الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
سورة المجادلة مدنية في قول الجميع. إلا رواية عن عطاء: أن العشر الأول منها مدني وباقيها مكي، وقال الكلبي: نزل جميعها بالمدينة غير قوله تعالى {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير} قوله تعالى{قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله} التي اشتكت إلى الله هي خولة بنت ثعلبة. وقيل بنت حكيم. وقيل اسمها جميلة. وخولة أصح، وزوجها أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت، وقد مر بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته والناس معه على حمار فاستوقفته طويلا ووعظته وقالت: يا عمر قد كنت تدعى عميرا، ثم قيل لك عمر، ثم قيل لك أمير المؤمنين، فاتق الله يا عمر، فإنه من أيقن بالموت خاف الفوت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب، وهو واقف يسمع كلامها، فقيل له: يا أمير المؤمنين أتقف لهذه العجوز هذا الوقوف؟ فقال: والله لو حبستني من أول النهار إلى آخره لا زلت إلا للصلاة المكتوبة، أتدرون من هذه العجوز؟ هي خولة بنت ثعلبة سمع الله قولها من فوق سبع سموات، أيسمع رب العالمين قولها ولا يسمعه عمر؟ و وقال الثعلبي قرئ {قد سمع الله} بالإدغام و{قد سمع الله} بالإظهار. والأصل في السماع إدراك المسموعات، وهو اختيار الشيخ أبي الحسن. وقال ابن فورك: الصحيح أنه إدراك المسموع. وقال الحاكم أبو عبدالله في معنى السميع: إنه المدرك للأصوات التي يدركها المخلقون بآذانهم من غير أن يكون له أذن، وذلك راجع إلى أن الأصوات لا تخفى عليه، وإن كان غير موصوف بالحس المركب في الأذن، كالأصم من الناس لما لم تكن له هذه الحاسة لم يكن أهلا لإدراك الصوت. والسمع والبصر صفتان كالعلم والقدرة والحياة والإرادة، فهما من صفات الذات لم يزل الخالق سبحانه وتعالى متصفا بهما. وشكى واشتكى بمعنى واحد. وقرئ {تحاورك} أي تراجعك الكلام و{تجادلك} أي تسائلك. {الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور} قوله تعالى{الذين يظاهرون} قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف {يظاهرون} بفتح الياء وتشديد الظاء وألف. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب {يظهرون} بحذف الألف وتشديد الهاء والظاء وفتح الياء. وقرأ أبو العالية وعاصم وزر بن حبيش {يظاهرون} بضم الياء وتخفيف الظاء والف وكسر الهاء. وقد تقدم هذا في الأحزاب . وفي قراءة أبى {يتظاهرون} وهي معنى قراءة ابن عامر وحمزة. وذكر الظهر كناية عن معنى الركوب، والآدمية إنما يركب بطنها ولكن كنى عنه بالظهر، لأن ما يركب من غير الآدميات فإنما يركب ظهره، فكنى بالظهر عن الركوب. ويقال: نزل عن امرأته أي طلقها كأنه نزل عن مركوب. ومعنى أنت علي كظهر أمي: أي أنت علي محرمة لا يحل لي ركوبك. حقيقة الظهار تشبيه ظهر بظهر، والموجب للحكم منه تشبيه ظهر محلل بظهر محرم، ولهذا أجمع الفقهاء على أن من قال لزوجته: أنت علي كظهر أمي أنه مظاهر. وأكثرهم على أنه إن قال لها: أنت علي كظهر ابنتي أو أختي أو غير ذلك من ذوات المحارم أنه مظاهر. وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وغيرهما. واختلف فيه عن الشافعي رضى الله عنه، فروي عنه نحو قول مالك، لأنه شبه امرأته بظهر محرم عليه مؤبد كالأم. وروى عنه أبو ثور: أن الظهار لا يكون إلا بالأم وحدها. وهو مذهب قتادة والشعبي. والأول قول الحسن والنخعي والزهري والأوزاعي والثوري. أصل الظهار أن يقول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي. وإنما ذكر الله الظهر كناية عن البطن وسترا. فإن قال: أنت علي كأمي ولم يذكر الظهر، أو قال: أنت علي مثل أمي، فإن أراد الظهار فله نيته، وإن أراد الطلاق كان مطلقا البتة عند مالك، وإن لم تكن له نية في طلاق ولا ظهار كان مظاهرا. ولا ينصرف صريح الظهار بالنية إلى الطلاق، كما لا ينصرف صريح الطلاق وكنايته المعروفة له إلى الظهار، وكنايه الظهار خاصة تنصرف بالنية إلى الطلاق البت. ألفاظ الظهار ضربان: صريح وكناية، فالصريح أنت علي كظهر أمي، وأنت عندي وأنت مني وأنت معي كظهر أمي. وكذلك أنت علي كبطن أمي أو كرأسها أو فرجها أو نحوه، وكذلك فرجك أو رأسك أو ظهرك أو بطنك أو رجلك علي كظهر أمي فهو مظاهر، مثل قوله: يدك أو رجلك أو رأسك أو فرجك طالق تطلق عليه. وقال الشافعي في أحد قوليه: لا يكون ظهارا. وهذا ضعيف منه، لأنه قد وافقنا على أنه يصح إضافة الطلاق إليه خاصة حقيقة خلافا لأبي حنيفة فصح إضافة الظهار إليه. ومت شبهها بأمه أو بإحدى جداته من قبل أبيه أو أمه فهو ظهار بلا خلاف. وإن شبهها بغيرهن من ذوات المحارم التي لا تحل له بحال كالبنت والأخت، والعمة والخالة كان مظاهرا عند أكثر الفقهاء، وعند الإمام الشافعي رضي الله عنه على الصحيح من المذهب على ما ذكرنا. والكناية أن يقول: أنت علي كأمي أو مثل أمي فإنه يعتبر فيه النية. فإن أراد الظهار كان ظهارا، وإن لم يرد الظهار لم يكن مظاهرا عند الشافعي وأبي حنيفة. وقد تقدم مذهب مالك رضي الله عنه في ذلك، والدليل عليه أنه أطلق تشبيه امرأته بأمه فكان ظهارا. أصله إذا ذكر الظهر وهذا قوي فان معنى اللفظ فيه موجود - واللفظ بمعناه - ولم يلزم حكم الظهر للفظه وإنما ألزمه بمعناه وهو التحريم، قاله ابن العربي. إذا شبه جملة أهله بعضو من أعضاء أمه كان مظاهرا، خلافا لأبي حنيفة في قوله: إنه إن شبهها بعضو يحل له النظر إليه لم يكن مظاهرا. وهذا لا يصح، لأن النظر إليه على طريق الاستمتاع لا يحل له، وفيه وقع التشبيه وإياه قصد المظاهر، وقد قال الإمام الشافعي في قوله: إنه لا يكون ظهارا إلا في الظهر وحده. وهذا فاسد، لأن كل عضو منها محرم، فكان التشبيه به ظهارا كالظهر، ولأن المظاهر إنما يقصد تشبيه المحلل بالمحرم فلزم على المعنى. إن شبه امرأته بأجنبية فإن ذكر الظهر كان ظهارا حملا على الأول، وإن لم يذكر الظهر فاختلف فيه علماؤنا، فمنهم من قال: يكون ظهارا. ومنهم من قال: يكون طلاقا. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يكون شيئا. قال ابن العربي: وهذا فاسد، لأنه شبه محللا من المرأة بمحرم فكان مقيدا بحكمه كالظهر، والأسماء بمعانيها عندنا، وعندهم بألفاظها وهذا نقض للأصل منهم. قلت: الخلاف في الظهار بالأجنبية قوي عند مالك. وأصحابه منهم من لا يرى الظهار إلا بذوات المحارم خاصة ولا يرى الظهار بغيرهن. ومنهم من لا يجعله شيئا. ومنهم من يجعله في الأجنبية طلاقا. وهو عند مالك إذا قال: كظهر ابني أو غلامي أو كظهر زيد أو كظهر أجنبية ظهار لا يحل له وطؤها في حين يمينه. وقد روي عنه أيضا: أن الظهار بغير ذوات المحارم ليس بشيء، كما قال الكوفي والشافعي. وقال الأوزاعي: لو قال لها أنت علي كظهر فلان رجل فهو يمين يكفرها. والله أعلم. إذا قال: أنت علي حرام كظهر أمي كان ظهارا ولم يكن طلاقا، لأن قوله: أنت حرام علي يحتمل التحريم بالطلاق فهي مطلقة، ويحتمل التحريم بالظهار فلما صرح به كان تفسيرا لأحد الاحتمالين يقضي به فيه. الظهار لازم في كل زوجة مدخول بها أو غير مدخول بها على أي الأحوال كانت من زوج يجوز طلاقه. وكذلك عند مالك من يجوز له وطؤها من إمائه، إذا ظاهر منهن لزمه الظهار فيهن. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يلزم. قال القاضي أبو بكر بن العربي: وهي مسألة عسيرة جدا علينا، لأن مالكا يقول: إذا قال لأمته أنت علي حرام لا يلزم. فكيف يبطل فيها صريح التحريم وتصح كنايته. ولكن تدخل الأمة في عموم قوله{من نسائهم} لأنه أراد من محللاتهم. والمعنى فيه أنه لفظ يتعلق بالبضع دون رفع العقد فصح في الأمة، أصله الحلف بالله تعالى. ويلزم الظهار قبل النكاح إذا نكح التي ظاهر منها عند مالك. ولا يلزم عند الشافعي وأبي حنيفة، لقوله تعالى{من نسائهم} وهذه ليست من نسائه. وقد مضى أصل هذه المسألة في سورة التوبة عند قوله تعالى الذمي لا يلزم ظهاره. وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: يصح ظهار الذمي، ودليلنا قوله تعالى{منكم} يعني من المسلمين. وهذا يقتضي خروج الذمي من الخطاب. فإن قيل: هذا استدلال بدليل الخطاب. قلنا: هو استدلال بالاشتقاق والمعنى، فإن أنكحة الكفار فاسدة مستحقة الفسخ فلا يتعلق بها حكم طلاق ولا ظهار، وذلك كقوله تعالى قوله تعالى{منكم} يقتضي صحة ظهار العبد خلافا لمن منعه. وحكاه الثعلبي عن مالك، لأنه من جملة المسلمين وأحكام النكاح في حقه ثابتة وإن تعذر عليه العتق والإطعام فإنه قادر على الصيام. وقال مالك رضي الله عنه: ليس على النساء تظاهر، وإنما قال الله تعالى{والذين يظهرون منكم من نسائهم} ولم يقل اللائي يظهرن منكن من أزواجهن، إنما الظهار على الرجال. قال ابن العربي: هكذا روي عن ابن القاسم وسالم ويحيى بن سعيد وربيعة وأبي الزناد. وهو صحيح معنى، لأن الحل والعقد والتحليل والتحريم في النكاح بيد الرجال ليس بيد المرأة منه شيء وهذا إجماع. قال أبو عمر: ليس على النساء ظهار في قول جمهور العلماء. وقال الحسن بن زياد: هي مظاهرة. وقال الثوري وأبو حنيفة ومحمد: ليس ظهار المرأة من الرجل بشيء قبل النكاح كان أو بعده. وقال الشافعي: لا ظهار للمرأة من الرجل. وقال الأوزاعي إذا قالت المرأة لزوجها، أنت علي كظهر أمي فلانة فهي يمين تكفرها. وكذلك قال إسحاق، قال: لا تكون امرأة متظاهرة من رجل ولكن عليها يمين تكفرها. وقال الزهري: أرى أن تكفر الظهار، ولا يحول قولها هذا بينها وبين زوجها أن يصيبها، رواه عنه معمر. وابن جريج عن عطاء قال: حرمت ما أحل الله، عليها كفارة يمين. وهو قول أبي يوسف. وقال محمد بن الحسن: لا شيء عليها من به لمم وانتظمت له في بعض الأوقات الكلم إذا ظاهر لزم ظهاره، لما روي في الحديث: أن خولة بنت ثعلبة وكان زوجها أوس بن الصامت وكان به لمم فأصابه بعض لممه فظاهر من امرأته. من غضب وظاهر من امرأته أو طلق لم يسقط عنه غضبه حكمه. وفي بعض طرق هذا الحديث، قال يوسف بن عبدالله بن سلام: حدثتني خولة امرأة أوس بن الصامت، قالت: كان بيني وبينه شيء، فقال: أنت علي كظهر أمي ثم خرج إلى نادي قومه. فقولها: كان بيني وبينه شيء، دليل على منازعة أحرجته فظاهر منها. والغضب لغو لا يرفع حكما ولا يغير شرعا وكذلك السكران. يلزمه حكم الظهار والطلاق في حال سكره إذا عقل قوله ونظم قوله ونظم كلامه، لقوله تعالى ولا يقرب المظاهر امرأته ولا يباشرها ولا يتلذذ منها بشيء حتى يكفر، خلافا للشافعي في أحد قوليه، لأن قوله: أنت علي كظهر أمي يقتضي تحريم كل استمتاع بلفظه ومعناه، فإن وطئها قبل أن يكفر، استغفر الله تعالى وأمسك عنها حتى يكفر كفارة واحدة. وقال مجاهد وغيره: عليه كفارتان. روى سعيد عن قتادة، ومطرف عن رجاء بن حيوة عن قبيصة بن ذؤيب عن عمرو بن العاص في المظاهر: إذا وطئ قبل أن يكفر عليه كفارتان. ومعمر عن قتادة قال: قال قبيصة بن ذؤيب: عليه كفارتان. و الثامنة عشر: إذا ظاهر من أربع نسوة في كلمة واحدة، كقوله: أنتن علي كظهر أمي كان مظاهرا من كل واحدة منهن، ولم يجز له وطء إحداهن وأجزأته كفارة واحدة. وقال الشافعي: تلزمه أربع كفارات. وليس في الآية دليل على شيء من ذلك، لأن لفظ الجمع إنما وقع في عامة المؤمنين والمعول على المعنى. وقد "روى الدارقطني عن ابن عباس" قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: إذا كان تحت الرجل أربع نسوة فظاهر منهن يجزيه كفارة واحدة، فإن ظاهر من واحدة بعد أخرى لزمه في كل واحدة منهن كفارة. وهذا إجماع. فإن قال لأربع نسوة: إن تزوجتكن فأنتن علي كظهر أمي فتزوج إحداهن لم يقربها حتى يكفر، ثم قد سقط عنه اليمين في سائرهن. وقد قيل: لا يطأ البواقي منهن حتى يكفر. والأول هو المذهب. وإن قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي وأنت طالق البتة، لزمه الطلاق والظهار معا، ولم يكفر حتى ينكحها بعد زوج آخر ولا يطأها إذا نكحها حتى يكفر، فإن قال لها: أنت طالق البتة وأنت علي كظهر أمي لزمه الطلاق ولم يلزمه الظهار، لأن المبتوتة لا يلحقها طلاق. قال بعض العلماء: لا يصح ظهار غير المدخول بها. وقال المزني: لا يصح الظهار من المطلقة الرجعية، وهذا ليس بشيء، لأن أحكام الزوجية في الموضعين ثابتة، وكما يلحقها الطلاق كذلك يلحقها الظهار قياسا ونظرا. والله أعلم. قوله تعالى{ما هن أمهاتهم} أي ما نساؤهم بأمهاتهم. وقراءة العامة {أمهاتهم} بخفض التاء على لغة أهل الحجاز، كقوله تعالى {والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم} قوله تعالى{والذين يظاهرون من نسائهم } هذا ابتداء والخبر {فتحرير رقبة} وحذف عليهم لدلالة الكلام عليه، أي فعليهم تحرير رقبة. وقيل: أي فكفارتهم عتق رقبة. والمجمع عليه عند العلماء في الظهار قول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي. وهو قول المنكر والزور الذي عنى الله بقوله وقال أبو العالية: وظاهر الآية يشهد له، لأنه قال{ثم يعودون لما قالوا} أي إلى قول ما قالوا. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله عز وجل{والذين يظهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا} هو أنو يقول لها أنت علي كظهر أمي فإذا قال لها ذلك فليست تحل له حتى يكفر كفارة الظهار. قال ابن العربي: فأما القول بأنه العود إلى لفظ الظهار فهو باطل قطعا لا يصح عن بكير، وإنما يشبه أن يكون من جهالة داود وأشياعه. وقد رويت قصص المتظاهرين وليس في ذكر الكفارة عليهم ذكر لعود القول منهم، وأيضا فإن المعنى ينقضه، لأن الله تعالى وصفه بأنه منكر من القول وزور، فكيف يقال له إذا أعدت القول المحرم والسبب المحظور وجبت عليك الكفارة، وهذا لا يعقل، ألا ترى أن كل سبب يوجب الكفارة لا تشترط فيه الإعادة من قتل ووطء في صوم أو غيره. قلت: قول يشبه أن يكون من جهالة داود وأشياعه حمل ممنه عليه، وقد قال بقول داود من ذكرناه عنهم، وأما قول الشافعي: بأنه ترك الطلاق مع القدرة عليه فينقضه ثلاثة أمور أمهات: الأول: أنه قال{ثم} وهذا بظاهره يقتضي التراخي. الثاني: أن قوله تعالى{ثم يعودون} يقتضي وجود فعل من جهة ومرور الزمان ليس بفعل منه. الثالث: أن قوله تعالى{ثم يعودون} على الملك فلم يسقط حكم الظهار كالإيلاء. فإن قيل: فإذا رآها كالأم لم يمسكها إذ لا يصح إمساك الأم بالنكاح. وهذه عمدة أهل ما وراء النهر. قلنا: إذا عزم على خلاف ما قال وراها خلاف الأم كفر وعاد إلى أهله. وتحقيق هذا القول: أن العزم قول نفسي، وهذا رجل قال قولا اقتضى التحليل وهو النكاح، وقال قولا اقتضى التحريم وهو الظهار، ثم عاد لما قال وهو التحليل، ولا يصح أن يكون منه ابتداء عقد، لأن العقد باق فلم يبق إلا أنه قول عزم يخالف ما اعتقده وقاله في نفسه من الظهار الذي أخبر عنه بقوله أنت علي كظهر أمي، وإذا كان ذلك كفر وعاد إلى أهله، لقول{من قبل أن يتماسا}. وهذا تفسير بالغ في فنه. قال بعض أهل التأويل: الآية فيها تقديم وتأخير، والمعنى {والذين يظهرون من نسائهم ثم يعودون} إلى ما كانوا عليه من الجماع {فتحرير رقبة} لما قالوا، أي فعليهم تحرير رقبة من أجل ما قالوا، فالجار في قوله{لما قالوا} متعلق بالمحذوف الذي هو خبر الابتداء وهو عليهم، قال الأخفش. وقال الزجاج: المعنى ثم يعودون إلى إرادة الجماع من أجل ما قالوا. وقيل: المعنى الذين كانوا يظهرون من نسائهم في الجاهلية، ثم يعودون لما كانوا قالوه في الجاهلية في الإسلام فكفارة من عاد أن يحرر رقبة. الفراء: اللام بمعنى عن والمعنى ثم يرجعون عما قالوا ويريدون الوطء. وقال الأخفش: لما قالوا وإلى ما قالوا واحد، واللام وإلى يتعاقبان، قال قوله تعالى{فتحرير رقبة} أي فعليه إعتاق رقبة، يقال: حررته أي جعلته حرا. ثم هذه الرقبة يجب أن تكون كاملة سليمة من كل عيب، من كمالها إسلامها عند مالك والشافعي، كالرقبة في كفارة القتل. وعند أبي حنيفة وأصحابه تجزي الكفارة ومن فيها شائبة رق كالمكاتبة وغيرها. فإن أعتق نصفي عبدين فلا يجزيه عندنا ولا عند أبي حنيفة. وقال الشافعي يجزئ، لأن نصف العبدين في معنى العبدالواحد، ولأن الكفارة بالعتق طريقها المال فجاز أن يدخلها التبعيض والتجزيء كالإطعام، ودليلنا قوله تعالى{فتحرير رقبة} وهذا الاسم عبارة عن شخص واحد، وبعض الرقبة ليس برقبة، وليس ذلك مما يدخله التلفيق، لأن العبادة المتعلقة بالرقبة لا يقوم النصف من رقبتين مقامها، أصله إذا أشترك رجلان في أضحيتين، ولأنه لو أمر رجلين أن يحجا عنه حجة لم يجز أن يحج عنه واحد منهما نصفها كذلك هذا، ولأنه لو أوصى بأن تشترى رقبة فتعتق عنه لم يجز أن يعتق عنه نصف عبدين، كذلك في مسألتنا وبهذا يبطل دليلهم. والإطعام وغيره لا يتجزء في الكفارة عندنا. قوله تعالى{من قبل أن يتماسا} أي يجامعها فلا يجوز للمظاهر الوطء قبل التكفير، فإن جامعها قبل التكفير أثم وعصى ولا يسقط عنه التكفير. وحكي عن مجاهد: أنه إذا وطئ قبل أن يشرع في التكفير لزمته كفارة أخرى. وعن غيره: أن الكفارة الواجبة بالظهار تسقط عنه ولا يلزمه شيء أصلا، لأن الله تعالى أوجب الكفارة وأمر بها قبل المسيس، فإذا أخرها حتى مس فقد فات وقتها. والصحيح ثبوت الكفارة، لأنه بوطئه ارتكب إثما فلم يكن ذلك مسقطا للكفارة، ويأتي بها قضاء كما لو أخر الصلاة عن وقتها. وفي حديث أوس بن الصامت لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه وطئ امرأته أمره بالكفارة. وهذا نص وسواء كانت كفارة بالعتق أو الصوم أو الإطعام. وقال أبو حنيفة: إن كانت كفارته بالإطعام جاز أن يطأ ثم يطعم، فأما غير الوطء مر، القبلة والمباشرة والتلذذ فلا يحرم في قول أكثر العلماء. وقال الحسن وسفيان، وهو الصحيح من مذهب الشافعي. وقيل: وكل ذلك محرم وكل معاني المسيس، وهو قول مالك وأحد قولي الشافعي. وقد تقدم. قوله تعالى{ذلكم توعظون به} أي تؤمرون به {والله بما تعملون خبير} من التكفير وغيره. من لم يجد الرقبة ولا ثمنها، أو كان مالكا لها إلا أنه شديد الحاجة إليها لخدمته، أو كان مالكا لثمنها إلا أنه يحتاج إليه لنفقته، أو كان له مسكن ليس له غيره ولا يجد شيئا سواه، فله أن يصوم عند الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يصوم وعليه عتق ولو كان محتاجا إلى ذلك. وقال مالك: إذا كان له دار وخادم لزمه العتق فإن عجز عن الرقبة، فعليه صوم شهرين متتابعين. فإن أفطر في أثنائهما بغير عذر استأنفهما، وإن أفطر لعذر من سفر أو مرض، فقيل: يبني، قال ابن المسيب والحسن وعطاء بن أبي رباح وعمر وبن دينار والشعبي. وهو أحد قولي الشافعي وهو الصحيح من مذهبيه. وقال مالك: إنه إذا مرض في صيام كفارة الظهار بنى إذا صح. ومذهب أبي حنيفة رضي الله عنه أنه يبتدئ. وهو أحد قولي الشافعي. ا ابتدأ الصيام ثم وجد الرقبة أتم الصيام وأجزأه عند مالك والشافعي، لأنه بذلك أمر حين دخل فيه. ويهدم الصوم ويعتق عند أبي حنيفة وأصحابه، قياسا على الصغيرة المعتدة بالشهور ترى الدم قبل انقضائها، فإنها تستأنف الحيض إجماعا من العلماء. وإذا ابتدأ سفرا في صيامه فأفطر، ابتدأ الصيام عند مالك والشافعي وأبي حنيفة، لقوله{متتابعين}. ويبني في قول الحسن البصري، لأنه عذر وقياسا على رمضان، فإن تخللها زمان لا يحل صومه في الكفارة كالعيدين وشهر رمضان انقطع. ا وطئ المتظاهر في خلال الشهرين نهارا، بطل التتابع في قول الشافعي، وليلا فلا يبطل، لأنه ليس محلا للصوم. وقال مالك وأبو حنيفة: يبطل بكل حال ووجب عليه ابتداء الكفارة، لقوله تعالى{من قبل أن يتماسا} وهذا الشرط عائد إلى جملة الشهرين، وإلى أبعاضهما، فإذا وطئ قبل انقضائهما فليس هو الصيام المأمور به، فلزمه استئنافه، كما لو قال: صل قبل أن تكلم زيدا. فكلم زيدا في الصلاة، أو قال: صل قبل أن تبصر زيدا فأبصره في الصلاة لزمه استئنافها، لأن هذه الصلاة ليست هي الصلاة المأمور بها كذلك هذا، والله أعلم. ن تطاول مرضه طولا لا يرجى برؤه كان بمنزلة العاجز من كبر، وجاز له العدول عن الصيام إلى الإطعام. ولو كان مرضه مما يرجى برؤه واشتدت حاجته إلى وطء امرأته كان الاختيار له أن ينتظر البرء حتى يقدر على الصيام. ولو كفر بالإطعام ولم ينتظر القدرة على الصيام أجزأه. ومن تظاهر وهو معسر ثم أيسر لم يجزه الصوم. ومن تظاهر وهو موسر ثم أعسر قبل أن يكفر صام. وإنما ينظر إلى حال يوم يكفر. ولو جامعها في عدمه وعسره ولم يصم حتى أيسر لزمه العتق. ولو ابتدأ بالصوم ثم أيسر فإن كان مضى من صومه صدر صالح نحو الجمعة وشبهها تمادى. وإن كان اليوم واليومين ونحوهما ترك الصوم وعاد إلى العتق وليس ذلك بواجب عليه. ألا ترى أنه غير واجب على من طرأ الماء عليه وهو قد دخل بالتيمم في الصلاة أن يقطع ويبتدئ الطهارة عند مالك. ولو أعتق رقبتين عن كفارتي ظهار أو قتل أو فطر في رمضان وأشرك بينهما في كل واحدة منهما لم يجزه. وهو بمنزلة من أعتق رقبة واحدة عن كفارتين. وكذلك لو صام عنهما أربعة أشهر حتى يصوم عن كل واحدة منهما شهرين. وقد قيل: إن ذلك يجزيه. ولو ظاهر من امرأتين له فأعتق رقبة عن إحداهما بغير عينها لم يجز له وطء واحدة منهما حتى يكفر كفارة أخرى. ولو عين الكفارة عن إحداهما جاز له أن يطأها قبل أن يكفر الكفارة عن الأخرى. ولو ظاهر من أربع نسوة فأعتق عنهن ثلاث رقاب، وصام شهرين، لم يجزه العتق ولا الصيام، لأنه إنما صام عن كل واحدة خمسة عشر يوما، فإن كفر عنهن بالإطعام جاز أن يطعم عنهن مائتي مسكين، وإن لم يقدر فرق بخلاف العتق والصيام، لأن صيام الشهرين لا يفرق والإطعام يفرق. فصل وفيه أربع مسائل: الأولى: ذكر الله عز وجل الكفارة هنا مرتبة، فلا سبيل إلى الصيام إلا عند العجز عن الرقبة، وكذلك لا سبيل إلى الإطعام إلا عند عدم الاستطاعة على الصيام، فمن لم يطق الصيام وجب عليه إطعام ستين مسكينا لكل مسكين مدان يمد النبي صلى الله عليه وسلم. وإن أطعم مدا بمد هشام، وهو مدان إلا ثلثا، أو أطعم مدا ونصفا بمد النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو عمر بن عبدالبر: وأفضل ذلك مدان بمد النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الله عز وجل لم يقل في كفارة الظهار قلت: وهي رواية ابن وهب ومطرف عن مالك: أنه يعطي مدين لكل مسكين بمد النبي صلى الله عليه وسلم. وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه. ومذهب الشافعي وغيره مد واحد لكل مسكين لا يلزمه أكثر من ذلك، لأنه يكفر بالإطعام ولم يلزمه صرف زيادة على المد، أصله كفارة الإفطار واليمين. ودليلنا قوله تعالى{فإطعام ستين مسكينا} وإطلاق الإطعام يتناول الشبع، وذلك لا يحصل بالعادة بمد واحد إلا بزيادة عليه. وكذلك قال أشهب: قلت لمالك أيختلف الشبع عندنا وعندكم؟ قال نعم! الشبع عندنا مد بمد النبي صلى الله عليه وسلم والشبع عندكم أكثر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لنا بالبركة دونكم، فأنتم تأكلون أكثر مما نأكل نحن. وقال أبو الحسن القابسي: إنما أخذ أهل المدينة بمد هشام في كفارة الظهار تغليظا على المتظاهرين الذين شهد الله عليهم أنهم يقولون منكرا من القول وزورا. قال ابن العربي: وقع الكلام ها هنا في مد هشام كما ترون، ووددت أن يهشم الزمان ذكره، ويمحو من الكتب رسمه، فإن المدينة التي نزل الوحي بها واستقر الرسول، بها ووقع عندهم الظهار، وقيل لهم فيه{فإطعام ستين مسكينا} فهموه وعرفوا المراد به وأنه الشبع، وقدره معروف عندهم متقرر لديهم، وقد ورد ذلك الشبع في الأخبار كثيرا، واستمرت الحال على ذلك أيام الخلفاء الراشدين المهديين حتى نفخ الشيطان في أذن هشام، فرأى أن مد النبي صلى الله عليه وسلم لا يشبعه، ولا مثله من حواشيه ونظرائه، فسول له أن يتخذ مدا يكون فيه شبعه، فجعله رطلين وحمل الناس عليه، فإذا ابتل عاد نحو الثلاثة الأرطال، فغير السنة وأذهب محل البركة. قال النبي صلى الله عليه وسلم حين دعا ربه لأهل المدينة بأن تبقى لهم البركة في مدهم وصاعهم، مثل ما بارك لإبراهيم بمكة، فكانت البركة تجري بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم في مده، فسعى الشيطان في تغيير هذه السنة وإذهاب هذه البركة، فلم يستجب له في ذلك إلا هشام، فكان من حق العلماء أن يلغوا ذكره ويمحوا رسمه إذا لم يغيروا أمره، وأما أن يحيلوا على ذكره في الأحكام، ويجعلوه تفسيرا لما ذكر الله ورسول بعد أن كان مفسرا عند الصحابة الذين نزل عليهم فخطب جسيم، ولذلك كانت رواية أشهب في ذكر مدين بمد النبي صلى في كفارة الظهار أحب إلينا من الرواية بأنها بمد هشام. ألا ترى كيف نبه مالك على هذا العلم بقوله لأشهب: الشبع عندنا بمد النبي صلى الله عليه وسلم، والشبع عندكم أكثر لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لنا بالبركة. وبهذا أقول، فإن العبادة إذا أديت بالسنة، فإن كانت بالبدن كانت أسرع إلى القبول، وإن كانت بالمال كان قليلها أثقل في الميزان، وأبرك في يد الآخذ، وأطيب في شدقه، وأقل آفة في بطنه، وأكثر إقامة لصلبه. والله أعلم. الثانية: ولا يجزئ عند مالك والشافعي أن يطعم أقل من ستين مسكينا. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن أطعم مسكينا واحدا كل يوم نصف صاع حتى يكمل العدد أجزأه. الثالثة: قال القاضي أبو بكر بن العربي: من غريب الأمر أن أبا حنيفة قال إن الحجر على الحر باطل. واحتج بقوله تعالى{فتحرير رقبة} ولم يفرق بين الرشيد والسفيه، وهذا فقه ضعيف لا يناسب قدره، فإن هذه الآية عامة، وقد كان القضاء بالحجر في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشيا والنظر يقتضيه، ومن كان عليه حجر لصغر أو لولاية وبلغ سفيها قد نهي عن دفع المال إليه، فكيف ينفذ فعله فيه والخاص يقضي على العام. الرابعة: وحكم الظهار عند بعض العلماء ناسخ لما كانوا عليه من كون الظهار طلاقا، وقد روي معنى ذلك عن ابن عباس وأبي قلابة وغيرهما. قوله تعالى{ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله} أي ذلك الذي وصفنا من التغليظ في الكفارة {لتؤمنوا} أي لتصدقوا أن الله أمر به. وقد استدل بعض العلماء على أن هذه الكفارة إيمان بالله سبحانه وتعالى، لما ذكرها وأوجبها قال{ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله} أي ذلك لتكونوا مطيعين لله تعالى واقفين عند حدوده لا تتعدوها، فسمى التكفير لأنه طاعة ومراعاة للحد إيمانا، فثبت أن كل ما أشبهه فهو إيمان. فإن قيل: معنى قوله{ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله} أي لئلا تعودوا للظهار الذي هو منكر من القول وزور. وقيل له: قد يجوز أن يكون هذا مقصودا والأول مقصودا، فيكون المعنى ذلك لئلا تعودوا للقول المنكر والزور، بل تدعونهما طاعة لله سبحانه وتعالى إذ كان قد حرمهما، ولتجتنبوا المظاهر منها إلى أن تكفروا، إذ كان الله منع من مسيسها، وتكفروا إذ كان الله تعالى أمر بالكفارة وألزم إخراجها منكم، فتكونوا بهذا كله مؤمنين بالله ورسوله، لأنها حدود تحفظونها، وطاعات تودونها والطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم إيمان. وبالله التوفيق. {وتلك حدود الله} أي بين معصيته وطاعته، فمعصيته الظهار وطاعته الكفارة. {وللكافرين عذاب أليم} أي لمن لم يصدق بأحكام الله تعالى عذاب جهنم. {إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم وقد أنزلنا آيات بينات وللكافرين عذاب مهين، يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد} قوله تعالى{إن الذين يحادون الله ورسوله} لما ذكر المؤمنين الواقفين عند حدوده ذكر المحادين المخالفين لها. والمحادة المعاداة والمخالفة في الحدود، وهو مثل قوله تعالى قوله تعالى{يوم} نصب بـ {عذاب مهين} أو بفعل مضمر تقديره واذكر تعظيما لليوم. {يبعثهم الله جميعا} أي الرجال والنساء يبعثهم من قبورهم في حالة واحدة {فينبئهم} أي يخبرهم {بما عملوا} في الدنيا {أحصاه الله} عليهم في صحائف أعمالهم {ونسوه} هم حتى ذكرهم به في صحائفهم ليكون أبلغ في الحجة عليهم. {والله على كل شيء شهيد} مطلع وناظر لا يخفى عليه شيء. {ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم} قوله تعالى{ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض} فلا يخفى عليه سر ولا علانية. {ما يكون من نجوى} قراءه العامة بالياء، لأجل الحائل بينهما. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع والأعرج وأبو حيوة وعيسى {ما تكون} بالتاء لتأنيث الفعل. والنجوى: السرار، وهو مصدر والمصدر قد يوصف به، يقال: قوم نجوى أي ذوو نجوى، ونجوى، ومنه قوله تعالى وقرأ الزهري وعكرمة {أكبر} بالباء. والعامة بالثاء وفتح الراء على اللفظ وموضعها جر. وقال الفراء في قوله{ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم} قال: المعنى غير مصمود والعدد غير مقصود لأنه تعالى إنما قصد وهو أعلم أنه مع كل عدد قل أو كثر، يعلم ما يقولون سرا وجهرا ولا تخفى عليه خافية، فمن أجل ذلك آكتفى بذكر بعض العدد دون بعض. وقيل: معنى ذلك أن الله معهم بعلمه حيث كانوا من غير زوال ولا انتقال. ونزل ذلك في قوم من المنافقين كانوا فعلوا شيئا سرا فأعلم الله أنه لا يخفي عليه ذلك، قال ابن عباس. وقال قتادة ومجاهد: نزلت في اليهود. {ثم ينبئهم} يخبرهم {بما عملوا} من حسن وسيء {يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم}. {ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير} قوله تعالى{ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى} قيل: إن هذا في اليهود والمنافقين حسب ما قدمناه. وقيل: في المسلمين. قال ابن عباس: نزلت في اليهود والمنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم، وينظرون للمؤمنين ويتغامزون بأعينهم، فيقول المؤمنون: لعلهم بلغهم عن إخواننا وقرابتنا من المهاجرين والأنصار قتل أو مصيبة أو هزيمة، ويسوءهم ذلك فكثرت شكواهم إلى النبي صلى ا لله عليه وسلم، فنهاهم عن النجوى فلم ينتهوا فنزلت. وقال مقاتل: كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود موادعة، فإذا مر بهم رجل من المؤمنين تناجوا بينهم حتى يظن المؤمن شرا، فيعرج عن طريقه، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينتهوا فنزلت. وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: كان الرجل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيسأل الحاجة ويناجيه والأرض يومئذ حرب، فيتوهمون أنه يناجيه في حرب أو بلية أو أمر مهم فيفزعون لذلك فنزلت. قوله تعالى{وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله} لا خلاف بين النقلة أن المراد بها اليهود، كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون: السلام عليك. يريدون بذلك السلام ظاهرا وهم يعنون الموت باطنا، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم) في رواية، وفي رواية أخرى (وعليكم). قال ابن العربي: وهي مشكلة. وكانوا يقولون: لو كان محمد نبيا لما أمهلنا الله بسبه والاستخفاف به، وجهلوا أن الباري تعالى حليم لا يعاجل من سبه، فكيف من سب نبيه. قلت: "أخرجه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح" فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى أي لما أجزنا أنتحى فزاد الواو. وقال بعضهم: هي للاستئناف، كأنه قال: والسام عليكم. وقال بعضهم: هي على بابها من العطف ولا يضرنا ذلك، لأنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. وقد اختلف في رد السلام على أهل الذمة هل هو واجب كالرد على المسلمين، وإليه ذهب ابن عباس والشعبي وقتادة، للأمر بذلك. وذهب مالك فيما روى عنه أشهب وابن وهب إلى أن ذلك ليس بواجب فإن رددت فقل عليك. وقد اختار ابن طاوس أن يقول في الرد عليهم: علاك السلام أي ارتفع عنك. واختار بعض أصحابنا: السِّلام بكسر السين يعني الحجارة. وما قال مالك أولى اتباعا للسنة، والله أعلم. قوله تعالى{ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول} قالوا: لو كان محمد نبيا لعذبنا الله بما نقول فهلا يعذبنا الله. وقيل: قالوا إنه يرد علينا ويقول وعليكم السام والسام الموت، فلو كان نبيا لاستجيب له فينا ومتنا. وهذا موضع تعجب منهم، فإنهم كانوا أهل كتاب، وكانوا يعلمون أن الأنبياء قد يغضبون فلا يعاجل من يغضبهم بالعذاب. {حسبهم جهنم} أي كافيهم جهنم عقابا غدا {فبئس المصير} أي المرجع. {يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إليه تحشرون} قوله تعالى{يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم} نهى المؤمنين أن يتناجوا فيما بينهم كفعل المنافقين واليهود فقال{يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم} أي تساررتم. {فلا تتناجوا} هذه قراءة العامة. وقرأ يحيى بن وثاب وعاصم ورويس عن يعقوب {فلا تنتجوا} من الانتجاء {وتناجوا بالبر} أي بالطاعة {والتقوى} بالعفاف عما نهى الله عنه. وقيل: الخطاب للمنافقين، أي يا أيها الذين آمنوا بزعمهم. وقيل: أي يا أيها الذين آمنوا بموسى. {الذي إليه تحشرون} أي تجمعون في الآخرة. {إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون} قوله تعالى{إنما النجوى من الشيطان} أي من تزيين الشياطين {ليحزن الذين آمنوا} إذ توهموا أن المسلمين أصيبوا في السرايا، أو إذا أجروا اجتماعهم على مكايدة المسلمين، وربما كانوا يناجون النبي صلى الله عليه وسلم فيظن المسلمون أنهم ينتقصونهم عند النبي صلى الله عليه وسلم {وليس بضارهم شيئا} أي التناجي {إلا بإذن الله} أي بمشيئته وقيل: بعلمه. وعن ابن عباس: بأمره. {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} أي يكلون أمرهم إليه، ويفوضون جميع شؤونهم إلى عونه، ويستعيذون به من الشيطان ومن كل شر، فهو الذي سلط الشيطان بالوساوس ابتلاء للعبد وامتحانا ولو شاء لصرفه عنه. {يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير} قوله تعالى{يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس} لما بين أن اليهود يحيونه بما لم يحيه به الله وذمهم على ذلك وصل به الأمر بتحسين الأدب في مجالسة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى لا يضيقوا عليه المجلس، وأمر المسلمين بالتعاطف والتآلف حتى يفسح بعضهم لبعض، حتى يتمكنوا من الاستماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم والنظر إليه. قال قتادة ومجاهد: كانوا يتنافسون في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، فأمروا أن يفسح بعضهم لبعض. وقال الضحاك. وقال ابن عباس: المراد بذلك مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب. قال الحسن ويزيد بن أبي حبيب: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قاتل المشركين تشاح أصحابه على الصف الأول فلا يوسع بعضهم لبعض، رغبة في القتال والشهادة فنزلت. فيكون كقوله قرأ السلمي وزر بن حبيش وعاصم {في المجالس}. وقرأ قتادة وداود بن أبي هند والحسن باختلاف عنه {إذا قيل لكم تفاسحوا} الباقون {تفسحوا في المجلس} فمن جمع فلأن قوله{تفسحوا في المجالس} ينبئ أن لكل واحد مجلسا. وكذلك إن أريد به الحرب. وكذلك يجوز أن يراد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وجمع لأن لكل جالس مجلسا. وكذلك يجوز إن أريد بالمجلس المفرد مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، ويجوز أن يراد به الجمع على مذهب الجنس، كقولهم: كثر الدينار والدرهم. قلت: الصحيح في الآية أنها عامة في كل مجلس اجتمع المسلمون فيه للخير والأجر، سواء كان مجلس حرب أو ذكر أو مجلس يوم الجمعة، فإن كل واحد أحق بمكانه الذي سبق إليه قال صلى الله عليه وسلم: إذا قعد واحد من الناس في موضع من المسجد لا يجوز لغيره أن يقيمه حتى يقعد مكانه، لما إذا أمر إنسان إنسانا أن يبكر إلى الجامع فيأخذ له مكانا يقعد فيه لا يكره، فإذا جاء الآمر يقوم من الموضع، لما روي: أن ابن سيرين كان يرسل غلامه إلى مجلس له في يوم الجمعة فيجلس له فيه، فإذا جاء قام له منه. فرع وعلى هذا من أرسل بساطا أو سجادة فتبسط له في موضع من المسجد. قوله تعالى{يفسح الله لكم } أي في قبوركم. وقيل: في قلوبكم. وقيل: يوسع عليكم في الدنيا والآخرة. {وإذا قيل انشزوا فانشزوا} قرأ نافع وابن عامر وعاصم بضم الشين فيهما. وكسر الباقون، وهما لغتان مثل قوله تعالى{يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} أي في الثواب في الآخرة وفي الكرامة في الدنيا، فيرفع المؤمن على من ليس بمؤمن والعالم على من ليس بعالم. وقال ابن مسعود: مدح الله العلماء في هذه الآية. والمعنى أنه يرفع الله الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم {درجات} أي درجات في دينهم إذا فعلوا ما أمروا به. وقيل: كان أهل الغنى يكرهون أن يزاحمهم من يلبس الصوف فيستبقون إلى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فالخطاب لهم. ورأى عليه الصلاة والسلام رجلا من الأغنياء يقبض ثوبه نفورا من بعض الفقراء أراد أن يجلس إليه فقال: قلت: والعموم أوقع في المسألة وأولى بمعنى الآية، فيرفع المؤمن بإيمانه أولا ثم بعلمه ثانيا. وفي الصحيح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقدم عبدالله بن عباس على الصحابة، فكلموا في ذلك فدعاهم ودعاه، وسألهم عن تفسير {يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم} قوله تعالى{يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول} {ناجيتم} ساررتم. قال ابن عباس: نزلت بسبب أن المسلمين كانوا يكثرون المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه، فأراد الله عز وجل أن يخفف عن نبيه صلى الله عليه وسلم، فلما قال ذلك كف كثير من الناس. ثم وسع الله عليهم بالآية التي بعدها. وقال الحسن: نزلت بسب أن قوما من المسلمين كانوا يستخلون النبي صلى الله عليه وسلم ويناجونه، فظن بهم قوم من المسلمين أنهم ينتقصونهم في النجوى، فشق عليهم ذلك فأمرهم الله تعالى بالصدقة عند النجوى ليقطعهم عن استخلافه. وقال زيد بن أسلم: نزلت بسبب أن المنافقين واليهود كانوا يناجون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: إنه أذن يسمع كل ما قيل له، وكان لا يمنع أحدا مناجاته. فكان ذلك يشق على المسلمين، لأن الشيطان كان يلقي في أنفسهم أنهم ناجوه بأن جموعا اجتمعت لقتاله. قال: فأنزل الله تبارك وتعالى قال ابن العربي: وفي هذا الخبر عن زيد ما يدل على أن الأحكام لا تترتب بحسب المصالح، فإن الله تعالى قال{ذلك خير لكم وأطهر} ثم نسخه مع كونه خيرا وأطهر. وهذا رد على المعتزلة عظيم في التزام المصالح، لكن راوي الحديث عن زيد ابنه عبدالرحمن وقد ضعفه العلماء. والأمر في قوله تعالى{ذلك خير لكم وأطهر} نص متواتر في الرد على المعتزلة. والله أعلم. قلت: الظاهر أن النسخ إنما وقع بعد فعل الصدقة. وقد روي عن مجاهد: أن أول من تصدق في ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه وناجى النبي صلى الله عليه وسلم. روي أنه تصدق بخاتم. وذكر القشيري وغيره عن علي بن ابن طالب أنه قال: في كتاب الله آية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي، وهي{يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بن يدي نجواكم صدقة} كان لى دينار فبعته، فكنت إذا ناجيت الرسول تصدقت بدرهم حتى نفد، فنسخت بالآية الأخرى قوله تعالى{ذلك خير لكم} أي من إمساكها {وأطهر} لقلوبكم من المعاصي {فإن لم تجدوا} يعني الفقراء {فإن الله غفور رحيم}. {أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله والله خبير بما تعملون} قوله تعالى{أأشفقتم} استفهام معناه التقرير. قال ابن عباس{أأشفقتم} أي أبخلتم بالصدقة، وقل: خفتم، والإشفاق الخوف من المكروه. أي خفتم وبخلتم بالصدقة وشق عليكم {أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات} قال مقاتل بن حيان: إنما كان ذلك عشر ليال ثم نسخ. وقال الكلبي: ما كان ذلك إلا ليلة واحدة. وقال ابن عباس: ما بقي إلا ساعة من النهار حتى نسخ. وكذا قال قتادة. والله أعلم. قوله تعالى{فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم} أي نسخ الله ذلك الحكم. وهذا خطاب لمن وجد ما يتصدق به {فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} فنسخت فرضية الزكاة هذه الصدقة. وهذا يدل على جواز النسخ قبل الفعل، وما روي عن علي رضي الله عنه ضعيف، لأن الله تعالى قال{فإذ لم تفعلوا} وهذا يدل على أن أحدا لم يتصدق بشيء. والله أعلم. {وأطيعوا الله} في فرائضه {ورسوله والله خبير بما تعملون} في سننه {والله خبير بما تعملون}. {ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون، أعد الله لهم عذابا شديدا إنهم ساء ما كانوا يعملون، اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين} قوله تعالى{ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم} قال قتادة: هم المنافقون تولوا اليهود {ما هم منكم ولا منهم} يقول: ليس المنافقون من اليهود ولا من المسلمين بل هم مذبذبون بين ذلك، وكانوا يحملون أخبار المسلمين إليهم. {لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون، يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون، استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون} قوله تعالى{لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا} أي من عذابه شيئا. وقال مقاتل: قال المنافقون إن محمدا يزعم أنه ينصر يوم القيامة، لقد شقينا إذا فوالله لننصرن يوم القيامة بأنفسنا وأولادنا وأموالنا إن كانت قيامة. فنزلت{يوم يبعثهم الله جميعا} أي لهم عذاب مهين يوم يبعثهم {فيحلفون له كما يحلفون لكم} اليوم. وهذا أمر عجيب وهو مغالطتهم باليمين غدا، وقد صارت المعرف ضرورية. وقال ابن عباس: هو قولهم قوله تعالى{استحوذ عليهم الشيطان} أي غلب واستعلى، أي بوسوسته في الدنيا. وقيل: قوي عليهم. وقال المفضل: أحاط بهم. ويحتمل رابعا أي جمعهم وضمهم. يقال: أحوذ الشيء أي جمعه وضم بعضه إلى بعض، وإذا جمعهم فقد غلبهم وقوي عليهم وأحاط بهم. {فأنساهم ذكر الله} أي أوامره في العمل بطاعته. وقيل: زواجره في النهي عن معصيته. والنسيان قد يكون بمعنى الغفلة، ويكون بمعنى الترك، والوجهان محتملان هنا. {أولئك حزب الشيطان} طائفته ورهطه {ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون} في بيعهم، لأنهم باعوا الجنة بجهنم، وباعوا الهدى بالضلالة. {إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين، كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز} قوله تعالى{إن الذين يحادون الله ورسوله} تقدم. {أولئك في الأذلين} أي من جملة الأذلاء لا أذل منهم {كتب الله لأغلبن} أي قضى الله ذلك. وقيل: كتب في اللوح المحفوظ، عن قتادة. الفراء: كتب بمعنى قال. {أنا} توكيد {ورسلي} من بعث منهم بالحرب فإنه غالب بالحرب، ومن بعث منمهم بالحجة فإنه غالب بالحجة. قال مقاتل قال المؤمنون: لئن فتح الله لنا مكة والطائف وخيبر وما حولهن رجونا أن يظهرنا الله على. فارس والروم، فقال عبدالله بن أبي ابن سلول: أتظنون الروم وفارس مثل القرى التي غلبتم عليها؟! والله إنهم لأكثر عددا، وأشد بطشا من أن تظنوا فيهم ذلك، فنزلت{لأغلبن أنا ورسلي}. نظيره {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون} قوله تعالى{لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون} أي يحبون ويوالون {من حاد الله ورسوله} تقدم {ولو كانوا آباءهم} استدل مالك رحمه الله من هذه الآية على معاداة القدرية وترك مجالستهم. قال أشهب عن مالك: لا تجالس القدرية وعادهم في الله، لقوله تعالى{لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله}. قلت: وفي معنى أهل القدر جميع أهل الظلم والعدوان. وعن الثوري أنه قال: كانوا يرون أنها نزلت في من كان يصحب السلطان. وعن عبدالعزيز بن أبي داود أنه لقي المنصور في الطواف فلما عرفه هرب منه وتلاها. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول:
|