقصة بنتِ حمزة هذه، ولما كان ابنُ العم ليس مَحْرَماً لم يُفرِّق بينه وبين الأجنبى في ذلك، وقال: تَزوُّجُ الحاضنة لا يُسقط حضانتها للجارية،وقال الحسن البصرى: لا يكون تزوُّجها مُسقطاً لحضانتها بحال ذَكَراً كان الولد أو أُنثى، وقد اختُلِف في سقوط الحضانة بالنكاح على أربعة أقوال: أحدها: تسقط به ذَكَراً كان أو أُنثى، وهو قول مالك، والشافعى، وأبى حنيفة، وأحمد في إحدى الروايات عنه. والثانى: لا تسقط بحال، وهو قول الحسن، وابن حزم. والثالث: إن كان الطفل بنتاً، لم تسقط الحضانةُ، وإن كان ذَكَراً سقطت، وهذه رواية عن أحمد رحمه الله تعالى، وقال في رواية مهنا: إذا تزوجتِ الأمُّ وابنُها صغير، أُخِذَ منها، قيل له: والجارية مِثْلُ الصبىّ؟ قال: لا، الجاريةُ تكون معها إلى سبع سنين، وحكى ابنُ أبى موسى روايةً أُخرى عنه: أنها أحقُّ بالبنت وإن تزوَّجت إلى أن تبلغ. والرابع: أنها إذا تزوَّجت بنسيب مِن الطفل، لم تسقط حضانتُها، وإن تزوَّجت بأجنبى، سقطت، ثم اختلف أصحابُ هذا القول على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يكفى كونُه نسيباً فقط، مَحْرَمَاً كان أو غيرَ محرم، وهذا ظاهرُ كلام أصحاب أحمد وإطلاقهم. الثانى: أنه يُشترط كونه مع ذلك ذا رحم محرم، وهو قولُ الحنفية. الثالث: أنه يُشترط مع ذلك أن يكون بينه وبين الطفل وِلادة، بأن يكون جداَ للطفل، وهذا قولُ بعض أصحاب أحمد، ومالك، والشافعى. وفى القصة حُجَّة لمن قدَّم الخالة على العمَّة، وقرابةَ الأُم على قرابة الأب، فإنه قضى بها لخالتها، وقد كانت صفيَّةُ عمَّتها موجودةً إذ ذاك، وهذا قولُ الشافعى، ومالك، وأبى حنيفة، وأحمد في إحدى الروايتين عنه. وعنه رواية ثانية: أن العمَّة مقدَّمة على الخالة، وهى اختيارُ شيخنا. وكذلك نساءُ الأب يُقدَّمن على نساء الأُم، لأن الولايةَ على الطفل في الأصل للأب، وإنما قُدِّمتْ عليه الأمُّ لمصلحة الطفل وكمال تربيته، وشفقتها وحنوها، والإناثُ أقومُ بذلك من الرجال، فإذا صار الأمر إلى النساء فقط، أو الرجال فقط، كانت قرابةُ الأب أولى من قرابة الأُم، كما يكون الأبُ أولى مِن كل ذَكر سواه، وهذا قوى جداً. ويُجاب عن تقديم خالة ابنة حمزة على عمَّتها بأن العمَّة لم تَطلُبِ الحضانة، والحضانة حق لها يُقضَى لها به بطلبه، بخلاف الخالة، فإن جعفراً كان نائباً عنها في طلب الحضانة، ولهذا قضى بها النبىُّ صلى الله عليه وسلم لها في غيبتها. وأيضاً فكما أن لِقرابة الطفل أن يمنع الحاضنة من حضانة الطفل إذا تزوَّجت، فللزوج أن يمنعها مِن أخذه وتفرغها له، فإذا رضىَ الزوج بأخذه حيث لا تسقطُ حضانتُها لِقرابته، أو لكون الطفل أُنثى على رواية، مُكِّنَتْ من أخذه وإن لم يرض، فالحق له، والزوج ههنا قد رضىَ وخاصم في القصة، وصفيَّة لم يكن منها طلب. وأيضاً فابنُ العم له حضانةُ الجارية التي لا تُشتَهى في أحد الوجهين، بل وإن كانت تُشتهَى، فله حضانتُها أيضاً، وتُسلَّم إلى امرأةٍ ثقة يختارها هو، أو إلى محرمه، وهذا هو المختارُ لأنه قريبٌ من عصباتها، وهو أولى من الأجانب والحاكم، وهذه إن كانت طفلة فلا إشكال، وإن كانت ممن يُشتهَى، فقد سُلِّمتْ إلى خالتها، فهى وزوجها من أهل الحضانة. والله أعلم. وقول زيد: ابنة أخى، يُريد الإخاء الذي عقده رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين حمزةَ لما واخى بين المهاجرين، فإنه واخى بين أصحابه مرتين، فواخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض قبلَ الهجرة على الحقِّ والمواساة، وآخى بين أبى بكر وعمر، وبين حمزة وزيد بن حارثة، وبين عثمان وعبد الرحمن بن عوف، وبين الزبير وابن مسعود، وبين عبيدة بن الحارث وبلال، وبين مصعب بن عمير وسعد بن أبى وقاص، وبين أبى عبيدة وسالم مولى أبى حذيفة، وبين سعيد بن زيد وطلحة بن عبيد الله. والمرة الثانية: آخى بين المهاجرين والأنصار في دار أنس بن مالك بعد مقدمه المدينة. واختُلِفَ في تسمية هذه العُمرة بعُمرة القضاء، هل هو لكونها قضاءً للعُمرة التي صُدُّوا عنها، أو من المقاضاة؟ على قولين تقدَّما، قال الواقدى: حدَّثنى عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر، قال: لم تكن هذه العُمرة قضاء، ولكن كان شرطاً على المسلمين أن يعتمِرُوا في الشَّهر الذي حاصرهم فيه المشركون . واختلف الفقهاءُ في ذلك على أربعة أقوال: أحدها: أن مَن أُحصر عن العُمرة يلزمه الهَدْى والقضاء، وهذا إحدى الروايات عن أحمد، بل أشهرُها عنه . والثانى: لا قضاء عليه، وعليه الهَدْى، وهو قول الشافعى، ومالك في ظاهر مذهبه، ورواية أبى طالب عن أحمد . والثالث: يلزمه القضاء، ولا هَدْى عليه، وهو قول أبى حنيفة . والرابع: لا قضاء عليه، ولا هَدْى، وهو إحدى الروايات عن أحمد . فمَن أوجبَ عليه القضاء والهَدْىَ، احتج بأن النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحروا الهَدْىَ حين صُدُّوا عن البيت، ثم قَضَوْا مِن قابل، قالوا: والعُمرة تلزم بالشروع فيها، ولا يسقط الوجوبُ إلا بفعلها، ونحر الهَدْى لأجل التحلل قبل تمامها، وقالوا: وظاهِرُ الآية يُوجب الهَدْى، لقوله تعالى: ومَن لم يُوجبهما، قالوا: لم يأمرُ النبىُّ صلى الله عليه وسلم الذين أُحصروا معه بالقضاء ولا أحداً منهم، ولا وقف الحِلُّ على نحرهم الهَدْىَ، بل أمرهم أن يَحْلِقُوا رؤوسهم، وأمر مَن كان معه هَدْى أن ينحر هَدْيه . ومَن أوجب الهَدْىَ دون القضاء احتج بقوله: ومَن أوجب القضاء دون الهَدْى، احتج بأن العُمرة تلزم بالشروع، فإذا أُحْصِرَ، جاز له تأخيرُها لعذر الإحصار، فإذا زال الحصر، أتى بها بالوجوب السابق، ولا يُوجب تخلل التحلل بين الإحرام بها أولاً، وبين فعلها في وقت الإمكان شيئاً، وظاهر القرآن يردُّ هذا القول، ويُوجب الهَدْىَ دون القضاء، لأنه جعل الهَدْىَ هو جميعَ ما على المُحْصَرِ، فدلَّ على أنه يُكتفى به منه. والله أعلم . وفى نحره صلى الله عليه وسلم لما أُحصر بالحديبية، دليلٌ على أن المحصَرَ ينحر هَدْيَه وقتَ حصره، وهذا لا خلاف فيه إذا كان مُحْرِماً بعُمرة، وإن كان مفرداً أو قارناً، ففيه قولان: أحدهما: أن الأمر كذلك، وهو الصحيح لأنه أحد النُسُكين، فجاز الحل منه، ونحرُ هَدْيه وقت حصره، كالعُمرة، لأن العُمرة لا تفوتُ، وجميعُ الزمان وقتٌ لها، فإذا جاز الحِلُّ منها ونحرُ هَدْيها مِن غير خشية فواتها، فالحجُّ الذي يُخشى فواته أولى، وقد قال أحمد في رواية حنبل: إنه لا يَحلُّ، ولا ينحرُ الهَدْى إلى يوم النحر، ووجه هذا أنَّ للهدى محلَّ زمانٍ ومحلَّ مكانٍ، فإذا عجز عن محل المكان لم يسقُطْ عنه محلُّ الزمان لتمكنه من الإتيان بالواجب في محله الزمانى، وعلى هذا القول لا يجوزُ له التحللُ قبلَ يوم النحر، لقوله: وفى نحره صلى الله عليه وسلم وحِلِّه، دليلٌ على أن المُحصَر بالعُمرة يتحلل، وهذا قولُ الجمهور. وقد رُوى عن مالك رحمه الله: أن المعتمر لا يتحلل، لأنه لا يخاف الفوت، وهذا تبعُدُ صحته عن مالك رحمه الله، لأن الآية إنما نزلت في الحُديبية، وكان النبىُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه كُلُّهم مُحرِمينَ بعُمرة، وحلُّوا كُلُّهم، وهذا مما لا يَشُكُّ فيه أحد مِن أهل العلم. وفى ذبحه صلى الله عليه وسلم بالحُديبية وهى مِن الحل بالاتفاق، دليلٌ على أن المُحْصَرَ ينحر هَدْيه حيث أُحْصِرَ مِن حِل أو حَرَم، وهذا قولُ الجمهور وأحمد، ومالك، والشافعى. وعن أحمد رحمه الله رواية أُخرى، أنه ليس له نحرُ هَدْيه إلا في الحرم، فيبعثُه إلى الحرم، ويُواطئ رجلاً على أن ينحرَه في وقت يتحلل فيه، وهذا يُروى عن ابن مسعود رضى الله عنه، وجماعة من التابعين، وهو قول أبى حنيفة. وهذا إن صح عنهم فينبغى حملُه على الحصر الخاص، وهو أن يتعرَّضَ ظالِمٌ لجماعة أو لواحد، وأما الحصرُ العام، فالسُـنَّة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تدلُّ على خلافه، والحُديبية من الحل باتفاق الناس، وقد قال الشافعى: بعضُها من الحل، وبعضُها من الحرم، قلت: ومراده أن أطرافها من الحرم وإلا فهى من الحل باتفاقهم. وقد اختلف أصحابُ أحمد رحمه الله في المُحْصَر إذا قدر على أطراف الحرم، هل يلزمه أن ينحر فيه؟ فيه وجهان لهم. والصحيحُ: أنه لا يلزمُه، لأن النبى صلى الله عليه وسلم نحرَ هَدْيَه في موضعه مع قُدرته على أطراف الحرم، وقد أخبر اللهُ سبحانه أن الهَدْىَ كان محبوساً عن بلوغِ مَحلِّه، ونصبَ الهَدْى بوقوع فعل الصَّدِّ عليه، أى: صدُّوكم عن المسجد الحرام، وصدُّوا الهَدْى عن بلوغ محله، ومعلوم أن صَدَّهم وصدَّ الهَدْى استمر ذلك العام ولم يزل، فلم يَصِلُوا فيه إلى محل إحرامهم، ولم يَصِلِ الهدىُ إلى محل نحره، والله أعلم.
|