الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **
ومقدمه على السلطان لما هلك السلطان أبو الحجاج سنة خمس وخمسين ونضب ابنه محمد للأمر واستبد عليه رضوان مولى أبيه وكان قد رشح ابنه الأصغر إسماعيل بما ألقى عليه وعلى أمه من محبته.فلما عدلوا بالأمر عنه حجبوه ببعض قصورهم وكان له صهر من ابن عمه محمد بن إسماعيل ابن الرئيس أبي سعيد في شقيقه فكان يدعوه سراً إلى القيام بأمره حتى أمكنته فرصة في الدولة فخرج السلطان إلى بعض متنزهاته برياضه فصعد سور الحمراء ليلة سبع وعشرين لرمضان من سنة ستين في أوشاب جمعهم من الطغام لثورته. وعمد إلى دار الحاجب رضوان فاقتحم عليه الدار وقتله بين حرمه وبناته.وقربوا إلى إسماعيل فرسه وركبه فأدخلوه القصر وأعلنوا ببيعته. وقرعوا طبولهم بسور الحمراء وفر السلطان من مكانه بمتنزهه فلحق بوادي آش. وغدا الخاصة والعامة على إسماعيل فبايعوه. واستبد عليه هذا الرئيس ابن عمه.ثم قتله لأشهر من بيعته واستقل بسلطان الأندلس ولما لحق السلطان أبو عبد الله بوادي آش بعد مقتل حاجبه رضوان واتصل الخبر بالسلطان المولى أبي سالم امتعض لمهلك رضوان وخلع السلطان رعيا لما سلف له في جوارهم.وأزعج لحينه أبا القاسم الشريف من أهل مجلسه لاستقدامه فوصل إلى الأندلس وعقد مع أهل الدولة على إجازة المخلوع من وادي آش إلى المغرب وأطلق من اعتقالهم الوزير الكاتب أبا عبد الله بن الخطيب كانوا اعتقلوه لأول أمره لما كان رديفاً للحاجب رضوان وركنا لدولة المخلوع فأوصر المولى أبو سالم إليهم بإطلاقه فأطلقوه.ولحق الرسول أبو القاسم بسلطانه المخلوع بوادي آش للإجازة إلى المغرب وأجاز لذي القعدة من سنته. وتم على السلطان بفاس فأجل قدومه وركب للقائه ودخل به إلى مجلس ملكه وقد احتفل بزينته وغص بالمشيخة والعلية.ووقف وزيره ابن الخطيب فأنشد السلطان قصيدته الرائية يستصرخه لسلطانه ويستحثه لمظاهرته على أمره. واستعطف واسترحم بما أبكى الناس شفقة ورحمة.ونص القصيدة سلا هل لديها من مخبرة ذكر وهل أعشب الوادي ونم به الزهر وهل باكر الوسمي داراً على اللوا عفت آيها إلا التوهم والذكر وجوي الذي ربى جناحي وكره فها أنا ذا مالي جناح ولا وكر نبت بي لا عن جفوة وملالة ولا نسخ الوصل الهني بها هجر ولكنها الدنيا قليل متاعها ولذاتها دأباً تزور وتزور فمن لي بنيل القرب منها ودوننا مدى طال حتى يومه عندنا شهر ولله عيناً من رآنا وللأسى ضرام له في كل جانحة جمر وقد بددت در الدموع يد النوى وللبين أشجان يضيق لها الصدر بكينا على النهر السرور عشية فعاد أجاجاً بعدنا ذلك النهر أقول لأظغاني وقد غالها السرى وآنسها الحادي وأوحشها الزجر رويدك بعد العسر يسر فابشري بإنجاز وعد الله قد ذهب العسر ولله فينا سر غيب وربما أتى النفع من حال يكون بها الضر وإن تجبن الأثام لم يجبن النهى وإن تخذل الأقوام لم يخذل الصبر وإن عركت مني الخطوب مجرياً نفاقاً تساوى عنده الحلو والمر بمنتخب من آل يعقوب كلما دجا الخطب لم يكذب لعزمته فخر تناقلت الركبان طيب حديثه فلما رأته صدق الخبر
وبأس غدا يرتاع من خوفه الردى وترفل في أذياله البتكة البكر أطاعته حتى العصم في قنن الربا وهشت إلى تأميله الأنجم الزهر قصدنا لك يا مولى الملوك على النوى لتنصفنا مما جنى عبدك الدهر كففنا بك الأيام عن غلوائها وقد رابنا منها التعسف والكبر وعدنا بذاك المجد فانصرف الردى ولذنا بذاك العز فانهزم الذعر ولما أتينا البحر يرهب موجه ذكرنا بذاك الغمر فاحتقر البحر خلافتك العظمى ومن لم يدن بها فإيمانه لغو وعرفانه نكر ووصفك يهدي المدح قصد صوابه إذا ضل في أوصاف من دونك الشعر دعتك قلوب المسلمين وأخلصت ولد طاب منها السر لله والجهر وأمنت بالسلم البلاد وأهلها فلا ضيمة تعدو ولا روعة تعرو وقد كان مولانا أبوك مصرحاً بأنك في أبنائه الولد البر وكنت حقيقاً بالخلافة بعده على الفور لكن كل شيء له قدر فأوحشت من دار الخلافة هالة أقامت زماناً لا يلوح بهما البدر ورد عليك الله حقك إذ قضى بأن تشمل النعمى وينسدل الستر وقاد إليك الملك رفقاً بخلقه وقد عدموا ركن الأمانة واضطروا وزادك بالتمحيص عزاً ورفعة وأجراً ولولا السبك ما عرف التبر وأنت الذي تدعى إذا دهم الردى وأنت الذي ترجى إذا أخلف القطر وأنت إذا جار الزمان بحكمه لك النقض والإبرام والنهي والأمر وهذا ابن نصر قد أتى وجناحه كسير ومن علياك يلتمس الجبر غريب يرجي منك ما أنت أهله فإن كنت تبغي الفخر قد جاءك الفخر فعد يا أمير المسلمين لبيعة موثقة قد حل عقدتها الغدر فإن قيل مال مالك الدثر وافر وإن قيل جيش عندك العسكر المجر يكف بك العادي ويحيا بك الهدى ويبني بك الإسلام ما هدم الكفر أعده إلى أوطانه عنك ثانياً وقلده نعماك التي ما لها حصر وعاجل قلوب الناس فيه بجبرها فقد صدهم عنه التغلب والقهر وهم يرقبون الفعل منك وصفقة تحاولها يمناك ما بعدها خسر مرامك سهل لا يؤدك كفله سوى عرض ما إن له في العلى حظر وما العمر إلا زينة مستعارة ترد ولكن الثناء هو العمر ومن باع ما يفنى بباق مخلد فقد انجح المسعى وقد ربح التجر ومن دون ما يبغيه يا مالك العلا جياد المذاكي والمحجلة الغر وراد وشقر واضحات شياتها فأجسامها تبر وأرجلها در وشهب إذا ما ضمرت يوم غارة مطهمة غارت بها الأنجم الزهر وأسد رجال من مرين أعزة عمائمها بيض وآسالها سمر وإن سمعوا العوراء فروا بأنفس حرام على هماتها في الوغى الفر وإن مدحوا اهتزوا ارتياحاً كأنهم نشاوى تمشت في معاطفهم خمر وتبسم ما بين الوشيج ثغورهم وما بين قضب الدوح يبتسم الزهر أمولاي غاضت فكرتي وتبلدت طباعي فلا طبع يعين ولا فكر ولولا حنان منك داركتني به وأحييتني لم يبق عين ولا إثر فأوجدت مني فائتاً أي فائت وأنشرت ميتاً ضم أشلاءه قبر بدأت بفضل لم أكن لعظيمه بأهل فجل اللطف وانشرح الصدر وطوقتني النعمى المضاعفة التي يقل عليها مني الحمد والشكر وأنت بتتميم الصنائع كافل إلى أن يعود العز والجاه والوقر جزاك الذي أسنى مقامك رحمة تفك بها العاني وينعش مضطر إذا نحن أثنينا عليك بمدحة فهيهات يحصى الرمل أو يحصر القطر ولكننا نأتي بما نستطيعه ومن بذل المجهود حق له العذر الصنائع.وانحفظ عليه رسم سلطانه في الموكب والرجل ولم يفقد من ألقاب ملكه إلا الآلة أدباً مع السلطان.واستقر في جملته إلى أن كان من لحاقه بالأندلس وارتجاع ملكه سنة ثلاث وستين ما نذكره إن شاء الله تعالى.
لما فصل الوزير الحسن بن عمر إلى مراكش واستقر بها تأثل له بها سلطان ورياسة نفسها عليه الوزراء بمجلس السلطان وسعوا في تنكر السلطان له حتى أظلم الجو بينهما.وشعر الوزير بذلك فارتاب بمكانه وخشي بادرة السلطان على نفسه.وخرج من مراكش في شهر صفر من سنة إحدى وستين فلحق بتادلا منحرفاً عن الطاعة مرتكباً في أمره. وتلقاه بنو جابر من جشم واعصوصبوا عليه وأجاروه.وجهز السلطان عساكره إلى حربه وعقد عليها لوزيره الحسن بن يوسف وسرحه إليه فاحتل بتادلا.ولحق الحسن بن عمر بالجبل واعتصم به مع حسين بن علي الورديغي كبيرهم.وأحاطت بهم العساكر وأخذوا بمخنقهم. وداخل الوزير بعض أهل الجبل من صناكة في الثورة بهم. وسرب إليهم المال فثاروا بهم وانفض جمعهم.وتقبض على الحسن بن عمر وقادوه برفته إلى عسكر السلطان فاعتقله الوزير وانكفأ راجعاً إلى الحضرة وقدم به على السلطان في يوم مشهود استركب السلطان فيه العسكر.وجلس ببرج الذهب مقعده من ساحة البلد لاعتراض عساكره. وحمل الحسن بن عمر على جمل طائف به بين أهل ذلك المحشر.وقرب إلى المجلس فأومأ إلى تقبيل الأرض فوق جمله وركب السلطان إلى قصره. وانفض الجميع وقد شهدوا عبرة من عبر الدنيا. ودخل السلطان قصره واقتعد أريكته واستدعى خاضته وجلساءه. وأحضره فوبخه وقرر عليه مرتكبه فتلوى بالمعاذير وفزع إلى الإنكار.حضرت يومئذ هذا المجلس فيمن حضره من العلية والخاصة فكان مقاماً تسيل فيه العيون رحمة وعبرة.ثم أمر به السلطان فسحب على وجهه ونتفت لحيته وضرب بالعصا. وتل إلى محبسه وقتل لليال من اعتقاله قعصاً بالرماح بساحة البلد. وصلب شلوه بسور البلد عند باب المحروق وأصبح مثلاً في الآخرين.
كان السلطان أبو الحسن لما أهدى إلى ملك السودان منسا سليمان بن منسا موسى هديته المذكورة في خبره اعتمل في مكافأته وجمع لمهاداته من طرف أرضه وغرائب بلاده.وهلك السلطان أبو الحسن خلال ذلك. ووصلت الهدية إلى أقصى تخومهم من والأتن. هلك منسا سليمان قبل وصولها. واختلف أهل مالي وافترق ملكهم. وتواثب ملوكهم على الأمر وقتل بعضهم بعضاً.وشغلوا بالفتنة حتى قام فيهم منسا جاطه واستوسق له أمرهم ونظر في أعطاف ملكه.وأخبر بشأن الهدية وأخبر أنها بوالاتن فأمر بإنفاذها إلى ملك المغرب. وضم إليها الزرافة الحيوان الغريب الشكل العظيم الهيكل المختلف الشبه بالحيوانات. وفصلوا بها من بلادهم فوصلوا إلى فاس في صفر من سنة اثنتين وستين. وكان يوم وفادتهم يوماً مشهوداً جلس لهم السلطان ببرج الذهب مجلس العرض.ونودي في الناس بالبروز إلى الصحراء فبرزوا ينسلون من كل حدب حتى غص بهم الفضاء وركب بعضهم بعضاً في الازدحام على الزرافة إعجابا بخلقها. وأنشد الشعراء في عرض المدح والتهنية ووصف الحال.وحضر الوفد بين يدي السلطان وأدوا رسالاتهم بتأكيد الود والمخالصة والعذر عن إبطاء الهدية بما كان من اختلاف أهل مالي وتواثبهم على الأمر وتعظيماً سلطانهم وما صاروا إليه والترجمان يترجم عنهم وهم يصدقونه بالنزع في أوتار قسيهم عادة معروفة لهم. وحيوا السلطان يحثون التراب على رؤوسهم على سنة ملوك العجم. ثم ركب السلطان وانفض ذلك المجلس وقد طار به الذكر.واستقر ذلك الوفد في إيالة السلطان وتحت جرايته وهلك السلطان قبل انصرافهم فوصلهم القائم بالأمر من بعده. وانصرفوا إلى مراكش وأجازوا منها إلى ذوي حسان عرب السوس من المعقل المتصلين ببلادهم.
وإيثار أبي زيان حافد أبي تاشفين بملكها. وما كان مع ذلك من صرف أمراء الموحدين إلى بلدهم لما استقل السلطان بملك المغرب سنة ستين كما ذكرناه وكان العامل على درعة عبد الله بن مسلم الزردالي من أخلاف بني عبد الواد وشيعة آل زيان اصطنعه السلطان أبو الحسن عند تغلبه على تلمسان. واستعمله ابنه أبو عنان بعد ذلك على بلاد درعة كما ذكرناه.وتولى المكر بأبي الفضل ابن السلطان أبي الحسن حين خروجه على أخيه السلطان أبي عنان بجبل ابن حميدي فارتاب عند استقلال المولى أبي سالم بالأمر.وخشي بادرته لما نابهم من حقده عليه بسبب أخيه أبي الفضل لما بينهما من لحمة الاغتراب فداخل بطانة له من عرب المعقل واحتمل ذخائره وأمواله وأهله وقطع القفر والى تلمسان.ولحق بالسلطان أبي حمو آخر سنة ستين فنزل منه خير نزل.وعقد له لحين وصوله على وزارته وبإهابه وبمكانه. وفوض إليه في التدبير والحال والعقد.وشمر هو عن ساعده في الخدمة. وجاجأ بعرب المعقل من مواطنيهم رغبة في ولايته وإيثاراً لمكانه من الدولة. ورهبة من السلطان بالمغرب لما كانوا ارتكبوه من مواقفة بني مرين كرة بعد أخرى فاستقروا بتلمسان وانحاشوا جميعاً إلى بني عبد الواد.وبعث السلطان إلى أبي حمو في شأن عاملهم عبد الله بن مسلم فلم يرجع له جواباً عنه.وحظر عليه ولاية المعقل أهل وطنه فلج في شأنهم فأجمع السلطان أمره على النهوض إليه.واضطرب معسكره بساحة البلد وفتح ديوان العطاء. ونادى في الناس بالنفير إلى تلمسان وأزاح العلل.وبعث الحاشرين من وزرائه إلى مراكش فتوافت حشود الجهات ببابه وفصل من فاس في جمادى من سنة إحدى وستين.وجمع أبو حمو في إيالته وعلى التشيع لدولته من زنانة والعرب من بني عامر والمعقل كافة ما عدا العمارنة كان أميرهم الزبير بن طلحة متحيزاً إلى السلطان. وأجفلوا عن تلمسان وخرجوا إلى الصحراء. ودخل السلطان إلى تلمسان ثالث رجب.وخالفه أبو حمو وأشياعه إلى المغرب فنزلوا كرسيف بلد ونزمار بن عريف وخربوه.واكتسحوا ما وجدوا فيه حنقاً على ونزمار وقومه بولاية بني مرين. وتخطوا إلى وطاط فعاثوا في نواحيه. وانقلبوا إلى أنكاد. وبلغ السلطان خبرهم فتلافى أمر المغرب.وعقد على تلمسان لحافد من حفدة السلطان أبى تاشفين كان ربي في حجرهم وتحت كفالة نعمتهم وهو أبو زيان محمد بن عثمان وشهرته بالفتى. وأنزله بالقصر القديم من تلمسان وعسكر عليه زناتة الشرق كلهم.واستوزر له ابن عمته عمر بن محمد بن إبراهيم بن مكن ومن أبناء وزرائهم سعيد بن موسى بن علي وأعطاه عشرة أحمال. من المال دنانير ودراهم. ودفع إليه الآلة.وذكر حينئذ لمولانا السلطان أبي العباس سوابقه وإيلافه في المنزل الخشن فنزل له عن محل إمارته قسنطينة.وصرف أيضاً المولى أبا عبد الله صاحب بجاية لاسترجاع بلده بجاية فعقد لهما بذلك وحملهما.وخلع عليهما وأعطاهما حملين من المال.وكانت بجاية لذلك العهد قد تغلب عليها عمهم المولى أبو إسحاق إبراهيم صاحب تونس فكتب إلى عاملهم على قسنطينة منصور بن الحاج خلوف أن ينزل عن بلده لمولانا السلطان أبي العباس ويمكنه منها.وودع هؤلاء الأمراء وانكفأ راجعاً إلى حضرته لسد ثغور المغرب وحسم داء العدوة فدخل فاس في شعبان من سنته.ولم يلبث أن رجع أبو زيان على أثره بعد أن أجفل عن تلمسان ولحق بوانشريش. وتغلب عليه أبو حمو وفض جموعه فلحق بالسلطان. واستقل أبو حمو بملك تلمسان. وبعث في السلم إلى السلطان فعقد له من ذلك ما رضيه كما نذكره.
واستيلاء حمو بن عبد الله علي ملك المغرب. ونصبه للملوك واحدا بعد آخر إلى أن هلك كان السلطان قد غلب على هواه الخطيب أبو عبد الله بن مرزوق وكان من خبره أن سلفه من أهل رباط الشيخ أبي مدين وكان جده قائماً على خدمة قبره ومسجده واتصل القيام على هذا الرباط في عقبه. وكان جده الثالث محمد معروفاً بالولاية. ولما مات دفنه يغمراسن بالقصر القديم ليجاوره بجدثه تبركاً به. وكان ابنه أحمد أبو محمد هذا قد ارتحل إلى المشرق. وجاور الحرمين إلى أن هلك وربي محمد ابنه بالمشرق ما بين الحجاز ومصر. وقفل إلى المغرب بعد أن شدا شيئاً في الطلب وتفقه على أولاد الإمام. ولما ابتنى السلطان أبو الحسن مسجد العباد ولاه الخطابة به وسمعه يخطب على المنبر وقد أحسن في ذكره والدعاء له فحلي بعينه واستخلصه لنفسه وأحله محل القرب من مجلسه. وجعله خطيباً حيث يصلي في مساجد المغرب وسفر عنه إلى الملوك.ولما كانت نكبة القيروان خلص إلى المغرب واستقر برباط العباد محل سلفه بعد أحوال أضربنا عن ذكرها اختصاراً.ولما خلص السلطان إلى الجزائر داخله أبو سعيد صاحب تلمسان في السفارة عنه إلى السلطان أبي الحسن وإصلاح بينهما فسار لذلك. ونقمه أبو ثابت وبنو عبد الواد ونكروه على سلطانهم.وسرحوا صغير بن عامر في اتباعه فتقبض عليه وأودعه المطبق.ثم شخصوه بعد حين إلى الأندلس فاتصل بأبي الحجاج صاحب غرناطة. وولاه ظابته ولما اشتهر به من إجادة الخطبة للملوك بزعمهم. وألف السلطان أبا سالم في مثوى غربته من غرناطة وشاركه عند أبي الحجاج في مهماته. ولما نزل بجبال غمارة داخل بني مرين والوزراء في القيام بدعوته.وكان له في ذلك مقام محمود فرعى السلطان وسائله وموالاته القديمة والحادثة إلى مقامه عند أبيه. فلما استوسق له ملك المغرب اختصه بولايته وألقى عليه محبته وعنايته. وكان مؤامره ونجي خلوته والغالب على هواه فانصرفت إليه الوجوه وخضعت له الرقاب ووطئ عتبته الأشراف والوزراء وعكف على بابه القواد والأمراء وصار زمام الدولة بيده. وكان يتجافى عن ذلك أكثر أوقاته حذراً من المغبة. ويزجر من يتعرض له في الشكاية ويردهم إلى أصحاب المراتب والخطط بباب السلطان وهم يعلمون أنه قد ضرب على أيديهم فنقموا ذلك عليه وسخطوا الدولة من أجله. ومرضت قلوب أهل الحل والعقد من تقدمه. ونفس عليه الوزراء ما تعين له عند السلطان من الحظ فتربصوا بالدولة. وشمل هذا الداء الخاصة والعامة.وكان عمر بن عبد الله بن علي لما هلك أبوه الوزير عبد الله بن علي في جمادى سنة ستين عند استيلاء السلطان على ملكه تجلت شفاه الدولة إلى تراثه.وكان مثرياً فاستجار منهم بابن مرزوق وساهمه من تراث أبيه بعد أن حملوا السلطان على النبل منه والإهانة به فأجاره منهم. ورفع عند السلطان رتبته وحمله على الإصهار إليه بأخته. وقلده السلطان أمانة البلد الجديد دار ملكه متى عنت له الرحلة عنها. وأصهر عمر إلى وزير الدولة مسعود بن ماساي تسكيناً لغربه واستخلاصا لمودته. وسفر عن السلطان إلى صاحب تلمسان في شعبان من سنة اثنتين وستين. ونمي عنه أنه داخل صاحب تلمسان في بعض المكر فهم بنكبته وقتله. ودافع عنه ابن مرزوق فخلص من عقابه. وطوى من ذلك على النث وتربص الدولة. وأعيد إلى مكانه من الأمانة على دار الملك أول ذي القعدة مرجعه من تلمسان لما كان السلطان قد تحول عنها إلى القصبة بفاس واختط إيواناً فخماً لجلوسه بها لصق قصوره متعنياً الأبردين. فلما استولى عمر على دار الملك حدثته نفسه بالتوثب.وسول له ذلك ما اطلع عليه من مرض القلوب والنكير على الدولة بمكان ابن مرزوق من السلطان فداخل قائد جند النصارى غرسية بن أنطون. وتعدوا لذلك ليلة الثلاثاء لسبع عشرين ذي القعدة سنة اثنتين وستين.وخلصوا إلى تاشفين الموسوس ابن السلطان أبي الحسن بمكانه من البلد الجديدة فخلعوا عليه وألبسوه شارة الملك. وقربوا له مركبة وأخرجوه إلى أريكة السلطان فأقعدوه عليها. وأكرهوا شيخ الحامية والناشبة محمد بن الزرقاء على البيعة له. وجهروا بالخلعان وقرعوا الطبول ودخلوا إلى مودع المال فأفاضوا العطاء من غير تقدير ولا حسبان.وماج أهل البلد الجديد من الجند بعضهم في بعض واختطفوا ما وصل إليهم من العطاء.وانتهبوا ما كان بالمخازن الخارجة من السلع والعدة. وأضرموا النار في بيوتها ستراً على ما ضاع منها. وأصبح السلطان بمكانه من القصبة فركب واجتمع إليه من حضر من الأولياء والقبائل.وغدا على البلد الجديد وطاف بها يروم فيها منفذاً فاستصعبت واضطرب معسكره بكدية العرايس لحصارها. ونادى في الناس بالاجتماع إليه.ونزل عند قائلة الهاجرة بفسطاطه فتسايل الناس عنه إلى البلد الجديد فوجاً بعد فوج بمرأى منه إلى أن سار إليها أهل خاصته ومجلسه فطلب النجاة بنفسه وركب في لمة من الفرسان مع وزرائه مسعود بن رحو وسليمان بن داود ومقدم الموالي والجند ببابه سليمان بن ونصار.وأذن لابن مرزوق في الدخول إلى داره ومضى على وجهه. ولما غشيهم الليل انفضوا عنه.ورجع الوزيران إلى دار الملك فتقبض عليهما عمر بن عبد الله ومساهمه غرسية بن أنطون واعتقلاهما متفرقين.وأشخص علي بن مهدي بن يرزيجن في طلب السلطان فعثر عليه نائماً في بعض المجاشر بوادي ورغة وقد نزع عنه لباسه اختفاء بشخصه. وتوارى عن العيون بمكانه فتقبض عليه وحمله على بغل. وطير بالخبر إلى عمر بن عبد الله فأزعج لتلقيه شعيب بن ميمون بن داود وفتح الله بن عامر بن فتح الله.وأمرهما بقتله وإنفاذ رأسه فلقياه بخندق القصب وراء كدية العرائس. وأمرا بعض جند النصارى أن يتولى ذبحه. وحمل رأسه في مخلاة فوضعه بين يده الوزير والمشيخة. واستقل عمر بالأمر ونصب الموسوس تاشفين يموه به على الناس. وجرت الأمور إلى غايتها. ولكل أجل كتاب.
ثم خروج يحيي بن رحو وبني مرين عن الطاعة لما تقبض عمر بن عبد الله على الوزير جعل معتقل سليمان بن داود بدار غرسية قائد النصارى ومعتقل ابن ماساي بداره صيانة عن الامتهان لمكان صهره ولما كان يؤمل منه من الاستظهار على أمره بعصابته من الأبناء والأخوة والقرابة.وكان غرسية بن أنطون صديقاً لسليمان بن ونصار. فلما رجح عن السلطان ليلة انفضاضهم نزل عليه وكان يعاقره الخمر فباثه شجوه وتفاوضاً في اغتيال عمر وإقامة معتقله سليمان بن داود في الوزارة بما هو عليه من السن ورسوخ القدم في الأمر.ونمي إلى عمر الخبر فارتاب وكان خلواً من العصابة ففزع إلى القائد الموكب السلطاني من الرجل الأندلسيين يومئذ إبراهيم البطروحي فباثه أمره وبايعه على الاستماتة دونه.ثم استقل عصابتهم ففزع إلى يحيى بن رحو شيخ بني مرين وصاحب شوراهم فشكا إليه فأشكاه ووعده الفتك بابن أنطون وأصحابه.وانبرم عقد ابن أنطون وسليمان بن ونصار على شأنهم وغدوا إلى القصر.وأدخل ابن أنطون طائفة من النصارى للاستظهار بهم.ولما توافت بنو مرين بمجلس السلطان على عادتهم وطعموا دعا عمر بن عبد الله القائد ابن أنطون بين يدي يحيى بن رحو وقد أحضر البطروحي رجل الأندلسيين فسأله تحويل سليمان بن داود من داره إلى السجن فأبى وضن به عن الإهانة ينال مثلها من ابن ماساي صاحبه فأمر عمر بن عبد الله بالتقبض عليه فكشر في وجوه الرجال واخترط سكينه للمدافعة فتواثب به بنو مرين وقتلوه لحينه.واستلحموا من وجدوا بالدار من جند النصارى بعد جولة.وفروا إلى معسكرهم ويعرف بالملاح جوار البلد الجديد. وأرجف الغوغاء بالمدينة أن ابن أنطون غدر بالوزيرة فقتل جند النصارى حيث وجدوا من سكك المدينة. وتزاحفوا إلى الملاح لاستلحام من به من الجند.وركب بنو مرين لحماية جندهم من معرة الغوغاء. وانتهب يومئذ الكثير من أموالهم وأمتعتهم وقتل النصارى كثيراً من المجان كانوا يعاقرون الخمر بالملاح. واستبد عمر بالدار واعتقل سليمان بن ونصار إلى الليل وبعث من قتله بمحبسه.وحول سليمان بن داود إلى بعض الدور بدار الملك واعتقله بها واستولى على أمره.ورجع في الشورى إلى يحيى بن رخو واعصوصب بنو مرين عليه واعتز على الوزراء والدولة. وكان عدوا لخاصة السلطان أبي سالم حريصاً على قتلهم. وكان عمر يريد استبقاءهم لما أمله في ابن ماساي فاختلفت أهواؤهما.وتبين ليحيى بن رحو والمشيخة صاغيته إلى ابن ماساي فخشنت صدورهم عليه ودبروا في شأنه وخاطب هو عامر بن محمد باتصال اليد واقتسام ملك المغرب.وبعث إليه بأبي الفضل ابن السلطان أبي سالم اعتده عنده وليجة لخلاصه من ربقة الحصار الذي هم به مشيخة بني مرين. وكان أبو الفضل هذا بالقصبة تحت الرقبة والأرصاد.فتفقد من مكانه. وأغلظ المشيخة في العتب لعمر على ذلك فلم يستعتب.ونبذ إليهم العهد وامتنع بالبلد الجديد ومنعهم من الدخول إليه فاعصوصبوا على كبيرهم يحيى بن رحو وعسكروا بباب الفتوح. وجاءوا بعبد الحليم ابن السلطان أبي علي. وكان من خبرهم معه ما نذكره. وأطلق عمر ببن عبد الله مسعود بن ماساي من محبسه وسرحه إلى مراكش وواعدوه في الأجلاب عليهم أن حاصروه كما نذكر.
وحصار البلد الجديد كان السلطان أبو الحسن لما قتل أخاه الأمير أبا علي وقضى الحق الذي له في دمه عمل بالحق الذي عليه في ولده وحرمه فكفلهم وأغذاهم نعمته. وساواهم بولده في كافة شؤونهم وأنكح ابنته تاحضريت العزيزة عليه علياً منهم المكنى بأبي يفلوسن.ونزع عنه وهو بالقيروان أيام النكبة ولحق بالعرب. وأجلب معهم على السلطان بالقيروان وتونس. ثم انصرف من إفريقية ولحق بتلمسان.ونزل على سلطانها أبي سعيد عثمان بن عبد الرحمن فبوأه كرامته. ثم شرع في الإجازة إلى الأندلس. وبعث فيه السلطان أبو عنان قبل فصوله فأشخصوه إليه فاعتقله. ثم أحضره ووبخه على مرتكبه مع السلطان أبي الحسن وجحده حقه ثم قتله لليلتين من شهور إحدى وخمسين. ولما هلك السلطان أبو الحسن ولحقت جملته من الخاصة والأبناء بالسلطان أبي عنان وأشخص إخوته إلى الأندلس لشخص معهم ولد الأمير أبي علي هؤلاء عبد الحليم وعبد المؤمن والمنصور والناصر وسعيد ابن أخيهم أبي زيان فاستقروا بالأندلس في جوار ابن الأحمر.ثم طلب أبو عنان إشخاصهم بعد كما طلب إشخاص أخيه فأجارهم ابن الأحمر جميعاً وامتنع من إسلامهم إليه. وكان من المغاضبة لذلك ما قدمناه. ولما اعتقل السلطان أبو سالم الأبناء المرشحين برندة كما قدمناه نزع منهم عبد الرحمن بن علي أبي يفلوسن إلى غرناطة فلحق بأعمامه.وكان السلطان أبو سالم ضجراً بمكانهم مستريباً بشأنهم حتى لقد قتل محمد بن أبي يفلوسن ابن أخته تاحضريت وهو في حجرها وحجره استرابة بما نمي عنه.ولما أجاز أبو عبد الله المخلوع ابن أبي الحجاج إلى المغرب ونزل عليه وصار إلى إيالته رأى أنه قد ملك أمره في هؤلاء المرشحين بغرناطة.وراسل الرئيس محمد بن إسماعيل عند توثبه على الأمر واستلحامه أبناء السلطان أبي الحجاج فراسله في اعتقالهم على أن يمسك المخلوع عن التهامه ويقبض عنانه عن الهوى عليه فاعتقلهم. ثم فسد ما بين الرئيس والطاغية. وزحف إليهم والتهم كثيراً من حصون المسلمين.وبعث إلى السلطان أبي سالم في أن يخلي سبيل المخلوع إليه فامتنع وفاء للرئيس.ثم دافع الطاغية عن ثغوره بإسعاف طلبه فجهز المخلوع وملأ حقائبه صلات وأعطاه الآلة.وأوعز إلى أسطوله بسبتة فجهز وبعث علال بن محمد ثقة إليه فأركبه الأسطول وركب معه إلى الطاغية. وخلص
وكان أبو حمو صاحب تلمسان يراسله في أولاد أبي علي. وأن يجهزهم إليه ليجدهم زبوناً على السلطان أبي سالم فبادر لحينه وأطلقهم من مكان اعتقالهم وأركب عبد الحليم وعبد المؤمن وعبد الرحمن ابن أخيهما على أبي يفلوسن في الأسطول.وأجازهم إلى هنين بين يدي مهلك السلطان أبي سالم فنزلوا من صاحب تلمسان بأعز جوار.ونصب عبد الحليم منهم لملك المغرب.وكان محمد السبيع بن موسى بن إبراهيم نزع عن عمر ولحق بتلمسان فتوافى معهم وأخبرهم بمهلك السلطان وبايع له وأغراه بالدخلة إلى المغرب ثم تتابعت رسل بني مرين بمثلها فسرحه أبو حمو وأعطاه الآلة واستوزر له محمد السبيع وارتحل معه يغذان السير.ولقيه بطريقه محمد بن زكدان من أولاد علي من شيوخ بني ونكاسن أهل دبدو ثغر المغرب منذ دخول بني مرين إليه فبايعه وحمل قومه على طاعته وأغذ السير وكان يحيى بن رخو والمشيخة لما نبذ عمر بن عبد الله إليهم العهد وعسكروا بباب الفتوح أوفدوا مشيخة منهم على تلمسان لاستقدام السلطان عبد الحريم فوافوه بتازى ورجعوا معه.وتلقته جماعة بني مرين بسبو.ونزلوا على البلد الجديد يوم السبت سابع محرم من سنة ثلاث وستين وأضربوا معسكرهم بكدية العرائس.وغادوا البلد بالقتال وراوحوها سبعة أيام وبيعات الأمصار توافيهم والحشود تسايل إليهم.ثم إن عمر بن عبد الله برز من السبت القابل في مقدمة السلطان أبي عمر بمن معه من الجند المسلمين والنصارى رامحة وناشبة.ووكل السلطان من جاذبه في الساقة على التعبية المحكمة.وناشبهم الحرب فدلفوا إليه فاستطردهم ليتمكن الناشبة من عقرهم من الأسوار حتى فشت فيهم الجراحات. ثم صمم نحوهم فانفرج القلب وانفضت الجموع. وزحف السلطان في الساقة فانذعروا في الجهات. وافترق بنو مرين إلى مواطنهم. ولحق يحيى بن رحو بمراكش مع مبارك بن إبراهيم شيخ الخلط.ولحق عبد الحليم وإخوته بتازى بعد أن شهد لهم أهل المقام بصدق الجلاد وحسن البلاء في ذلك المجال وصابر عمر بن عبد الله أمره ينتظر قدوم محمد بن أبي عبد الرحمن كما نذكره إن شاء الله تعالى.
|