الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الدرر في اختصار المغازي والسير
.غزوة بني سليم: ولم يَتِمّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد منصرفه عن بدر إلا سبعة أيام، ثم خرج بنفسه الكريمة يريد بني سليم، واستخلف على المدينة سباع بْن عرفطة الغفاري، وقيل: ابن أم مكتوم، فبلغ ماء يقال له: الكدر، فأقام عليه ثلاث ليال ثم انصرف ولم يلق أحدا..غزوة السويق: ثم إن أبا سفيان بْن حرب لما انصرف إلى بدر آلى أن يغزو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فخرج في مائتي راكب حتى أتى العريض في طرف المدينة، فحرق أصوارا من النخل، وقتل رجلا من الأنصار وحليفا له وجدهما في حرث لهما، ثم كر راجعا، ثم نفر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمون في أثره، واستعمل على المدينة أبا لبابة بْن عبد المنذر، وبلغ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرْقَرَةَ الْكُدْرِ، وَفَاتَهُ أَبُو سفيان والمشركون وقد طرحوا سويقا كثيرا من أزوادهم، يتخففون بذلك، فأخذه المسلمون، فسميت غزوة السويق، وكان ذلك في السنة الثانية من الهجرة بعد بدر بشهرين وأيام، قَالَ المصنف رضي الله عنه: ولعمر رضي الله عنه حديث حسن في غزوة قرقرة الكدر، يقال: إن عمران بْن سوادة قَالَ له وهو خليفة: إن رعيتك تشكو منك عنف السياف، وقهر الرعية، فدق على الدرة وجعل يمسح سيورها، ثم قَالَ: قد كنت مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قرقرة الكدر، فكنت أرتع فأشبع، وأسقي فأروى، وأكثر الزجر، وأقل الضرب، وَأَرُدُّ الْعَنُودَ، وَأَزْجُرُ الْعَرُوضَ، وأصم اللَّفُوتَ، وَأَسِمُ بالعصا، وأضرب باليد، ولولا ذلك لأعذرت، أي تركت فضيعت، يذكر حسن سياسته حينئذ، والعنود الحائد، والعروض المستصعب من الرجال والدواب، والقرقرة الأرض الواسعة الملساء، والكدر طيور غُبْرٌ كأنها القطا..غزوة ذي أمر: وأقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة بقية ذي الحجة، ثم غزا نجدا يريد غطفان، واستعمل على المدينة عثمان بْن عفان، فأقام صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنجد صفرا كله، ثم انصرف ولم يلق حربا..غزوة بحران: فأقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة ربيعا الأول، ثم غزا يريد قريشا، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، فبلغ بحران معدنا بالحجاز ولم يلق حربا، فأقام هنالك ربيعا الآخر وجمادى الأولى من السنة الثالثة، ثم انصرف إلى المدينة..غزوة بني قينقاع: وَنَقَضَ بنو قينقاع من اليهود عقد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فخرج إليهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحاصرهم حتى نزلوا على حكمه، فشفع فيهم عَبْد اللهِ بْن أبي بْن سلول ورغب في حقن دمائهم، وألح على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعلق به حتى أدخل يده في جيب درعه، فقال: أرسلني، فقال: والله لا أرسلك حتى تحسن إلي في موالي أربع مائة حاسر وثلاث مائة دارع تريد أن تحصدهم في غداة واحدة، فشفعه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيهم، وحقن دماءهم، وهم قوم عَبْد اللهِ بْن سلام، وكان حصاره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم خمس عشرة ليلة، واستخلف على المدينة في تلك المدة أبا لبابة بشير بْن عَبْد المنذر، وذكر ابن إسحاق، عن عاصم بْن عمر، وعبد الله بْن أبي بكر، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قدم المدينة، وادعته اليهود، وكتب عنه وعنهم كتابا، وألحق كل قوم بحلفائهم، وشرط عليهم فيما شرط أن لا يظاهروا عليه أحدا، فلما قدم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بدر أتاه بنو قينقاع، فقالوا له: يا مُحَمَّد، لا يغرك من نفسك أن نِلْتَ من قومك ما نلت، فإنه لا علم لهم بالحرب، أَمَا والله لو حاربتنا لعلمت أن حربنا ليس كحربهم، وأنا لنحن الناس، قَالَ ابن إسحاق: وكان أول من نقض العهد بينه وبين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغدر من يهود بنو قينقاع، فسار إليهم رسول الله وحاصرهم في حصونهم، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فنزلوا على حكمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ..البعث إلى كعب بْن الأشرف: ولما اتصل بكعب بْن الأشرف وهو رجل من نبهان من طيئ، وأمه من بني النضير، قَتْلُ صناديد قريش ببدر، قَالَ: بطن الأرض خير من ظهرها، ونهض إلى مكة فجعل يرثي قتلى قريش، ويحرض على قتال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان شاعرا، ثم انصرف إلى موضعه، فلم يزل يؤذي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويدعو إلى خلافه، ويسب المسلمين حتى آذاهم، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من لي بابن الأشرف فإنه يؤذي الله ورسوله والمؤمنين، فقال له مُحَمَّد بْن مسلمة: أنا له يا رسول الله، أنا أقتله إن شاء الله، قَالَ: فافعل إن قدرت على ذلك، فمكث مُحَمَّد بْن مسلمة أياما مشغول النفس بما وعد رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من نفسه في قتل ابن الأشرف، وأتى أبا نائلة سلكان بْن سلامة بْن وقش وكان أخا كعب بْن الأشرف من الرضاعة، وعباد بْن بشر بْن وقش، والحارث بْن أوس بْن معاذ، وأبا عبس بْن جبر، فأعلمهم بما وعد به رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قتل ابن الأشرف، فأجابوه إلى ذلك، وَقَالُوا: كلنا يا رسول الله نقتله، ثم أتوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالوا: يا رسول الله إنه لا بد لنا أن نقول، فقال: قولوا ما بدا لكم، فأنتم في حل، ثم قدموا إلى كعب بْن الأشرف أبا نائلة فجاءه وتحدث معه ساعة، وتناشدا الشعر، وكان أَبُو نائلة يقول الشعر أيضا، فقال له أَبُو نائلة: يا بْن الأشرف إني جئت في حاجة أذكرها لك فاكتم علي، قَالَ: أفعل، قَالَ: إن قدوم هذا الرجل علينا بلاء من البلاء، عادتنا العرب، ورمتنا عن قوس واحدة، وقطعت عنا السبل حتى ضاع العيال، وجهدت الأنفس، وأصبحنا قد جهدنا، فقال كعب: أنا ابن الأشرف، أما والله لقد كنت أحدثك يابن سلامة أن أمركم سيصير إلى هذا، فقال له سلكان: إني أريد أن تبيعنا طعاما ونرهنك، ونوثق لك، ونحسن في ذلك، قَالَ: أترهنوني أبناءكم أو نساءكم؟ قَالَ: لقد أردت أن تفضحنا، أنت أجمل العرب، فكيف نرهنك نساءنا؟ وكيف نرهنك أبناءنا فيعير أحدهم فيقال: رَهْنُ وَسَقٍ، ورهن وسقين؟ إن معي أصحابا على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم فتبيعهم وتحسن في ذلك، ونرهنك من الحلقة ما فيه وفاء، وأراد أَبُو نائلة أن لا ينكر السلاح عليهم إذا أتوه، قَالَ: إن في الحلقة لوفاءً، فرجع أَبُو نائلة إلى أصحابه فأخبرهم الخبر، وأمرهم أن يأخذوا السلاح ويأتوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ففعلوا، واجتمعوا عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمشى بهم إلى بقيع الغرقد، ثم وجههم وقال: انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم، ورجع عنهم، فنهضوا وكانت ليلة مقمرة حتى انتهوا إلى حصنه، فهتف به أَبُو نائلة، وكان كعب حديث عهد بعرس، فوثب في ملحفة، فأخذت امرأته بناحيتها، وقالت: إنك امرؤ مُحَارِبٌ، وإن أهل الحرب لا ينزلون في مثل هذه الساعة، فقال: إنه أَبُو نائلة لو وجدني نائما ما أيقظني، فقالت: والله إني لأعرف في صوته الشر، فقال لها كعب: لو دُعِيَ الفتى إلى طعنة أجاب، فنزل فتحدث معهم ساعة، ثم قالوا له: يا بن الأشرف لو رأيت أن نتماشى إلى شعب العجوز فنتحدث به بقية ليلتنا، قَالَ: إن شئتم، فخرجوا يتماشون، ثم إن أبا نائلة مس فَوْدَ رأسه بيده ثم شمها، وقال: ما رأيت كالليلة طيبا أعطر، ثم مشى ساعة وعاد لمثلها حتى اطمأن، ثم مشى ساعة وعاد لمثلها وأخذ بِفَوْدَيْ رأسه، وقال: اضربوا عدو الله، فضربوه بأسيافهم، فصاح صيحة منكرة سمعها أهل الحصون، فأوقدوا النيران واختلفت سيوفهم فلم تعمل شيئا، قَالَ مُحَمَّد بْن مسلمة: فذكرت مغولا في سيفي حين رأيت أسيافهم لا تغني، فأخذته وقد صاح عدو الله صيحة أسمعت كل حصن حوله، فوضعته في ثنته ثم تحاملت عليه حتى بلغت عانته، فوقع عدو الله ميتا، وأصاب الحارثَ بْنَ أوس يومئذ جرحٌ في رجله أو في رأسه ببعض سيوف أصحابه فتأخر، ونجا أصحابه، وسلكوا على دور بني أمية بْن زيد، إلى بني قريظة، إلى بعاث، إلى حرة العريض، وانتظروا هنالك صاحبهم حتى وافاهم، فأتوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في آخر الليل وهو يصلي، فأخبروه، فتفل في جرح الحارث بْن أوس فبرئ، وأطلق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسلمين على قتل اليهود، وحينئذ أسلم حويصة بْن مسعود، وقد كان أسلم أخوه محيصة قبله..غزوة أحد: فأقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة بعد قدومه من بحران جمادى الآخرة، ورجبا، وشعبان، ورمضان، فغزته كفار قريش في شوال سنة ثلاث، وقد استمدوا بحلفائهم والأحابيش من بني كنانة، وخرجوا بنسائهم لئلا يفروا عنهن، وقصدوا المدينة فنزلوا قرب أحد على جبل على شفير الوادي بقناة مقابل المدينة، فرأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في منامه أن في سيفه ثلمة، وأن بقرا له تذبح، وأنه أدخل يده في درع حصينة، فتأولها أن نفرا من أصحابه يقتلون، وأن رجلا من أهل بيته يصاب، وأن الدرع الحصينة المدينة، فأشار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أصحابه أن لا يخرجوا إليهم، وأن يتحصنوا بالمدينة، فإن قربوا منها قاتلوهم على أفواه الأزقة، ووافق رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على هذا الرأي عَبْدُ اللهِ بْن أبي بْن سلول، وأبى أكثر الأنصار إلا الخروج إليهم ليكرم الله من شاء منهم بالشهادة، فلما رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عزيمتهم دخل بيته، فلبس لأمته وخرج، وذلك يوم الجمعة، فصلى على رجل من بني النجار مات ذلك اليوم، يقال له مالك بْن عمرو، وقيل بل اسمه محرز بْن عامر، وندم قوم من الذين ألحوا في الخروج، وقالوا: يا رسول الله إن شئت فارجع، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما ينبغي لنبي إذا لبس لأْمَتَهُ أن يضعها حتى يقاتل» فخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ألف من أصحابه، واستعمل ابنَ أم مكتوم على الصلاة لمن بقي بالمدينة من المسلمين، فلما سار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحو أحد، انصرف عنه عَبْد اللهِ بْن أبي بْن سلول بثلث الناس مغاضبا إذ خولف رأيه، فاتبعهم عَبْد اللهِ بْن عمرو بْن حرام فَذَكَّرَهُمُ اللهَ والرجوعَ إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأبوا عليه، فسبهم ورجع عنهم إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونهض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمسلمين، وذكر له قوم من الأنصار أن يستعينوا بحلفائهم من يهود، فأبى عليهم وسلك على حرة بني حارثة وشق أموالهم حتى مشى على مال لمربع بْن قيظي وكان ضرير البصر، فقام يحثو التراب في وجوه المسلمين، ويقول: إن كنتَ رسول الله فلا يحل لك أن تدخل حائطي، وأكثر من القول، فابتدره أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليقتلوه، فقال عليه السلام: «لا تقتلوه، فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر» وضربه سعد بْن زيد أخو بني عَبْد الأشهل بقوسه فشجه في رأسه، ونفذ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي إلى الجبل، فجعل ظهره إلى أحد، ونهى الناس عن القتال حتى يأمرهم، وسرحت قريش الظهر والكراع في زروع المسلمين بقناة، وتعبأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للقتال وهو في سبع مائة، وقيل: إن المشركين كانوا في ثلاثة آلاف، فيهم مائتا فارس، وقيل: كان في المسلمين يومئذ خمسون فارسا، وكان رماة المسلمين خمسين رجلا، وَأَمَّرَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الرماة عَبْد اللهِ بْن جبير أخا بني عمرو بْن عوف، وهو أخو خوات بْن جبير، وعبد الله يومئذ معلم بثياب بيض، فرتبهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلف الجيش، وأمره بأن ينضح المشركين بالنبل لئلا يأتوا المسلمين من ورائهم، وظاهر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ بين درعين، ودفع اللواء إلى مصعب بْن عمير أحد بني عَبْد الدار، وأجاز رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ سمرة بْن جندب الفزاري، ورافع بْن خديج، ولكل واحد منهما خمس عشرة سنة، وكان رافع راميا، ورد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ عَبْد اللهِ بْن عمر، وزيد بْن ثابت، وأسامة بْن زيد، والبراء بْن عازب، وأسيد بْن ظهير، وعرابة بْن أوس، وزيد بْن أرقم، وأبا سعيد الخدري، ثم أجازهم كلهم عليه السلام يوم الخندق، وقد قيل: إن بعض هؤلاء إنما رده يوم بدر وأجازه يوم أحد، وإنما رد من لم يبلغ خمس عشرة سنة وأجاز من بلغها، وجعلت قريش على ميمنتهم في الخيل خالد بْن الوليد، وعلى ميسرتهم في الخيل عكرمة بْن أبي جهل، ودفع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيفه إلى أبي دجانة الأنصاري سماك بْن خرشة الساعدي، وكان شجاعا يختال في الحرب، وكان أَبُو عامر المعروف بالراهب، وسماه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الفاسق، واسمه عَبْد عمرو بْن صيفي بْن مالك بْن النعمان أحد بني ضبيعة، وهو والد حنظلة بْن أبي عامر غسيل الملائكة قد ترهب وتنسك في الجاهلية، فلما جاء الإسلام غلب عليه الشقاء ففر عن المدينة إذ نزلها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مباعدا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومبغضا فيه، وخرج إلى مكة في جماعة من فتيان الأوس، وشهد يوم أحد مع الكفار، ووعد قريشا بانحراف قومه إليه، فكان أول من خرج للقاء المسلمين في عبدان أهل مكة والأحابيش، فلما نادى قومه وعرفهم بنفسه، قالوا: لا أنعم الله بك عينا يا فاسق، فقال: لقد أصاب قومي بعدي شر، ثم قاتل المسلمين قتالا شديدا، وكان شعار أصحاب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد: أَمِتْ، أَمِتْ، وأبلى يومئذ علي، وحمزة، وأبو دجانة، وطلحة بلاء حسنا، وأبلى أنس بْن النضر يومئذ بلاء حسنا، وكذلك جماعة من الأنصار أبلوا وأصيبوا يومئذ مقبلين غير مدبرين، وقاتل الناس قتالا شديدا ببصائر ثابتة، فانهزمت قريش، واستمرت الهزيمة عليهم، فلما رأى ذلك الرماة قالوا: قد هُزِمَ أعداء الله فما لقعودنا هاهنا معنى، فَذَكَّرَهُمْ أميرهم عَبْد اللهِ بْن جبير أَمْرَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إياهم بأن لا يزولوا، فقالوا: قد انهزموا، ولم يلتفتوا إلى قوله وقاموا، ثم كر المشركون وولى المسلمون، وثبت من أكرمه الله منهم بالشهادة، ووصل إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقاتل دونه مصعب بْن عمير حتى قتل رضي الله عنه، وجرح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وجهه، وكسرت رباعيته اليمنى السفلى بحجر، وهشمت البيضة على رأسه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجزاه عن أمته بأفضل ما جزى به نبيا من أنبيائه عن صبره، وكان الذي تولى ذلك من النبي عليه السلام عمرو بْن قمئة الليثي، وعتبة بْن أبي وقاص، وقد قيل: إن عَبْد اللهِ بْن شهاب جدَّ الفقيه مُحَمَّد بْن مسلم بْن شهاب هو الذي شج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جبهته، وأكبت الحجارة على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى سقط في حفرة كان أَبُو عامر الراهب قد حفرها مكيدة للمسلمين، فخر عليه السلام على جنبه، فأخذ علي بيده، واحتضنه طلحة حتى قام، وَمَصَّ مالك بْن سنان والد أبي سعيد الخدري من جرح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدم، ونشبت حلقتان من حلق المغفر في وجهه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فانتزعهما أَبُو عبيدة بْن الجراح، وعض عليهما بثنيتيه فسقطتا، وكان الهتم يزينه، وأعطى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الراية حين قتل مصعبُ بْن عمير عَلِيَّ بْنَ أبي طالب، وصار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحت راية الأنصار، وشد حنظلة الغسيل بْن أبي عامر على أبي سفيان بْن حرب، فلما تمكن منه حمل شداد بْن الأسود الليثي وهو ابن شعوب على حنظلة فقتله، وكان جنبا فغسلته الملائكة، أخبر بذلك جبريل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأخبر رسولُ الله بذلك أصحابَهُ، وقال: «كان حنظلة قد قام من امرأته جنبا فغسلته الملائكة» وقتل صاحب لواء المشركين فسقط لواؤهم، فرفعته عمرة بنت علقمة الحارثية للمشركين، فاجتمعوا إليه وحملوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَرَّ دونه نفر من الأنصار قيل سبعة وقيل عشرة، فَقُتِلُوا كلهم، وكان آخرهم عمارة بْن يزيد بْن السكن أو زياد بْن السكن، وقاتل يومئذ طلحة قتالا شديدا، وقاتلت أم عمارة الأنصارية وهي نسيبة بنت كعب قتالا شديدا، وضربت عمرو بْن قمئة بالسيف ضربات فوقاه درعان كانتا عليه، وضربها عمرو بالسيف فجرحها جرحا عظيما على عاتقها، وترس أَبُو دجانة بظهره عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والنبل يقع فيه وهو لا يتحرك، وحينئذ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لسعد بْن أبي وقاص: «ارم فداك أبي وأمي» وأصيبت يومئذ عين قتادة بْن النعمان الظفري، فأتى رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعينه على وجنته، فردها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده وغمزها فكانت أَجْمَلَ عينيه وَأَصَحَّهُمَا، وانتهى أنس بْن النضر وهو عم أنس بْن مالك يومئذ إلى جماعة من الصحابة قد ألقوا بأيديهم، فقال لهم: ما يجلسكم؟ قالوا: قُتِلَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال لهم: ما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم استقبل النَّاسَ، ولقي سعدَ بْن معاذ، فقال له: يا سعد، والله إني لأجد ريح الجنة من قِبَلِ أحد، فقاتل حتى قتل رضي الله عنه، وُجِدَ به أزيد من سبعين جرحا من بين ضربة وطعنة ورمية فما عرفته إلا أخته ببنانه ميزته، وجرح يومئذ عَبْد الرحمن بْن عوف نحو عشرين جراحة بعضها في رجله فعرج منها رحمه الله إلى أن مات، وأول من ميز رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد الجولة كعب بْن مالك الشاعر، فنادى بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أبشروا، هذا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأشار إليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أنصت، فلما عرفه المسلمون مالوا إليه، وصاروا حوله، ونهضوا معه نحو الشعب فيهم أَبُو بكر، وعمر، وعلي، وطلحة، والزبير، والحارث بْن الصمة الأنصاري، وجماعة من الأنصار، فلما أسند رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الشعب أدركه أُبَيُّ بْن خلف الجمحي، فتناول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحربة من الحارث بْن الصمة ثم طعنه بها في عنقه فَكَرَّ أُبَيٌّ منهزما، فقال له المشركون: والله ما بك من بأس، فقال: والله لو بزق علي لقتلني، أليس قد قَالَ: بل أنا أقتله؟ وكان قد أَوْعَدَ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القتلَ بمكة، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بل أنا أقتلك» فمات عدو الله من ضربة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مرجعه إلى مكة بموضع يقال له سرف، وملأ علي درقته من ماء المهراس وأتى به رسول الله ليشربه، فوجد فيه رائحة فعافه وغسل به من الدم وجهه، ونهض إلى صخرة من الجبل ليعلوها، وكان عليه درعان، وكان قد بدن فلم يقدر أن يعلوها، فجلس له طلحة، وصعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ظهره، ثم استقل به طلحة حتى استوى الصخرة، وحانت الصلاة فصلى جالسا والمسلمون وراءه قعودا، رَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَمَعْمَرُ بْنُ كِرَاعٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: رَأَيْتُ عَنْ يَمِينِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ شِمَالِهِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ يَوْمَ أُحُدٍ لَمْ أَرَهُمَا قَبْلُ وَلا بَعْدُ وانهزم قوم من المسلمين يومئذ منهم عثمان بْن عفان، فعفا الله عنهم، ونزل فيهم: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ سورة آل عمران آية الآية، وكان الحسيل بْن جابر العبسي وهو اليمان والد حذيفة بْن اليمان، وثابت بْن وقش شيخين كبيرين قد جُعِلا في الآطام مع النساء والصبيان، فقال أحدهما لصاحبه: ما بقي من أعمارنا؟ فلو أخذنا سيوفنا ولحقنا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعل الله يرزقنا الشهادة، وَفَعَلا ذلك فدخلا في جملة المسلمين، فأما ثابت بْن وقش فقتله المشركون، وأما الحسيل فظنه المسلمون من المشركين فقتلوه خطأ، وقيل: إن الذي قتله عتبة بْن مسعود، وكان حذيفة يصيح والمسلمون قد علوا أباه: أَبِي، أَبِي، ثم تصدق بديته على المسلمين، وكان مخيريق أحد بني ثعلبة بْن الفطيون من اليهود قد دعا اليهود إلى نصر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال لهم: والله إنكم لتعلمون أن نصر مُحَمَّد عليكم حق، فقالوا له: إن اليوم السبت، فقال: لا سبت لكم، وأخذ سلاحه ولحق برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقاتل معه حتى قتل، وأوصى أن ماله لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيقال: إِنَّ بعض صدقات رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة من مال مخيريق، وكان الحارث بْن سويد بْن الصامت منافقا لم ينصرف مع عَبْد اللهِ بْن أبي في حين انصرافه عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جماعته عن غزاة أحد، ونهض مع المسلمين، فلما التقى المسلمون والمشركون بأحد عدا علي المجذر بْن ذياد البلوي وعلى قيس بْن زيد أحد بني ضبيعة فقتلهما وفر إلى الكفار، وكان المجذر قد قتل في الجاهلية سويد بْن الصامت والد الحارث المذكور في بعض حروب الأوس والخزرج، ثم لحق الحارث بْن سويد مع الكفار بمكة فأقام هناك ما شاء الله، ثم حينه الله فانصرف إلى المدينة إلى قومه، وأتى رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخبر من السماء، نزل جبريل عليه السلام فأخبره أن الحارث بْن سويد قد قدم فانهض إليه واقتص منه لمن قتله من المسلمين غدرا يوم أحد، فنهض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى قباء في وقت لم يكن يأتيهم فيه، فخرج إليه الأنصار أهل قباء في جماعتهم، وفي جملتهم الحارث بْن سويد وعليه ثوب مورس، فأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عويم بْن ساعدة فضرب عنقه، وقال الحارث: لِمَ يا رسول الله؟ فقال: بقتلك المجذر بْن زياد، وقيس بْن زيد، فما راجعه بكلمة، وقدمه عويم فضرب عنقه، ثم رجع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم ينزل عندهم، وكان عمرو بْن ثابت بْن وقش من بني عَبْد الأشهل يعرف بالأصيرم يأبى الإسلام، فلما كان يوم أحد قذف الله الإسلام في قلبه للذي أراد من السعادة به فأسلم، وأخذ سيفه، ولحق بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقاتل حتى أثبت بالجراح، ولم يعلم أحد بأمره، ولما انجلت الحرب طاف بنو عَبْد الأشهل في القتلى يلتمسون قتلاهم، فوجدوا الأصيرم وبه رمق لطيف، فقالوا: والله إن هذا الأصيرم، ما جاء به؟ لقد تركناه وإنه لمنكر لهذا الأمر، ثم سألوه: يا عمرو ما الذي جاء بك إلى هذا المشهد، أحدب على قومك، أم رغبة في الإسلام؟ فقال: بل رغبة في الإسلام، آمنت بالله ورسوله، ثم قاتلت مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أصابني ما ترون، فمات من وقته، فذكروه لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: «هو من أهل الجنة» ولم يصل صلاة قط، وكان في بني ظفر رجل لا يدرى ممن هو، يقال له: قزمان، أبلى يوم أحد بلاء شديدا، وَقَتَلَ يومئذ سبعةً من وجوه المشركين، وأثبت جراحا، فَأُخْبِرَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأمره، فقال: «هو من أهل النار» وقيل لقزمان: أبشر بالجنة، فقال: بماذا وما قاتلت إلا عن أحساب قومي؟ ثم لما اشتد عليه ألم الجراح، أخرج سهما من كنانته فقطع به بعض عروقه، فجرى دمه حتى مات، ومثل بقتلى المسلمين، وأخذ الناس ينقلون قتلاهم بعد انصراف قريش، فأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يدفنوا في مضاجعهم بدمائهم وثيابهم، لا يغسلون.
|