الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن ***
يَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارٍ إِلَى عَطْفِ الْمُفْرَدِ عَلَى مِثْلِهِ، وَعَطْفِ الْجُمَلِ مِنْ أَسَالِيبِ الْقُرْآنِ. فَأَمَّا عَطْفُ الْمُفْرَدِ فَفَائِدَتُهُ تَحْصِيلُ مُشَارَكَةِ الثَّانِي لِلْأَوَّلِ فِي الْإِعْرَابِ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ مِثْلُ الْأَوَّلِ فِي فَاعِلِيَّتِهِ، أَوْ مَفْعُولِيَّتِهِ، لِيَتَّصِلَ الْكَلَامُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، أَوْ حُكْمٌ خَاصٌّ دُونَ غَيْرِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (الْمَائِدَةِ: 6) فَمَنْ قَرَأَ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى الْوُجُوهِ كَانَتِ الْأَرْجُلُ مَغْسُولَةً، وَمَنْ قَرَأَ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى الرُّءُوسِ كَانَتْ مَمْسُوحَةً، لَكِنْ خُولِفَ ذَلِكَ لِعَارِضٍ يُرَجِّحُ، وَلَا بُدَّ فِي هَذَا مِنْ مُلَاحَظَةِ الْمُشَاكَلَةِ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ، فَتَقُولُ: جَاءَنِي زَيْدٌ وَعَمْرٌو، لِأَنَّهُمَا مَعْرِفَتَانِ، وَلَوْ قُلْتَ: جَاءَ زَيْدٌ وَرَجُلٌ، لَمْ يَسْتَقِمْ لِكَوْنِ الْمَعْطُوفِ نَكِرَةً، نَعَمْ، إِنْ تَخَصَّصَ فَقُلْتَ: وَرَجُلٌ آخَرُ، جَازَ. وَلِذَا قَالَ صَاحِبُ " الْمُسْتَوْفَى " مِنَ النَّحْوِيِّينَ: وَأَمَّا عَطْفُ الْجُمْلَةِ فَإِنْ كَانَتِ الْأُولَى لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ فَكَمَا سَبَقَ، لِأَنَّهَا تَحُلُّ مَحَلَّ الْمُفْرَدِ، نَحْوُ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ خُلُقُهُ حَسَنٌ، وَخُلُقُهُ قَبِيحٌ، وَإِنْ كَانَ لَا مَحَلَّ لَهَا، نَحْوُ: زَيْدٌ أَخُوكَ، وَعَمْرٌو صَاحِبُكَ، فَفَائِدَةُ الْعَطْفِ الِاشْتِرَاكُ فِي مُقْتَضَى الْحَرْفِ الْعَاطِفِ، فَإِنْ كَانَ الْعَطْفُ بِغَيْرِ الْوَاوِ ظَهَرَ لَهُ فَائِدَةٌ مِنَ التَّعْقِيبِ كَالْفَاءِ، أَوِ التَّرْتِيبِ كَـ (ثُمَّ) أَوْ نَفْيِ الْحُكْمِ عَنِ الْبَاقِي كَـ (لَا). وَأَمَّا الْوَاوُ فَلَا تُفِيدُ شَيْئًا هُنَا غَيْرَ الْمُشَارَكَةِ فِي الْإِعْرَابِ. وَقِيلَ: بَلْ تُفِيدُ أَنَّهُمَا كَالنَّظِيرَيْنِ وَالشَّرِيكَيْنِ، بِحَيْثُ إِذَا عَلِمَ السَّامِعُ حَالَ الْأَوَّلِ عَسَاهُ أَنْ يَعْرِفَ حَالَ الثَّانِي، وَمِنْ ثَمَّةَ صَارَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ إِلَى أَنَّ الْقِرَانَ فِي اللَّفْظِ يُوجِبُ الْقِرَانَ فِي الْحُكْمِ. وَمِنْ هُنَا شَرَطَ الْبَيَانِيُّونَ التَّنَاسُبَ بَيْنَ الْجُمَلِ لِتَظْهَرَ الْفَائِدَةُ حَتَّى إِنَّهُمْ مَنَعُوا عَطْفَ الْإِنْشَاءِ عَلَى الْخَبَرِ وَعَكْسَهُ. وَنَقَلَهُ الصَّفَّارُ فِي شَرْحِ سِيبَوَيْهِ عَنْ سِيبَوَيْهِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: يَقْبُحُ عِنْدَهُمْ أَنْ يُدْخِلُوا الْكَلَامَ الْوَاجِبَ فِي مَوْضِعِ الْمَنْفِيِّ، فَيَصِيرُوا قَدْ ضَمُّوا إِلَى الْأَوَّلِ مَا لَيْسَ بِمَعْنَاهُ انْتَهَى. وَلِهَذَا مَنَعَ النَّاسُ مِنَ الْوَاوِ فِي (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ) لِأَنَّ الْأُولَى خَبَرِيَّةٌ، وَالثَّانِيَةُ طَلَبِيَّةٌ، وَجَوَّزَهُ ابْنُ الطَّرَاوَةِ لِأَنَّهُمَا يَجْتَمِعَانِ فِي التَّبَرُّكِ. وَخَالَفَهُمْ كَثِيرٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ كَابْنِ خَرُوفٍ، وَالصَّفَّارِ، وَابْنِ عَمْرٍو، وَقَالُوا: يُعْطَفُ الْأَمْرُ عَلَى الْخَبَرِ، وَالنَّهْيُ عَلَى الْأَمْرِ وَالْخَبَرِ، قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (الْمَائِدَةِ: 67) فَعَطَفَ خَبَرًا عَلَى جُمْلَةِ شَرْطٍ، وَجُمْلَةَ الشَّرْطِ عَلَى الْأَمْرِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (يُونُسَ: 72). {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (يُونُسَ: 105) فَعَطَفَ نَهْيًا عَلَى خَبَرٍ. وَمِثْلُهُ: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} (هُودٍ: 42). قَالُوا: وَتُعْطَفُ الْجُمْلَةُ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَلَا اشْتِرَاكَ بَيْنَهُمَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} (آلِ عِمْرَانَ: 7) عَلَى قَوْلِنَا بِالْوَقْفِ عَلَى اللَّهِ وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ اخْتَصَّ بِهِ. وَقَالَ: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النُّورِ: 4) فَإِنَّهُ عِلَّةٌ تَامَّةٌ بِخَبَرِهَا، فَلَا يُوجِبُ الْعَطْفُ الْمُشَارَكَةَ فِيمَا تَتِمُّ بِهِ الْجُمْلَتَانِ الْأُولَيَانِ، وَهُوَ الشَّرْطُ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا} (النُّورِ: 4) كَقَوْلِكَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَفُلَانَةُ طَالِقٌ، لَا يَتَعَلَّقُ طَلَاقُ الثَّانِيَةِ بِالشَّرْطِ، وَعَلَى هَذَا يَخْتَصُّ الِاسْتِثْنَاءُ بِهِ وَلَا يَرْجِعُ لِمَا تَقَدَّمَهُ، وَيَبْقَى الْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ غَيْرَ مَقْبُولِ الشَّهَادَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ كَمَا كَانَ قَبْلَهَا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} (الشُّورَى: 24) فَإِنَّهُ عِلَّةٌ تَامَّةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا، غَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتَ الشَّرْطِ، وَلَوْ دَخَلَتْ كَانَ خَتْمُ الْقَلْبِ، وَمَحْوُ الْبَاطِلِ مُتَعَلِّقَيْنِ بِالشَّرْطِ، وَالْمُتَعَلِّقُ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ قَبْلَ وُجُودِهِ، وَقَدْ عُدِمَ خَتْمُ الْقَلْبِ، وَوُجِدَ مَحْوُ الْبَاطِلِ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ خَارِجٌ عَنِ الشَّرْطِ، وَإِنَّمَا سَقَطَتِ الْوَاوُ فِي الْخَطِّ، وَاللَّفْظُ لَيْسَ لِلْجَزْمِ، بَلْ سُقُوطُهُ مِنَ اللَّفْظِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَفِي الْخَطِّ اتِّبَاعًا لِلَّفْظِ كَسُقُوطِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ} (الْإِسْرَاءِ: 11) وَقَوْلِهِ: {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} (الْعَلَقِ: 18) وَلِهَذَا وَقَفَ عَلَيْهِ يَعْقُوبُ بِالْوَاوِ نَظَرًا لِلْأَصْلِ، وَإِنْ وَقَفَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ بِغَيْرِ وَاوٍ اتِّبَاعًا لِلْخَطِّ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا ابْتِدَاءُ إِعَادَةِ الِاسْمِ فِي قَوْلِهِ: {وَيَمْحُ اللَّهُ} (الشُّورَى: 24) وَلَوْ كَانَتْ مَعْطُوفَةً عَلَى مَا قَبْلَهَا لَقِيلَ: وَيَمْحُ الْبَاطِلَ، وَمِثْلُهُ: {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ} (الْحَجِّ: 5). وَقَوْلُهُ: {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} (التَّوْبَةِ: 15). وَقَوْلُهُ: {قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى} (الْأَعْرَافِ: 26) وَغَيْرُ ذَلِكَ. قُلْتُ: وَكَثِيرٌ مِنْ هَذَا لَا يَرِدُ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ كَلَامَهُمْ فِي الْوَاوِ الْعَاطِفَةِ، وَأَمَّا {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ} وَمَا بَعْدَهُ فَهِيَ لِلِاسْتِئْنَافِ، إِذْ لَوْ كَانَتْ لِلْعَطْفِ لَانْتَصَبَ " نُقِرُّ "، وَ " لِبَاسُ "، وَجُزِمَ " وَيَتُوبُ "، وَكَذَلِكَ الْوَاوُ فِي {وَالرَّاسِخُونَ} لِلِاسْتِئْنَافِ {وَيَمْحُ اللَّهُ}. وَقَالَ الْبَيَانِيُّونَ: لِلْجُمْلَةِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: (فَالْأَوَّلُ): أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَهَا بِمَنْزِلَةِ الصِّفَةِ مِنَ الْمَوْصُوفِ، وَالتَّأْكِيدِ مِنَ الْمُؤَكَّدِ، فَلَا يَدْخُلُهَا عَطْفٌ لِشِدَّةِ الِامْتِزَاجِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} (الْبَقَرَةِ: 1- 2). وَقَوْلِهِ: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} (الْبَقَرَةِ: 7) مَعَ قَوْلِهِ: {لَا يُؤْمِنُونَ} (الْبَقَرَةِ: 6). وَكَذَلِكَ: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ} (الْبَقَرَةِ: 9) مَعَ قَوْلِهِ: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} (الْبَقَرَةِ: 8) فَإِنَّ الْمُخَادَعَةَ لَيْسَتْ شَيْئًا غَيْرَ قَوْلِهِمْ: (آمَنَّا) مِنْ غَيْرِ اتِّصَافِهِمْ. وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} (الْبَقَرَةِ: 14) وَذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: (إِنَّا مَعَكُمْ) أَنَّا لَمْ نُؤْمِنْ، وَقَوْلُهُ: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} خَبَرٌ لِهَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ. وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} (لُقْمَانَ: 7). وَقَوْلِهِ: {مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} (يُوسُفَ: 31) فَإِنَّ كَوْنَهُ مَلِكًا يَنْفِي كَوْنَهُ بَشَرًا فَهِيَ مُؤَكِّدَةٌ لِلْأُولَى. وَقَوْلِهِ: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} (يس: 69). وَقَوْلِهِ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النَّجْمِ: 3- 4) وَقَوْلِهِ: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} (الْحَجِّ: 1) فَإِنَّهَا مُؤَكِّدَةٌ لِقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ}. وَقَوْلِهِ: {إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} (التَّوْبَةِ: 103) فَإِنَّهَا بَيَانٌ لِلْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ. وَقَوْلِهِ: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} (الدُّخَانِ: 51) بَعْدَ قَوْلِهِ: {إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} (الدُّخَانِ: 50). وَقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} (الْكَهْفِ: 30) إِذَا جُعِلَتْ {إِنَّا لَا نُضِيعُ} خَبَرًا، إِذِ الْخَبَرُ لَا يُعْطَفُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ. وَقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} (الْأَنْبِيَاءِ: 101) بَعْدَ قَوْلِهِ: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ} (الْأَنْبِيَاءِ: 100). وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يُغَايِرَ مَا قَبْلَهَا، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا نَوْعُ ارْتِبَاطٍ بِوَجْهٍ، فَلَا عَطْفَ أَيْضًا إِذْ شَرْطُ الْعَطْفِ الْمُشَاكَلَةُ، وَهُوَ مَفْقُودٌ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} (الْبَقَرَةِ: 6) بَعْدَ قَوْلِهِ: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الْبَقَرَةِ: 5). فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ حُكْمُ هَذِهِ الْحَالَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا وَاحِدًا أَدَّى إِلَى الْإِلْبَاسِ، فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَعْطِفِ الْتَبَسَ حَالَةُ الْمُطَابَقَةِ بِحَالَةِ الْمُغَايَرَةِ، وَهَلَّا عُطِفَتِ الْحَالَةُ الْأَوْلَى إِلْحَاقًا لَهَا بِالْحَالَةِ الثَّانِيَةِ؟ فَإِنَّ تَرْكَ الْعَطْفِ يُوهِمُ الْمُطَابَقَةَ، وَالْعَطْفُ يُوهِمُ عَدَمَهَا، فَلِمَ اخْتِيرَ الْأَوَّلُ دُونَ الثَّانِي، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُ عَنْ إِلْبَاسٍ؟ قِيلَ: الْعَاطِفُ يُوهِمُ الْمُلَابَسَةَ بِوَجْهٍ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ، بِخِلَافِ سُقُوطِ الْعَاطِفِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ أَوْهَمَ الْمُطَابَقَةَ إِلَّا أَنَّ أَمْرَهُ وَاضِحٌ فَبِأَدْنَى نَظَرٍ يُعْلَمُ، فَزَالَ الْإِلْبَاسُ. (الْحَالُ الثَّالِثَةُ) أَنْ يُغَايِرَ مَا قَبْلَهَا لَكِنْ بَيْنَهُمَا نَوْعُ ارْتِبَاطٍ، وَهَذِهِ الَّتِي يَتَوَسَّطُهَا الْعَاطِفُ كَقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الْبَقَرَةِ: 5). وَقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (الرَّعْدِ: 5). فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ سَقَطَ الْعَطْفُ مِنْ {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} (الْأَعْرَافِ: 179) وَلَمْ يَسْقُطْ مِنْ {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}؟. قُلْتُ: لِأَنَّ الْغَفْلَةَ شَأْنُ الْأَنْعَامِ، فَالْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ كَأَنَّهَا هِيَ الْجُمْلَةُ الْأُولَى. (فَإِنْ قُلْتَ): لِمَ سَقَطَ فِي قَوْلِهِ: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} (الْبَقَرَةِ: 15)؟. قُلْتُ: لِأَنَّ الثَّانِيَةَ كَالْمَسْئُولِ عَنْهَا، فَنُزِّلَ تَقْدِيرُ السُّؤَالِ مَنْزِلَةَ صَرِيحِهِ. (الْحَالُ الرَّابِعَةُ) أَنْ يَكُونَ بِتَقْدِيرِ الِاسْتِئْنَافِ كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: لِمَ كَانَ كَذَا؟ فَقِيلَ: كَذَا، فَهَا هُنَا لَا عَطْفَ أَيْضًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ قَالُوا يَا أَبَانَا} (يُوسُفَ: 16- 17). وَقَوْلِهِ: {وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا} (الْأَعْرَافِ: 113) التَّقْدِيرُ: فَمَا قَالُوا أَوْ فَعَلُوا؟ فَأُجِيبَ هَذَا التَّقْدِيرُ بِقَوْلِهِ: قَالُوا
يَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارِ عَطْفِ الِاسْمِ عَلَى مِثْلِهِ، وَالْفِعْلِ عَلَى الْفِعْلِ مِنْ أَسَالِيبِ الْقُرْآنِ وَفُنُونِهِ إِلَى أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: عَطْفُ الِاسْمِ عَلَى الِاسْمِ، وَشَرَطَ ابْنُ عَمْرُونٍ وَصَاحِبُهُ ابْنُ مَالِكٍ فِيهِ أَنْ يَصِحَّ أَنْ يُسْنَدَ أَحَدُهُمَا إِلَى مَا أُسْنِدَ إِلَى الْآخَرِ وَلِهَذَا مَنَعَ أَنْ يَكُونَ (وَزَوْجُكَ) فِي {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ} (الْبَقَرَةِ: 35)، (الْأَعْرَافِ: 19) مَعْطُوفًا عَلَى الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي " اسْكُنْ "، وَجَعَلَهُ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ بِمَعْنَى أَنَّهُ مَرْفُوعٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ وَلْتَسْكُنْ زَوْجُكَ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى} (طه: 58) لِأَنَّ مِنْ حَقِّ الْمَعْطُوفِ حُلُولَهُ مَحَلَّ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَلَا يَصِحُّ حُلُولُ زَوْجِكَ مَحَلَّ الضَّمِيرِ، لِأَنَّ فَاعِلَ فِعْلِ الْأَمْرِ الْوَاحِدِ الْمُذَكِّرِ، نَحْوَ: " قُمْ " لَا يَكُونُ إِلَّا ضَمِيرًا مُسْتَتِرًا، فَكَيْفَ يَصِحُّ وُقُوعُ الظَّاهِرِ مَوْقِعَ الْمُضْمَرِ الَّذِي قَبْلَهُ! وَرَدَّ عَلَيْهِ الشَّيْخُ أَثِيرُ الدِّينِ أَبُو حَيَّانَ، بِأَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي صِحَّةِ " تَقُومُ هِنْدٌ وَزَيْدٌ "، وَلَا يَصِحُّ مُبَاشَرَةُ زَيْدٍ لِـ (تَقُومُ) لِتَأْنِيثِهِ. (الثَّانِي) عَطْفُ الْفِعْلِ عَلَى الْفِعْلِ، قَالَ ابْنُ عَمْرُونٍ وَغَيْرُهُ: يُشْتَرَطُ فِيهِ اتِّفَاقُ زَمَانِهِمَا، فَإِنْ خَالَفَ رُدَّ إِلَى الِاتِّفَاقِ بِالتَّأْوِيلِ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ لَا يُلْبِسُ، وَكَانَتْ مُغَايَرَةُ الصِّيَغِ اتِّسَاعًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} (الْأَعْرَافِ: 170) فَعَطَفَ الْمَاضِيَ عَلَى الْمُضَارِعِ، لِأَنَّهَا مِنْ صِلَةِ الَّذِينَ، وَهُوَ يُضَارِعُ الشَّرْطَ لِإِيهَامِهِ، وَالْمَاضِي فِي الشَّرْطِ فِي حُكْمِ الْمُسْتَقْبَلِ، فَقَدْ تَغَايَرَتِ الصِّيَغُ فِي هَذَا كَمَا تَرَى، وَاللَّبْسُ مَأْمُونٌ، وَلَا نَظَرَ فِي الْجُمَلِ إِلَى اتِّفَاقِ الْمَعَانِي لِأَنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ بِنَفْسِهَا. انْتَهَى. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ} (الْفُرْقَانِ: 10) ثُمَّ قَالَ {وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا} (الْفُرْقَانِ: 10). وَقَوْلُهُ: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} (الْكَهْفِ: 47) ثُمَّ قَالَ: {وَحَشَرْنَاهُمْ}. وَقَالَ صَاحِبُ " الْمُسْتَوْفَى ": لَا يَتَمَشَّى عَطْفُ الْفِعْلِ عَلَى الْفِعْلِ إِلَّا فِي الْمُضَارِعِ، مَنْصُوبًا كَانَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} (الْمُدَّثِّرِ: 31) أَوْ مَجْزُومًا كَقَوْلِهِ: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (نُوحٍ: 4). فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ حَكَمْتُمْ بِأَنَّ الْعَاطِفَ مُخْتَصٌّ بِالْمُضَارِعِ، وَهُمْ يَقُولُونَ: قَامَ زَيْدٌ، وَقَعَدَ بَكْرٌ، وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} (الْكَهْفِ: 10) فِيهِ عَطْفُ الْمَاضِي عَلَى الْمَاضِي، وَعَطْفُ الدُّعَاءِ عَلَى الدُّعَاءِ. (فَالْجَوَابُ) أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَطْفِ هُنَا أَنْ تَكُونَ لَفْظَتَانِ تَتْبَعُ الثَّانِيَةُ مِنْهُمَا الْأُولَى فِي إِعْرَابِهَا، وَإِذَا كَانَتِ اللَّفْظَةُ غَيْرَ مُعَرَّبَةٍ، فَكَيْفَ يَصِحُّ فِيهَا التَّبَعِيَّةُ؟ فَصَحَّ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا الْعَطْفَ الَّذِي نَقْصِدُهُ الْآنَ. وَإِنْ صَحَّ أَنْ يُقَالَ: مَعْطُوفَةٌ الْعَطْفَ الَّذِي لَيْسَ لِلْإِتْبَاعِ، بَلْ يَكُونُ عَطْفُ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ مِنْ حَيْثُ هُمَا جُمْلَتَانِ، وَالْجُمْلَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الْإِعْرَابِ إِلَّا أَنْ تَحِلَّ مَحَلَّ الْفَرْدِ، وَظَهَرَ أَنَّهُ يَصِحُّ وُقُوعُ الْعَطْفِ عَلَيْهِ، وَعَدَمُهُ بِاعْتَبَارَيْنِ. (الثَّالِثُ) عَطْفُ الْفِعْلِ عَلَى الِاسْمِ، وَالِاسْمِ عَلَى الْفِعْلِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ، وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ إِذَا كَانَ مُقَدَّرًا بِالْفِعْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} (الْمُلْكِ: 19) وَقَوْلِهِ: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ} (الْحَدِيدِ: 18). وَاحْتَجَّ الزَّمَخْشَرِيُّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ حَمَلَهُ عَلَى مَعْنَى الْمُصَّدِّقِينَ الَّذِينَ تَصَدَّقُوا. قَالَ ابْنُ عَمْرُونٍ: وَيَدُلُّ لِعَطْفِ الِاسْمِيَّةِ عَلَى الْفِعْلِيَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} (مَرْيَمَ: 37) فَعَطَفَ {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} (مَرْيَمَ: 37) وَهِيَ جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ عَلَى {فَاخْتَلَفَ} وَهِيَ فِعْلِيَّةٌ بِالْفَاءِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} (التَّوْبَةِ: 87). وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} (الْحَاقَّةِ: 18- 19). قَالَ: وَإِذَا جَازَ عَطْفُ الِاسْمِيَّةِ عَلَى الْفِعْلِيَّةِ بِـ (أَمْ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} (الْأَعْرَافِ: 193) إِذِ الْمَوْضِعُ لِلْمُعَادَلَةِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ أَوْقَعَ الِاسْمِيَّةَ مَوْقِعَ الْفِعْلِيَّةِ، نَظَرًا إِلَى الْمَعْنَى: أَصَمَتُّمْ فَمَا الْمَانِعُ هُنَا؟ وَجَعَلَ ابْنُ مَالِكٍ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} (الْأَنْعَامِ: 95) عَطْفًا عَلَى (يُخْرِجُ) لِأَنَّ الِاسْمَ فِي تَأْوِيلِ الْفِعْلِ. وَالتَّحْقِيقُ مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّهُ عَطَفَ عَلَى {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} (الْأَنْعَامِ: 95) لِيَتَنَاسَبَ الْمُتَعَاطِفَانِ، وَفِي الْأَوَّلِ يُخَالِفُ ذَلِكَ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، وَأَيْضًا قَوْلُهُ: {يُخْرِجُ الْحَيَّ} تَفْسِيرٌ لِـ {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى (يُخْرِجُ) لِأَنَّهُ لَيْسَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ: {فَالِقُ الْحَبِّ} فَيُعْطَفُ عَلَى تَفْسِيرِهِ، بَلْ هُوَ قَسِيمٌ لَهُ.
يَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارِ الْمَعْطُوفِ إِلَى أَقْسَامٍ: عَطْفٍ عَلَى اللَّفْظِ، وَعَطْفٍ عَلَى الْمَوْضِعِ، وَعَطْفٍ عَلَى التَّوَهُّمِ. فَالْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ بِاعْتِبَارِ عَمَلٍ مَوْجُودٍ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَهُوَ الْعَطْفُ عَلَى اللَّفْظِ، نَحْوُ: لَيْسَ زَيْدٌ بِقَائِمٍ وَلَا ذَاهِبٍ، وَهُوَ الْأَصْلُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِاعْتِبَارِ عَمَلٍ لَمْ يُوجَدْ فِي الْمَعْطُوفِ، إِلَّا أَنَّهُ مُقَدَّرٌ فِي الْوُجُودِ لِوُجُودِ طَالِبِهِ، فَهُوَ الْعَطْفُ عَلَى الْمَوْضِعِ، نَحْوُ: لَيْسَ زَيْدٌ بِقَائِمٍ وَلَا ذَاهِبًا، بِنَصْبِ " ذَاهِبًا " عَطْفًا عَلَى مَوْضِعِ قَائِمٍ لِأَنَّهُ خَبَرُ لَيْسَ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} (هُودٍ: 60) بِأَنْ يَكُونَ " يَوْمَ الْقِيَامَةِ " مَعْطُوفًا عَلَى مَحَلِّ " هَذِهِ "، ذَكَرَهُ الْفَارِسِيُّ وَقَوْلُهُ: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرْهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (الْأَعْرَافِ: 186) فِي قِرَاءَةِ الْجَزْمِ إِنَّهُ بِالْعَطْفِ عَلَى مَحَلِّ {فَلَا هَادِيَ لَهُ}. وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى} (الْأَحْقَافِ: 12) إِنَّ بُشْرَى فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِالْعَطْفِ عَلَى مَحَلِّ " لِيُنْذِرَ " لِأَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ. وَغَلَطَا فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ شَرْطَهُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ بِحَقِّ الْأَصَالَةِ، وَالْمَحَلُّ لَيْسَ هُنَا كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْجَرُّ فِي الْمَفْعُولِ لَهُ، وَإِنَّمَا النَّصْبُ نَاشِئٌ عَنْ إِسْقَاطِ الْخَافِضِ. وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ} (الْأَنْعَامِ: 96) كَوْنَ الشَّمْسِ مَعْطُوفًا عَلَى مَحَلِّ اللَّيْلِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ بِاعْتِبَارِ عَمَلٍ لَمْ يُوجَدْ هُوَ وَلَا طَالِبُهُ، هُوَ الْعَطْفُ عَلَى التَّوَهُّمِ، نَحْوُ: لَيْسَ زَيْدٌ قَائِمًا وَلَا ذَاهِبٍ، بِجَرِّ ذَاهِبٍ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى خَبَرِ لَيْسَ الْمَنْصُوبِ بِاعْتِبَارِ جَرِّهِ بِالْبَاءِ لَوْ دَخَلَتْ عَلَيْهِ، فَالْجَرُّ عَلَى مَفْقُودٍ وَعَامِلِهِ، وَهُوَ الْبَاءُ مَفْقُودٌ أَيْضًا، إِلَّا أَنَّهُ مُتَوَهَّمُ الْوُجُودِ لِكَثْرَةِ دُخُولِهِ فِي خَبَرِ لَيْسَ، فَلَمَّا تُوُهِّمَ وُجُودُهُ صَحَّ اعْتِبَارُ مِثْلِهِ، وَهَذَا قَلِيلٌ فِي كَلَامِهِمْ. وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَجِئْ إِلَّا فِي الشِّعْرِ، وَلَكِنْ جَوَّزَهُ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ فِي الْقُرْآنِ، وَعَلَيْهِ خَرَّجَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} (الْمُنَافِقُونَ: 10) كَأَنَّهُ قِيلَ: " أَصْدُقَ وَأَكُنْ ". وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْعَطْفِ عَلَى الْمَوْضِعِ؛ أَيْ مَحَلِّ " أَصَّدَّقَ ". وَالتَّحْقِيقُ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ: هُوَ عَلَى تَوَهُّمِ أَنَّ الْفَاءَ لَمْ يُنْطَقْ بِهَا، وَاعْلَمْ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَدْ شَنَّعَ الْقَوْلَ بِهَذَا فِي الْقُرْآنِ عَلَى النَّحْوِيِّينَ، وَقَالَ: كَيْفَ يَجُوزُ التَّوَهُّمُ فِي الْقُرْآنِ؟! وَهَذَا جَهْلٌ مِنْهُ بِمُرَادِهِمْ، فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالتَّوَهُّمِ الْغَلَطَ، بَلْ تَنْزِيلَ الْمَوْجُودِ مِنْهُ مَنْزِلَةَ الْمَعْدُومِ، كَالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَأَصَّدَّقَ) لِيُبْنَى عَلَى ذَلِكَ مَا يُقْصَدُ مِنَ الْإِعْرَابِ وَجَعَلَ مِنْهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} (هُودٍ: 71) فِي مَنْ فَتَحَ الْبَاءَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: " وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ " عَلَى طَرِيقَةِ: لَيْسُوا مُصْلِحِينَ عَشِيرَةً وَلَا نَاعِبٍ وَقَدْ يَجِيءُ قِسْمٌ آخَرُ، وَهُوَ الْعَطْفُ عَلَى الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} (الْبَقَرَةِ: 258) ثُمَّ قَالَ: {أَوْ كَالَّذِي} (الْبَقَرَةِ: 259) عَطْفُ الْمَجْرُورِ بِالْكَافِ عَلَى الْمَجْرُورِ بِـ (إِلَى) حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى لِأَنَّ قَوْلَهُ: " إِلَى الَّذِي " فِي مَعْنَى أَرَأَيْتَ كَالَّذِي. وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ} (الصَّافَّاتِ: 7) أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى مَعْنَى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا} (الصَّافَّاتِ: 6) وَهُوَ: إِنَّا خَلَقْنَا الْكَوَاكِبَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا زِينَةً لِلسَّمَاءِ الدُّنْيَا. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} (غَافِرٍ: 36- 37) عَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ إِنَّهُ عَطْفُ مَعْنَى {لَعَلِّي أَبْلُغُ} وَهُوَ " لَعَلِّي أَنْ أَبْلُغَ "، فَإِنَّ خَبَرَ لَعَلَّ يَقْتَرِنُ بِـ (أَنْ) كَثِيرًا.
الْأَصْلُ فِي الْعَطْفِ التَّغَايُرُ، وَقَدْ يُعْطَفُ الشَّيْءُ عَلَى نَفْسِهِ فِي مَقَامِ التَّأْكِيدِ، فِي الْقُرْآنِ وَقَدْ سَبَقَ إِفْرَادُهُ بِنَوْعٍ فِي فُصُولِ التَّأْكِيدِ.
يَجُوزُ فِي الْحِكَايَةِ جَوَازُ حَذْفِ الْوَاوِ وَالْفَاءِ فِيهَا فِي الْقُرْآنِ عَنِ الْمُخَاطَبَيْنِ إِذَا طَالَتْ: قَالَ زَيْدٌ، قَالَ عَمْرٌو، مِنْ غَيْرِ أَنْ تَأْتِيَ بِالْوَاوِ وَبِالْفَاءِ، وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} (الْبَقَرَةِ: 258) الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (الشُّعَرَاءِ: 23- 24) وَنَظَائِرُهَا. وَإِنَّمَا حَسُنَ ذَلِكَ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْ حَرْفِ الْعَطْفِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمُتَقَدِّمَ مِنَ الْقَوْلَيْنِ يَسْتَدْعِي التَّأَخُّرَ مِنْهُمَا، فَلِهَذَا كَانَ الْكَلَامُ مَبْنِيًّا عَلَى الِانْفِصَالِ، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مُسْتَأْنَفًا ظَاهِرًا، وَإِنْ كَانَ الذِّهْنُ يُلَائِمُ بَيْنَهُمَا.
الْعَطْفُ عَلَى الْمُضْمَرِ، وَبَلَاغَتُهُ فِي الْقُرْآنِ إِنْ كَانَ مُنْفَصِلًا مَرْفُوعًا، فَلَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ فَاصِلِ تَأْكِيدٍ، أَوْ غَيْرِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ} (الْأَعْرَافِ: 27) {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا} (الْمَائِدَةِ: 24) {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} (الْبَقَرَةِ: 35) عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِابْنِ مَالِكٍ فِي جَعْلِهِ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ، بِتَقْدِيرِ: " وَلْتَسْكُنْ زَوْجُكَ ". وَقَوْلِهِ: {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ} (الْأَنْعَامِ: 91). {يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ} (الرَّعْدِ: 23). {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} (آلِ عِمْرَانَ: 20). وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْهُ {أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَ آبَاؤُنَا} (الصَّافَّاتِ: 16- 17) فِيمَنْ قَرَأَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَجَعَلَ الْفَصْلَ بِالْهَمْزَةِ. وَرُدَّ بِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَا يَدْخُلُ عَلَى الْمُفْرَدَاتِ، وَجَعَلَ الْفَارِسِيُّ مِنْهُ مَا {أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} (الْأَنْعَامِ: 148) وَأَعْرَبَ ابْنُ الدَّهَّانِ {وَلَا آبَاؤُنَا} مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (أَشْرَكُوا) مُقَدَّرًا. وَأَجَازَ الْكُوفِيُّونَ الْعَطْفَ مِنْ غَيْرِ فَاصِلٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ} (الْمَائِدَةِ: 69). فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} (النَّجْمِ: 6- 7) فَقَالَ الْفَارِسِيُّ: وَهُوَ مُبْتَدَأٌ، وَلَيْسَ مَعْطُوفًا عَلَى ضَمِيرٍ فَاسْتَوَى وَإِنْ كَانَ مَجْرُورًا فَلَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ تَكْرَارِ الْجَارِّ فِيهِ، نَحْوُ: مَرَرْتُ بِهِ وَبِزَيْدٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} (الْمُؤْمِنُونَ: 22)، {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ} (فُصِّلَتْ: 11)، {جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} (الْإِسْرَاءِ: 45). وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} (الْأَحْزَابِ: 7) فَإِنْ جَعَلْنَا {وَمِنْ نُوحٍ} مَعْطُوفًا عَلَى (مِنْكَ) فَالْإِعَادَةُ لَازِمَةٌ، وَإِنْ جُعِلَ مَعْطُوفًا عَلَى (النَّبِيِّينَ) فَجَائِزَةٌ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: لَا تَلْزَمُ الْإِعَادَةُ مُحْتَجِّينَ بِآيَاتٍ: (الْأُولَى): قِرَاءَةُ حَمْزَةَ {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} (النِّسَاءِ: 1) بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ فِي (بِهِ) فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ الْخَفْضُ عَلَى الْعَطْفِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى الْقَسَمِ وَجَوَابِهِ: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (النِّسَاءِ: 1). قُلْنَا: رَدَّهُ الزَّجَّاجُ بِالنَّهْيِ عَنِ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ وَهُوَ عَجِيبٌ، فَإِنَّ ذَلِكَ عَلَى الْمَخْلُوقِينَ. (الثَّانِيَةُ) قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} (الْحِجْرِ: 20) وَفِي، {وَمَنْ لَسْتُمْ} أَوَّلَهَا الْمَانِعُونَ كَابْنِ الدَّهَّانِ بِتَقْدِيرِ: " وَيَرْزُقُ مَنْ لَسْتُمْ "، وَالزَّجَّاجُ بِتَقْدِيرِ: " أَعْنِي مَنْ لَسْتُمْ ". قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: لِأَنَّ الْمَعْنَى: " أَعَشْنَاكُمْ وَأَعَشْنَا مَنْ لَسْتُمْ "، وَقَدَّمَ أَنَّهَا نَصْبٌ بِـ (جَعَلْنَا) قَالَ: وَالْمُرَادُ بِـ (مَنْ) الْعَبِيدُ، وَالْإِمَاءُ، وَالْبَهَائِمُ، فَإِنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِمَنَافِعِهَا. (الثَّالِثَةُ) قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (الْبَقَرَةِ: 217) وَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مَعْطُوفٌ عَلَى سَبِيلِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (الْبَقَرَةِ: 217). وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ صَرَّحَ بِنِسْبَةِ الصَّدِّ إِلَى الْمَسْجِدِ فِي قَوْلِهِ: {أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (الْمَائِدَةِ: 2). وَهَذَا الْوَجْهُ حَسَنٌ لَوْلَا مَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْفَصْلُ بَيْنَ (صَدٌّ) وَهُوَ مَصْدَرٌ، وَمَعْمُولُهُ، وَهُوَ (الْمَسْجِدِ) بِقَوْلِهِ: {وَكُفْرٌ بِهِ} وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ. وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى (الشَّهْرِ) (الْبَقَرَةِ: 217) لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْأَلُوا عَنْهُ، وَلَا عَلَى (سَبِيلِ) لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ مِنْ تَتِمَّةِ الْمَصْدَرِ، وَلَا يُعْطَفُ عَلَى الْمَصْدَرِ قَبْلَ تَمَامِهِ. (الرَّابِعَةُ) قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ} (الْأَنْفَالِ: 64) قَالُوا: الْوَاوُ عَاطِفَةٌ لِـ (مَنْ) عَلَى الْكَافِ الْمَجْرُورَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: حَسْبُكَ مَنِ اتَّبَعَكَ. وَرُدَّ بِأَنَّ الْوَاوَ لِلْمُصَاحَبَةِ " وَمَنْ " فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَطْفًا عَلَى الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ: فَحَسْبُكَ وَالضَّحَّاكُ سَيْفٌ مُهَنَّدُ *** (الْخَامِسَةُ) قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} (الْبَقَرَةِ: 200) إِذْ جَعَلَ " أَشَدَّ " مَجْرُورًا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّهُ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَطْفًا عَلَى مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ الذِّكْرُ فِي قَوْلِهِ: (كَذِكْرِكُمْ) كَمَا تَقُولُ: كَذِكْرِ قُرَيْشٍ آبَاءَهُمْ، أَوْ قَوْمٌ أَشَدُّ مِنْهُمْ ذِكْرًا. لَكِنَّ هَذَا عُطِفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَخْفُوضِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إِلَّا عَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ. وَقَدْ خَالَفَهُ الْجُمْهُورُ، وَجَعَلُوهُ مَجْرُورًا عَطْفًا عَلَى " ذِكْرِكُمْ " الْمَجْرُورِ بِكَافِ التَّشْبِيهِ، تَقْدِيرُهُ: " أَوْ كَذِكْرِكُمْ أَشَدَّ "، فَجَعَلَ لِلذِّكْرِ ذِكْرًا مَجَازًا، وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ، وَتَابَعَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَأَبُو الْبَقَاءِ، وَغَيْرُهُمَا. وَمِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ الْعَطْفُ عَلَى عَامِلَيْنِ، نَحْوُ: لَيْسَ زَيْدٌ بِقَائِمٍ، وَلَا قَاعِدٍ عَمْرٌو، عَلَى أَنْ يَكُونَ " وَلَا قَاعِدٍ " مَعْطُوفًا عَلَى قَائِمٍ، وَعَمْرٌو عَلَى زَيْدٍ، مَنَعَهُ الْجُمْهُورُ، وَأَجَازَهُ الْأَخْفَشُ مُحْتَجًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} (الْجَاثِيَةِ: 5) ثُمَّ قَالَ: " آيَاتٍ " بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: " لَآيَاتٍ " الْمَنْصُوبِ بِـ " إِنَّ " فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ، وَ {اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} مَجْرُورٌ بِالْعَطْفِ عَلَى {السَّمَاوَاتِ} (الْجَاثِيَةِ: 3) الْمَجْرُورِ بِحَرْفِ الْجَرِّ الَّذِي هُوَ " فِي "، فَقَدْ وُجِدَ الْعَطْفُ عَلَى عَامِلَيْنِ، وَأُجِيبُ بِجَعْلِ " آيَاتٍ " تَأْكِيدًا لِـ " آيَاتٍ " الْأُولَى
لَهُ اسْتِعْمَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُرَادَ بِهِ وَاحِدٌ مِنْ ذَلِكَ الْعَدَدِ، فَهَذَا يُضَافُ لِلْعَدَدِ الْمُوَافِقِ لَهُ، نَحْوُ رَابِعِ أَرْبَعَةٍ، وَخَامِسِ خَمْسَةٍ، وَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا الْإِضَافَةُ خِلَافًا لِثَعْلَبٍ فَإِنَّهُ أَجَازَ: ثَالِثٌ ثَلَاثَةٍ بِالتَّنْوِينِ، قَالَ تَعَالَى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} (التَّوْبَةِ: 40) وَهَذَا الْقِسْمُ لَا يَجُوزُ إِطْلَاقُهُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} (الْمَائِدَةِ: 73). الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ، وَهَذَا يُضَافُ إِلَى الْعَدَدِ الْمُخَالِفِ لَهُ فِي اللَّفْظِ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ أَنْقَصَ مِنْهُ بِوَاحِدٍ، كَقَوْلِكَ: ثَالِثُ اثْنَيْنِ، وَرَابِعُ ثَلَاثَةٍ، وَخَامِسُ أَرْبَعَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} (الْمُجَادَلَةِ: 7) أَيْ يُصَيِّرُهُمْ بِعِلْمِهِ وَإِحَاطَتِهِ أَرْبَعَةً وَخَمْسَةً. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ بَدَأَ بِالثَّلَاثِ، وَهَلَّا جَاءَ: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى وَاحِدٍ إِلَّا هُوَ ثَانِيهِ، وَلَا اثْنَيْنِ إِلَّا هُوَ ثَالِثُهُمْ؟ قِيلَ: لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ بَعْضَ عِبَادِهِ كَفَرَ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَادَّعَى أَنَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، فَلَوْ قَالَ: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى وَاحِدٍ إِلَّا هُوَ ثَانِيهِ، لَثَارَتْ ضَلَالَةٌ مِنْ كُفْرٍ بِاللَّهِ وَجَعْلِهِ ثَانِيًا، وَقَالَ: وَهَذَا قَوْلُ اللَّهِ هَكَذَا. وَلَوْ قَالَ: وَلَا اثْنَيْنِ إِلَّا هُوَ ثَالِثُهُمْ، لَتَمَسَّكَ بِهِ الْكُفَّارُ، فَعَدَلَ سُبْحَانَهُ عَنْ هَذَا لِأَجْلِ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ: {وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ} (الْمُجَادَلَةِ: 7) فَذَكَرَ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ بِالتَّلْوِيحِ لَا بِالتَّصْرِيحِ، فَدَخَلَ تَحْتَهُ مَالَا يَتَنَاهَى، وَهَذَا مِنْ بَعْضِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ.
حَقُّ مَا يُضَافُ إِلَيْهِ الْعَدَدُ مِنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ فِي الْمَوَاطِنِ الْبَلَاغِيَّةِ مِنَ الْقُرْآنِ أَنْ يَكُونَ اسْمَ جِنْسٍ أَوِ اسْمَ جَمْعٍ، وَحِينَئِذٍ فَيُجَرُّ بِـ " مَنْ "، نَحْوُ: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ} (الْبَقَرَةِ: 260). وَيَجُوزُ إِضَافَتُهُ، نَحْوُ: {تِسْعَةُ رَهْطٍ} (النَّمْلِ: 48). وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمَا مِنَ الْجُمُوعِ أُضِيفَ إِلَيْهِ الْجَمْعُ عَلَى مِثَالِ جَمْعِ الْقِلَّةِ مِنَ التَّكْسِيرِ، وَعِلَّتُهُ أَنَّ الْمُضَافَ مَوْضُوعٌ لِلْقِلَّةِ، فَتَلْزَمُ إِضَافَتُهُ إِلَى جَمْعِ قِلَّةٍ، طَلَبًا لِمُنَاسَبَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ الْمُضَافَ فِي الْقِلَّةِ، لِأَنَّ الْمُفَسِّرَ عَلَى حَسَبِ الْمُفَسَّرِ، فَتَقُولُ: ثَلَاثَةُ أَفْلُسٍ وَأَرْبَعَةُ أَعْبُدٍ، قَالَ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} (لُقْمَانَ: 27). وَقَدِ اسْتَشْكَلَ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (الْبَقَرَةِ: 228) فَإِنَّ قُرُوءَ جَمْعُ كَثْرَةٍ، وَقَدْ أُضِيفَ إِلَى الثَّلَاثَةِ وَلَوْ جَاءَ عَلَى الْقَاعِدَةِ لَقَالَ: أَقْرَاءٌ، وَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ أُوثِرَ جَمْعُ الْكَثْرَةِ هُنَا، لِأَنَّ بِنَاءَ الْقِلَّةِ شَاذٌّ، فَإِنَّهُ جَمْعُ " قَرْءٍ " بِفَتْحِ الْقَافِ، وَجَمْعُ " فَعْلٍ " عَلَى " أَفْعَالٍ " شَاذٌّ قِيَاسًا، فَجَمَعُوهُ عَلَى " فُعُولٍ " إِيثَارًا لِلْفَصِيحِ فَأَشْبَهَ مَا لَيْسَ لَهُ إِلَّا جَمْعَ كَثْرَةٍ، فَإِنَّهُ يُضَافُ إِلَيْهِ كَثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ. ذَكَرَهُ ابْنُ مَالِكٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْقِلَّةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ وَاجِدٍ مِنَ الْمُطْلَقَاتِ، وَإِنَّمَا أَضَافَ جَمْعَ الْكَثْرَةِ نَظَرًا إِلَى كَثْرَةِ الْمُتَرَبِّصَاتِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ تَتَرَبَّصُ ثَلَاثَةً. حَكَاهُ فِي الْبَسِيطِ عَنْ أَهْلِ الْمَعَانِي. الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ قُرُوءٌ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْإِضَافَةَ نَعْتٌ فِي تَقْدِيرِ الِانْفِصَالِ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى " مِنْ " الَّتِي لِلتَّبْعِيضِ أَيْ ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ مِنْ قُرُوءٍ. كَمَا أَجَازَ الْمُبَرِّدُ ثَلَاثَةَ حَمِيرٍ، وَثَلَاثَةَ كِلَابٍ، عَلَى إِرَادَةِ " مِنْ " أَيْ مِنْ حَمِيرٍ وَمِنْ كِلَابٍ.
أَلْفَاظُ الْعَدَدِ نُصُوصٌ، وَرَدَتْ فِي الْقُرْآنِ وَلِهَذَا لَا يَدْخُلُهَا تَأْكِيدٌ لِأَنَّهُ لِدَفْعِ الْمَجَازِ، فِي إِطْلَاقِ الْكُلِّ وَإِرَادَةِ الْبَعْضِ، وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي الْعَدَدِ، وَقَدْ أَوْرَدَ عَلَى ذَلِكَ آيَاتٍ شَرِيفَةً. الْأُولَى قَوْلُهُ تَعَالَى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} (الْبَقَرَةِ: 196) فَأَكَّدَ الْعَشَرَةَ بِالْكَامِلَةِ، وَالْجَوَابُ أَنَّ التَّأْكِيدَ هُنَا لَيْسَ لِدَفْعِ نُقْصَانِ أَصْلِ الْعَدَدِ، بَلْ لِدَفْعِ نُقْصَانِ الصِّفَةِ، لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي الْبَدَلِ أَنْ يَكُونَ دُونَ الْمُبْدَلِ مِنْهُ، مَعْنَاهُ أَنَّ الْفَاقِدَ لِلْهُدَى لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ. الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} (الْعَنْكَبُوتِ: 14) وَلَوْ كَانَتْ أَلْفَاظُ الْعَدَدِ نُصُوصًا لَمَا دَخَلَهَا الِاسْتِثْنَاءُ إِنَّمَا يَكُونُ عَامًّا، وَالْجَوَابُ أَنَّ التَّجَوُّزَ قَدْ يَدْخُلُ فِي الْأَلْفِ، فَإِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْمُبَالَغَةِ لِلتَّكْثِيرِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ رَفَعَ ذَلِكَ. الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} (النَّحْلِ: 51) وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ التَّأْكِيدِ الْجَوَابُ عَنْهُ. الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} (التَّوْبَةِ: 80) وَقَوْلُهُ: {سَبْعُونَ ذِرَاعًا} (الْحَاقَّةِ: 32) قَالُوا: الْمُرَادُ بِهَا الْكَثْرَةُ، وَخُصُوصُ السَّبْعِينَ لَيْسَ مُرَادًا، وَهَذَا مَجَازٌ. وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} (الْمُلْكِ: 4) قِيلَ الْمُرَادُ: الْمُرَاجَعَةُ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ، وَجِيءَ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ تَنْبِيهًا عَلَى أَصْلِ الْكَثْرَةِ وَهُوَ مَجَازٌ.
وَمِنْ ذَلِكَ لَفْظُ " فَعَلَ " كَثِيرًا مَا يَجِيءُ كِنَايَةً عَنْ أَفْعَالٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَرَدَتْ فِي الْقُرْآنِ وَفَائِدَتُهُ الِاخْتِصَارُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (الْمَائِدَةِ: 79). {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ} (النِّسَاءِ: 66). وَقَوْلِهِ: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} (الْبَقَرَةِ: 24) أَيْ لَمْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، وَلَنْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ. وَحَيْثُ أُطْلِقَتْ فِي كَلَامِ اللَّهِ فَهِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} (الْفِيلِ: 1). {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} (إِبْرَاهِيمَ: 45).
وَمِنْ ذَلِكَ الْإِخْبَارُ عَنْ ذَاتِ اللَّهِ أَوْ صِفَاتِهِ وَغَيْرِهَا بِـ " كَانَ " فِي الْقُرْآنِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ النُّحَاةُ وَغَيْرُهُمْ فِي أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الِانْقِطَاعِ عَلَى مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا تُفِيدُ الِانْقِطَاعَ لِأَنَّهَا فِعْلٌ يُشْعِرُ بِالتَّجَدُّدِ. وَالثَّانِي: لَا تُفِيدُهُ بَلْ تَقْتَضِي الدَّوَامَ وَالِاسْتِمْرَارَ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ مُعْطٍ فِي أَلْفِيَّتِهِ؛ حَيْثُ قَالَ: وَكَانَ لِلْمَاضِي الَّذِي مَا انْقَطَعَا *** وَقَالَ الرَّاغِبُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} (الْإِسْرَاءِ: 27) نَبَّهَ بِقَوْلِهِ " كَانَ " عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُنْذُ أُوْجِدَ مُنْطَوِيًا عَلَى الْكُفْرِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ وُجُودِ الشَّيْءِ فِي زَمَانٍ مَاضٍ عَلَى سَبِيلِ الْإِبْهَامِ، وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ سَابِقٍ، وَلَا عَلَى انْقِطَاعِ طَارِئٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (الْأَحْزَابِ: 50) قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (آلِ عِمْرَانَ: 110). وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ أَنَّهَا حَيْثُ وَقَعَتْ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَهِيَ مَسْلُوبَةُ الدَّلَالَةِ عَلَى الزَّمَانِ. وَالصَّوَابُ مِنْ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ مَقَالَةُ الزَّمَخْشَرِيِّ، وَأَنَّهَا تُفِيدُ اقْتِرَانَ مَعْنَى الْجُمْلَةِ الَّتِي تَلِيهَا بِالزَّمَنِ الْمَاضِي لَا غَيْرَ، وَلَا دَلَالَةَ لَهَا نَفْسِهَا عَلَى انْقِطَاعِ ذَلِكَ الْمَعْنَى وَلَا بَقَائِهِ، بَلْ إِنَّ إِفَادَةَ الْكَلَامِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ كَانَ لِدَلِيلٍ آخَرَ. إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَقَدَ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ إِخْبَارُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ وَغَيْرِهَا بِلَفْظِ كَانَ كَثِيرًا، نَحْوُ: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} (النِّسَاءِ: 148) {وَاسِعًا حَكِيمًا} (النِّسَاءِ: 130). {غَفُورًا رَحِيمًا} (الْأَحْزَابِ: 59). {تَوَّابًا رَحِيمًا} (النِّسَاءِ: 64). {وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} (الْأَنْبِيَاءِ: 81). {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} (الْأَنْبِيَاءِ: 78). فَحَيْثُ وَقَعَ الْإِخْبَارُ " بِـكَانَ " عَنْ صِفَةٍ ذَاتِيَّةٍ فَالْمُرَادُ الْإِخْبَارُ عَنْ وُجُودِهَا، وَأَنَّهَا لَمْ تُفَارِقْ ذَاتَهُ، وَلِهَذَا يُقَرِّرُهَا بَعْضُهُمْ بِـ " مَا زَالَ " فِرَارًا مِمَّا يَسْبِقُ إِلَى الْوَهْمِ، إِنْ كَانَ يُفِيدُ انْقِطَاعَ الْمُخْبَرِ بِهِ عَنِ الْوُجُودِ لِقَوْلِهِمْ، دَخَلَ فِي خَبَرِ كَانَ، قَالُوا: فَكَانَ وَمَا زَالَ مَجَازَانِ، يُسْتَعْمَلُ أَحَدُهُمَا فِي مَعْنَى الْآخَرِ مَجَازًا بِالْقَرِينَةِ. وَهُوَ تَكَلُّفٌ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَزَلِيَّةِ الصِّفَةِ، ثُمَّ تَسْتَفِيدُ بَقَاءَهَا فِي الْحَالِ، وَفِيمَا لَا يَزَالُ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَبِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ سُؤَالَانِ. (أَحَدُهُمَا): أَنَّ الْبَارِئَ سُبْحَانَهُ وَصِفَاتِهِ مَوْجُودَةٌ قَبْلَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، فَكَيْفَ تَدُلُّ كَانَ الزَّمَانِيَّةُ عَلَى أَزَلِيَّةِ صِفَاتِهِ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ قَبْلَ الزَّمَانِ؟ (وَثَانِيهُمَا): مَدْلُولُ " كَانَ " اقْتِرَانُ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ بِالزَّمَانِ اقْتِرَانًا مُطْلَقًا فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى اسْتِغْرَاقِهِ الزَّمَانَ؟ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ الزَّمَانَ نَوْعَانِ: حَقِيقِيٌّ، وَهُوَ مُرُورُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، أَوْ مِقْدَارُ حَرَكَةِ الْفَلَكِ عَلَى مَا قِيلَ فِيهِ. وَتَقْدِيرِيٌّ، وَهُوَ مَا قَبْلَ ذَلِكَ وَمَا بَعْدَهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} (مَرْيَمَ: 62) وَلَا بُكْرَةً هُنَاكَ وَلَا عَشِيًّا، وَإِنَّمَا هُوَ زَمَانٌ تَقْدِيرِيٌّ فَرْضِيٌّ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} (الْفُرْقَانِ: 59) مَعَ أَنَّ الْأَيَّامَ الْحَقِيقِيَّةَ لَا تُوجَدُ إِلَّا بِوُجُودِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَإِنَّمَا الْإِشَارَةُ إِلَى أَيَّامٍ تَقْدِيرِيَّةٍ. وَعَنِ الثَّانِي أَنَّ كَانَ لَمَّا دَلَّتْ عَلَى اقْتِرَانِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ بِالزَّمَانِ، لَمْ يَكُنْ بَعْضُ أَفْرَادِ الْأَزْمِنَةِ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ بَعْضٍ، فَإِمَّا أَلَّا يَتَعَلَّقَ مَضْمُونُهَا بِزَمَانٍ فَيُعَطَّلَ، أَوْ يُعَلَّقَ بَعْضُهَا دُونَ بَعْضٍ، وَهُوَ تَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ، أَوْ يَتَعَلَّقَ بِكُلِّ زَمَانٍ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَحَيْثُ وَقَعَ الْإِخْبَارُ بِهَا عَنْ صِفَةٍ فِعْلِيَّةٍ، فَالْمُرَادُ تَارَةً الْإِخْبَارُ عَنْ قُدْرَتِهِ عَلَيْهَا فِي الْأَزَلِ، نَحْوَ: كَانَ اللَّهُ خَالِقًا وَرَازِقًا وَمُحْيِيًا وَمُمِيتًا، وَتَارَةً تَحْقِيقُ نِسْبَتِهَا إِلَيْهِ، نَحْوَ: {وَكُنَّا فَاعِلِينَ} (الْأَنْبِيَاءِ: 79) وَتَارَةً ابْتِدَاءُ الْفِعْلِ وَإِنْشَاؤُهُ، نَحْوَ: {وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} (الْقَصَصِ: 58) فَإِنَّ الْإِرْثَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ مَالِكُ كُلِّ شَيْءٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ، مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ. وَحَيْثُ أَخْبَرَ بِهَا عَنْ صِفَاتِ الْآدَمِيِّينَ فَالْمُرَادُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهَا فِيهِمْ غَرِيزَةٌ وَطَبِيعَةٌ مَرْكُوزَةٌ فِي نَفْسِهِ، نَحْوُ: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} (الْإِسْرَاءِ: 11). {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (الْأَحْزَابِ: 72). وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} (الْمَعَارِجِ: 19- 21) أَيْ خُلِقَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، أَوْ بِالْقُوَّةِ، ثُمَّ تَخَرَّجَ إِلَى الْفِعْلِ. وَحَيْثُ أَخْبَرَ بِهَا عَنْ أَفْعَالِهِمْ دَلَّتْ عَلَى اقْتِرَانِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ بِالزَّمَانِ، نَحْوَ: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} (الْأَنْبِيَاءِ: 90). وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الْحِكَايَةُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَفْظِ " كَانَ يَصُومُ "، وَ " كُنَّا نَفْعَلُ "، وَهُوَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ يُفِيدُ الدَّوَامَ، فَإِنْ عَارَضَهُ مَا يَقْتَضِي عَدَمَ الدَّوَامِ مِثْلَ أَنْ يُرْوَى: " كَانَ يَمْسَحُ مَرَّةً "، ثُمَّ نُقِلَ أَنَّهُ يَمْسَحُ ثَلَاثًا، فَهَذَا مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ، وَإِنْ رُوِيَ النَّفْيُ، وَالْإِثْبَاتُ تَعَارَضَا. وَقَالَ الصَّفَّارُ فِي شَرْحِ سِيبَوَيْهِ: إِذَا اسْتُعْمِلَتْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمَاضِي فَهَلْ تَقْتَضِي الدَّوَامَ وَالِاتِّصَالَ أَمْ لَا؟ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ، وَذَلِكَ أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: كَانَ زَيْدٌ قَائِمًا، فَهَلْ هُوَ الْآنَ قَائِمٌ؟ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، هَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ ضَرُورَةً، وَإِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى جَعْلِهَا لِلدَّوَامِ مَا وَرَدَ مِنْ مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (الْأَحْزَابِ: 73) وَقَوْلِهِ: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} (الْإِسْرَاءِ: 32) وَهَذَا عِنْدَنَا يَتَخَرَّجُ عَلَى أَنَّهُ جَوَابٌ لِمَنْ سَأَلَ: هَلْ كَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا؟ وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ، فَالْمَعْنَى أَيْ قَدْ كَانَ عِنْدَكُمْ فَاحِشَةً؟ وَكُنْتُمْ تَعْتَقِدُونَ فِيهِ ذَلِكَ فَتَرْكُهُ يَسْهُلُ عَلَيْكُمْ. قَالَ ابْنُ الشَّجَرِيِّ فِي أَمَالِيهِ: اخْتُلِفَ فِي " كَانَ " فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (النِّسَاءِ: 158) عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا بِمَعْنَى لَمْ يَزَلْ، كَأَنَّ الْقَوْمَ شَاهَدُوا عِزًّا وَحِكْمَةً وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً، فَقِيلَ لَهُمْ: لَمْ يَزَلِ اللَّهُ كَذَلِكَ. قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ الْفِعْلِ فِيمَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ، فَإِذَا كَانَ فِعْلًا مُتَطَاوِلًا لَمْ يَدُلَّ دَلَالَةً قَاطِعَةً عَلَى أَنَّهُ زَالَ وَانْقَطَعَ، كَقَوْلِكَ: كَانَ فُلَانٌ صَدِيقِي، لَا يَدُلُّ هَذَا عَلَى أَنَّ صَدَاقَتَهُ قَدْ زَالَتْ، بَلْ يَجُوزُ بَقَاؤُهَا وَيَجُوزُ زَوَالُهَا. فَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} (النِّسَاءِ: 101) لِأَنَّ عَدَاوَتَهُمْ بَاقِيَةٌ. وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} (الْمَائِدَةِ: 117). وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَبَرَهَا كَانَ مَوْجُودًا فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي، وَأَمَّا فِي الزَّمَنِ الْحَاضِرِ فَقَدْ يَكُونُ بَاقِيًا مُسْتَمِرًّا، وَقَدْ يَكُونُ مُنْقَطِعًا، فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (الْأَحْزَابِ: 73) وَكَذَا سَائِرُ صِفَاتِهِ لِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ. قَالَ السِّيرَافِيُّ: قَدْ يَرْجِعُ الِانْقِطَاعُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَغْفُورِ لَهُمْ وَالْمَرْحُومِينَ، بِمَعْنَى أَنَّهُمُ انْقَرَضُوا فَلَمْ يَبْقَ مَنْ يُغْفَرُ لَهُ، وَلَا مَنْ يُرْحَمُ، فَتَنْقَطِعَ الْمَغْفِرَةُ وَالرَّحْمَةُ. وَكَذَا {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} (النِّسَاءِ: 170)، وَمَعْنَاهُ الِانْقِطَاعُ فِيمَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعِلْمُ وَالْحِكْمَةُ، لَا نَفْسَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ. وَفِيهِ نَظَرٌ. وَقَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ " كَانَ " تَدُلُّ عَلَى تَقْدِيمِ الْوَصْفِ وَقِدَمِهِ، وَمَا ثَبَتَ قِدَمُهُ اسْتَحَالَ عَدَمُهُ، وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ. وَقَالَ مَنْصُورُ بْنُ فَلَاحٍ الْيَمَنِيُّ فِي كِتَابِ الْكَافِي: قَدْ تَدُلُّ عَلَى الدَّوَامِ بِحَسَبِ الْقَرَائِنِ كَقَوْلِهِ: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (الْأَحْزَابِ: 73) {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} (النِّسَاءِ: 134). {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (النِّسَاءِ: 103) دَلَّتْ عَلَى الدَّوَامِ الْمُتَّصِفِ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ وَدَوَامِ التَّعَبُّدِ بِالصِّفَاتِ، وَقَدْ تَدُلُّ عَلَى الِانْقِطَاعِ، نَحْوَ: كَانَ هَذَا الْفَقِيرُ غَنِيًّا، وَكَانَ لِي مَالٌ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: " كَانَ " فِي الْقُرْآنِ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: 1- بِمَعْنَى الْأَزَلِ، وَالْأَبَدِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} (النِّسَاءِ: 170). 2- وَبِمَعْنَى الْمُضِيِّ الْمُنْقَطِعِ كَقَوْلِهِ: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ} (النَّمْلِ: 48) وَهُوَ الْأَصْلُ فِي مَعَانِي " كَانَ "، كَمَا تَقُولُ: كَانَ زَيْدٌ صَالِحًا أَوْ فَقِيرًا أَوْ مَرِيضًا أَوْ نَحْوَهُ. 3- وَبِمَعْنَى الْحَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} (آلِ عِمْرَانَ: 110) وَقَوْلِهِ: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (النِّسَاءِ: 103). 4- وَبِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} (الْإِنْسَانِ: 7). 5- وَبِمَعْنَى صَارَ كَقَوْلِهِ: {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} (الْبَقَرَةِ: 34)
كَانَ فِعْلٌ مَاضٍ، وَإِذَا وَقَعَتْ بَعْدَ إِنْ فِي الْقُرْآنِ كَانَتْ فِي الْمَعْنَى لِلِاسْتِقْبَالِ، وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: تَبْقَى عَلَى الْمُضِيِّ لِتَجَرُّدِهَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى الزَّمَانِ فَلَا يُغَيِّرُهَا أَدَاةُ الشَّرْطِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} (الْمَائِدَةِ: 116) {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ} (يُوسُفَ: 26). وَهَذَا ضَعِيفٌ لِبِنَائِهِ عَلَى أَنَّهَا لِلزَّمَانِ وَحْدَهُ، وَالْحَقُّ خِلَافُهُ، بَلْ تَدُلُّ عَلَى الْحَدَثِ وَالزَّمَانِ كَغَيْرِهَا مِنَ الْأَفْعَالِ. وَقَدِ اسْتُعْمِلَتْ مَعَ " إِنْ " لِلِاسْتِقْبَالِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (الْبَقَرَةِ: 31) وَأَمَّا {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ} (الْمَائِدَةِ: 116) فَتَأَوَّلَهُ ابْنُ السَّرَّاجِ عَلَى تَقْدِيرِ: " إِنْ أَكُنْ قُلْتُهُ " وَكَذَا {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ} إِنْ يَكُنْ قَمِيصُهُ.
إِذَا نُفِيَتْ كَانَ وَأَخَوَاتُهَا، فِي الْقُرْآنِ فَهِيَ كَغَيْرِهَا مِنَ الْأَفْعَالِ، وَزَعَمَ ابْنُ الطَّرَاوَةِ أَنَّهَا إِذَا نُفِيَتْ كَانَ اسْمُهَا مُثْبَتًا، وَالْخَبَرُ مَنْفِيًّا، قَالَ: لِأَنَّ النَّفْيَ إِنَّمَا يَتَسَلَّطُ عَلَى الْخَبَرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا} (الْجَاثِيَةِ: 25) فَالْقَوْلُ مُثَبَتٌ، وَالْحُجَّةُ هِيَ الْمَنْفِيَّةُ، وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ غَيْرُ لَازِمٍ، إِذْ قَدْ قُرِئَ (مَا كَانَ حُجَّتُهُمْ) بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ " كَانَ "، وَلَكِنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى أَنَّ " كَانَ " مُلْغَاةٌ، أَيْ زَائِدَةٌ، تَقْدِيرُهُ: " مَا حُجَّتُهُمْ إِلَّا ". وَهَذَا إِنْ سَاغَ لَهُ هَهُنَا فَلَا يَسُوغُ لَهُ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا} (الْأَنْعَامِ: 63) فَإِنَّهُ قُرِئَ بِالرَّفْعِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ هُنَا مُلْغَاةً.
وَمِنْ ذَلِكَ جَعَلَ مَعَانِيهَا فِي الْقُرْآنِ وَهِيَ أَحَدُ الْأَفْعَالِ الْمُشْتَرَكَةِ الَّتِي هِيَ أُمَّهَاتُ الْأَحْدَاثِ، وَهِيَ: " فَعَلَ "، وَ " عَمِلَ "، وَ " جَعَلَ "، وَ " طَفِقَ "، وَ " أَنْشَأَ "، وَ " أَقْبَلَ "، وَأَعَمُّهَا (فَعَلَ) يَقَعُ عَلَى الْقَوْلِ وَالْهَمِّ، وَغَيْرِهِمَا: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (النَّحْلِ: 50). وَدُونَهُ " عَمِلَ " لَا يَنْتَظِمُ النِّيَّةَ، وَالْهَمَّ، وَالْعَزْمَ وَالْقَوْلَ: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ} (الْفُرْقَانِ: 23) أَيْ مِنْ صَلَاةٍ وَصَدَقَةٍ وَجِهَادٍ. وَلِـ " جَعَلَ " أَحْوَالٌ: أَحَدُهَا: بِمَعْنَى سَمَّى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} (الْحِجْرِ: 91) أَيْ سَمَّوْهُ كَذِبًا، وَقَوْلِهِ: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} (الزُّخْرُفِ: 19) عَلَى قَوْلٍ. وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى} (النَّجْمِ: 27). الثَّانِي: بِمَعْنَى الْمُقَارَبَةِ، مِثْلُ " كَادَ " وَ " طَفِقَ "، لَكِنَّهَا تُفِيدُ مُلَابَسَةَ الْفِعْلِ، وَالشُّرُوعَ فِيهِ، تَقُولُ: جَعَلَ يَقُولُ، وَجَعَلَ يَفْعَلُ كَذَا، إِذَا شَرَعَ فِيهِ. الثَّالِثُ: بِمَعْنَى الْخَلْقِ، وَالِاخْتِرَاعِ، فَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} (الْأَنْعَامِ: 1) أَيْ خَلَقَهُمَا. فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْجَعْلِ وَالْخَلْقِ؟ فِي الْقُرْآنِ قِيلَ: إِنَّ الْخَلْقَ فِيهِ مَعْنَى التَّقْدِيرِ، وَفِي الْجَعْلِ مَعْنَى التَّصْيِيرِ، كَإِنْشَاءِ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ، أَوْ تَصْيِيرِ شَيْءٍ شَيْئًا، أَوْ نَقْلِهِ مِنْ مَكَانٍ، وَيَتَعَدَّى لِمَفْعُولٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ إِلَّا بِوَاحِدٍ وَهُوَ الْمَخْلُوقُ. وَأَيْضًا فَالْخَلْقُ يَكُونُ عَنْ عَدَمٍ سَابِقٍ، حَيْثُ لَا يَتَقَدَّمُ مَادَّةٌ وَلَا سَبَبٌ مَحْسُوسٌ، وَالْجَعْلُ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَوْجُودٍ مُغَايِرٍ لِلْمَجْعُولِ، يَكُونُ مِنْهُ الْمَجْعُولُ أَوْ عَنْهُ، كَالْمَادَّةِ وَالسَّبَبِ، وَلَا يَرِدُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ لَفْظُ " جَعَلَ " فِي الْأَكْثَرِ مُرَادًا بِهِ الْخَلْقُ، إِلَّا حَيْثُ يَكُونُ قَبْلَهُ مَا يَكُونُ عَنْهُ أَوْ مِنْهُ، أَوْ شَيْئًا فِيهِ مَحْسُوسًا عَنْهُ، فَيُكَوِّنُ ذَلِكَ الْمَخْلُوقَ الثَّانِيَ، بِخِلَافِ " خَلَقَ "، فَإِنَّ الْعِبَارَةَ تَقَعُ كَثِيرًا بِهِ عَمَّا لَمْ يَتَقَدَّمْ وُجُودَهُ وُجُودٌ مُغَايِرٌ، يَكُونُ عَنْهُ هَذَا الثَّانِي، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} (الْأَنْعَامِ: 1) وَإِنَّمَا الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ عَنْ أَجْرَامٍ تُوجَدُ بِوُجُودِهَا، وَتُعْدَمُ بِعَدَمِهَا. وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ} (الرَّعْدِ: 3). وَقَالَ: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} (الزُّخْرُفِ: 12). وَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (الْأَعْرَافِ: 189). وَفِي سُورَةِ النِّسَاءِ: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (النِّسَاءِ: 1) فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا قَدْ يُسْتَعْمَلَانِ اسْتِعْمَالَ الْمُتَرَادِفَيْنِ. الرَّابِعُ: بِمَعْنَى النَّقْلِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَالتَّصْيِيرِ، فَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ إِمَّا حِسًّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} (الْبَقَرَةِ: 22) {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا} (نُوحٍ: 19) {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا} (الْأَنْبِيَاءِ: 58) {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً} (الْقَصَصِ: 41) {وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} (الْإِسْرَاءِ: 6). وَإِمَّا عَقْلًا، مِثْلَ {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} (ص: 5) {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا} (فَاطِرٍ: 1). وَنَحْوَ قَوْلِهِ: {اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} (إِبْرَاهِيمَ: 35) وَقَوْلِهِ: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} (النَّبَأِ: 10) لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِشَيْئَيْنِ: الْمَنْقُولِ، وَهُوَ اللَّيْلُ، وَالْمَنْقُولِ إِلَيْهِ، وَهُوَ اللِّبَاسُ. وَأَبْيَنُ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} (الْكَهْفِ: 8) {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} (هُودٍ: 82) {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} (النَّبَأِ: 9). وَالْمَعَاشُ فِي قَوْلِهِ: {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} (النَّبَأِ: 11) اسْمُ زَمَانٍ لِكَوْنِ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا لِمَعْنَى الْمَعِيشِ {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} (الْمُؤْمِنُونَ: 50) وَمَعْنَاهُ صَيَّرْنَاهُ، لِأَنَّ مَرْيَمَ إِنَّمَا صَارَتْ مَعَ وَلَدِهَا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا خُلِقَ مِنْ جَسَدِهَا لَا مِنْ أَبٍ، فَصَارَا عِنْدَ ذَلِكَ آيَةً لِلْعَالَمِينَ، وَمُحَالٌ أَنَّهُ يُرِيدُ " خَلَقْنَاهُمَا "، لِأَنَّ مَرْيَمَ لَمْ تُخْلَقْ فِي حِينِ خَلْقِ وَلَدِهَا، بَلْ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَهُ، وَمُحَالٌ تَعَلُّقُ الْقُدْرَةِ بِجَعْلِ الْمَوْجُودِ مَوْجُودًا فِي حَالِ بَقَائِهِ. فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} (الزُّخْرُفِ: 3) فَهُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ عَلَى جِهَةِ الِاتِّسَاعِ، أَيْ: صَيَّرْنَاهُ يُقْرَأُ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ لِأَنَّ غَيْرَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ عِبْرِيٌّ وَسُرْيَانِيٌّ، وَلِأَنَّ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ فِي الْكُتُبِ السَّالِفَةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} (الشُّعَرَاءِ: 196) {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى} (الْأَعْلَى: 18). وَبِهَذَا احْتَجَّ مَنْ أَجَازَ الْقِرَاءَةَ بِالْفَارِسِيَّةِ، لِلْقُرْآنِ قَالَ: لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا الْمَعْنَى، وَالْفَارِسِيَّةُ تُؤَدِّي الْمَعْنَى، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَكَأَنَّهُ نَقَلَ الْمَعْنَى مِنْ لَفْظِ الْقُرْآنِ فَصَيَّرَهُ عَرَبِيًّا. وَأَخْطَأَ الزَّمَخْشَرِيُّ حَيْثُ جَعَلَهُ بِالْخَلْقِ، وَهُوَ مَرْدُودٌ صِنَاعَةً، وَمَعْنًى، أَمَّا الصِّنَاعَةُ فَلِأَنَّهُ يَتَعَدَّى لِمَفْعُولَيْنِ، وَلَوْ كَانَ بِمَعْنَى الْخَلْقِ لَمْ يَتَعَدَّ إِلَّا إِلَى وَاحِدٍ، وَتَعْدِيَتُهُ لِمَفْعُولَيْنِ، وَإِنِ احْتَمَلَ هَذَا الْمَعْنَى- لَكِنْ بِجَوَازِ إِرَادَةِ التَّسْمِيَةِ أَوِ التَّصْيِيرِ عَلَى مَا سَبَقَ. وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلَوْ كَانَ بِمَعْنَى " خَلَقْنَا التِّلَاوَةَ الْعَرَبِيَّةَ "، فَبَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْخِلَافُ فِي حُدُوثِ مَا يَقُومُ بِأَلْسِنَتِنَا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ الَّذِي هُوَ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ وَخَبَرُهُ، فَعِنْدَنَا أَنَّهُ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ، وَهُوَ قَدِيمٌ. وَقَالَتِ الْقَدَرِيَّةُ: إِنَّهُ صِفَةُ فِعْلٍ أَوْجَدَهُ بَعْدَ عَدَمِهِ، وَأَحْدَثَهُ لِنَفْسِهِ فَصَارَ عِنْدَ حُدُوثِهِ مُتَكَلِّمًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، فَظَهَرَ أَنَّ الْآيَةَ عَلَى تَأْوِيلِهِ لَيْسَ فِيهَا تَأْوِيلٌ لِعَقِيدَتِهِ الْبَاطِلَةِ. وَقَالَ الْآمِدِيُّ فِي " أَبْكَارِ الْأَفْكَارِ ": الْجَعْلُ فِيهِ بِمَعْنَى التَّسْوِيَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} (الْحِجْرِ: 91) أَيْ يُسَمُّونَهُ كَذِبًا. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْجَعْلَ عَلَى بَابِهِ، وَالْمُرَادُ الْقُرْآنُ بِمَعْنَى الْقِرَاءَةِ دُونَ مَدْلُولِهَا، فَإِنَّ الْقُرْآنَ قَدْ يُطْلَقُ بِمَعْنَى الْقِرَاءَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ إِذْنَهُ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى فِي الْقُرْآنِ أَيْ بِالْقِرَاءَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَاعِدَةُ الْعَرَبِ فِي الْجَعْلِ أَنْ يَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ، وَتَارَةً يَتَعَدَّى لِاثْنَيْنِ، فِي الْقُرْآنِ فَإِنْ تَعَدَّى لِوَاحِدٍ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِمَعْنَى الْخَلْقِ، وَأَمَّا إِذَا تَعَدَّى لِاثْنَيْنِ فَيَجِيءُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} (الْإِسْرَاءِ: 12)، وَبِمَعْنَى التَّسْمِيَةِ {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} (الزُّخْرُفِ: 19) {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} (الْحِجْرِ: 91). وَيَجِيءُ بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} (الْمُؤْمِنُونَ: 50) أَيْ صَيَّرْنَاهُمَا. إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْجَعْلَ الْمُتَعَدِّيَ لِاثْنَيْنِ لَيْسَ نَصًّا فِي الْخَلْقِ، بَلْ يَحْتَمِلُ الْخَلْقَ وَغَيْرَهُ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ تَعَلُّقٌ لِلْقَدَرِيَّةِ عَلَى خَلْقِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّ الدَّلِيلَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَطْعِيًّا لَا احْتِمَالَ فِيهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْخَلْقِ عَلَى مَعْنَى جَعَلْنَا التِّلَاوَةَ عَرَبِيَّةً. قُلْتُ: وَهَذَا يَمْنَعُ إِطْلَاقَهُ، وَإِنْ جَوَّزْنَا حُدُوثَ الْأَلْفَاظِ لِأَنَّهَا لَمْ تَأْتِ عَنِ السَّلَفِ، بَلْ نَقُولُ الْقُرْآنُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ. (الْخَامِسُ) بِمَعْنَى الِاعْتِقَادِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} (الْأَنْعَامِ: 100) {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} (النَّحْلِ: 62). وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} (الزُّخْرُفِ: 19) أَيِ اعْتَقَدُوهُمْ إِنَاثًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَمَا قَبْلَهُ، وَوَجْهُ النَّقْلِ فِيهِ هُوَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَيْسُوا إِنَاثًا، فَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ نَقَلُوهُمْ بِاعْتِقَادِهِمْ فَصَيَّرُوهُمْ فِي الْوُجُودِ الذِّهْنِيِّ إِنَاثًا. وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا بِمَعْنَى التَّسْمِيَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (الْبَقَرَةِ: 22) أَيْ لَا تُسَمُّوهَا أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَيْ لَا تُسَمُّوهَا أَنْدَادًا وَلَا تَعْتَقِدُوهَا لِأَنَّهُمْ مَا سَمَّوْهَا حَتَّى اعْتَقَدُوهَا. وَكَذَلِكَ {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} (الْحِجْرِ: 91) أَيْ سَمَّوْهُ، وَجَزَّءُوهُ أَجْزَاءً، فَجَعَلُوا بَعْضَهُ شِعْرًا، وَبَعْضَهُ سِحْرًا، وَبَعْضَهُ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ فِي: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ} (الزُّخْرُفِ: 19) إِنَّهَا بِمَعْنَى الْقَوْلِ، وَالْحُكْمِ عَلَى الشَّيْءِ، وَقَوْلُهُ: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ} (التَّوْبَةِ: 19) أَيِ اعْتَقَدْتُمْ هَذَا مِثْلَ هَذَا. فَأَمَّا قَوْلُهُ: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ} (ص: 28) فَالنَّقْلُ وَالتَّصْيِيرُ رَاجِعَانِ إِلَى الْحَالِ، أَيْ لَا تَجْعَلْ حَالَ هَؤُلَاءِ مِثْلَ حَالِ هَؤُلَاءِ، وَلَا تَنْقِلْهَا إِلَيْهَا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ} (الرَّعْدِ: 16) أَيِ اعْتَقَدُوا لَهُ شُرَكَاءَ. السَّادِسُ: بِمَعْنَى الْحُكْمِ بِالشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ يَكُونُ فِي الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، فَالْحَقُّ كَقَوْلِهِ: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (الْقَصَصِ: 7). وَالْبَاطِلُ كَقَوْلِهِ: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ} (الْأَنْعَامِ: 136) الْآيَةَ. وَبِمَعْنَى أَوْجَبَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} (الْبَقَرَةِ: 143) أَيْ أَوْجَبْنَا الِاسْتِقْبَالَ إِلَيْهَا. وَكَقَوْلِهِ: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ} (الْمَائِدَةِ: 103) {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} (الْبَقَرَةِ: 143) وَمَعْنَى كُنْتُ عَلَيْهَا أَيْ: أَنْتَ عَلَيْهَا، كَقَوْلِهِ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (آلِ عِمْرَانَ: 110) أَيْ أَنْتُمْ. السَّابِعُ: ذَكَرَهُ الْفَارِسِيُّ بِمَعْنَى أَلْقَى، فَيَتَعَدَّى لِمَفْعُولَيْنِ، أَحَدُهُمَا بِنَفْسِهِ، وَالْآخَرُ بِحَرْفِ الْجَرِّ، كَمَا فِي قَوْلِكِ: جَعَلْتَ مَتَاعَكَ بَعْضَهُ فَوْقَ بَعْضٍ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ} (الرَّعْدِ: 3). وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ} (الْأَنْفَالِ: 37) أَيْ يُلْقِي، وَ " بَعْضَهَ " بَدَلٌ مِنَ الْخَبِيثِ. وَقَوْلُهُ: " عَلَى بَعْضٍ " أَيْ فَوْقَ بَعْضٍ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ} (الرَّعْدِ: 3) أَيْ أَلْقَى بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى الَّتِي عَلَّلَ فِيهَا الْمُرَادَ بِخَلْقِ الْجِبَالِ، وَأَبَانَ إِنْعَامَهُ، فَقَالَ: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} (النَّحْلِ: 15) (فَائِدَةٌ) قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} (الْإِسْرَاءِ: 12) قِيلَ: كَيْفَ يُسْتَعْمَلُ لَفْظُ الْجَعْلِ هُنَا مَعَ أَنَّ الْمَجْعُولَ عَنْهُ يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَقَّقَ قَبْلَ الْجَعْلِ مَعَ صِفَةِ الْمَجْعُولِ، كَقَوْلِكَ: جَعَلْتُ زَيْدًا قَائِمًا، فَهُوَ قَبْلَ ذَلِكَ كَانَ مُتَّصِفًا بِضِدِّ الْقِيَامِ، وَهُنَا لَمْ يُوجَدِ الْجَعْلُ إِلَّا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ اسْتِعْمَالُ الْجَعْلِ فِيهِ؟ (وَالْجَوَابُ) أَنَّ اللَّيْلَ جَوْهَرٌ قَامَ بِهِ السَّوَادُ، وَالنَّهَارُ جَوْهَرٌ قَامَ بِهِ النُّورُ، وَكَذَلِكَ الشَّمْسُ جِسْمٌ قَامَ بِهِ ضَوْءٌ، وَالْأَجْسَامُ وَالْجَوَاهِرُ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى الْأَعْرَاضِ بِالذَّاتِ، وَالْعَرَبُ تُرَاعِي مِثْلَ هَذَا، نَقَلَ الْفَرَّاءُ أَنَّهُمْ قَالُوا: أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ فَكَسَوْتُكَ، فَجَعَلُوا الْإِحْسَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْكِسْوَةِ، بِدَلِيلِ الْعَطْفِ بِالْفَاءِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا تَقَدُّمٌ ذَاتِيٌّ، لِأَنَّ الْإِحْسَانَ فِي الْخَارِجِ هُوَ نَفْسُ الْكِسْوَةِ. وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِحْسَانَ نَفْسُ الْكِسْوَةِ، بَلْ مَعْنًى يَقُومُ بِالنَّفْسِ تَنْشَأُ عَنْهُ الْكِسْوَةُ.
حَسِبَ يَتَعَدَّى لِمَفْعُولَيْنِ فِي الْقُرْآنِ إِذَا جَاءَ بَعْدَهَا أَنْ وَالْفِعْلُ يَتَعَدَّى لِمَفْعُولَيْنِ وَحَيْثُ جَاءَ بَعْدَهَا أَنْ وَالْفِعْلُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} (آلِ عِمْرَانَ: 142) {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا} (التَّوْبَةِ: 16) وَنَظَائِرُهُ، فَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّهَا سَادَّةٌ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ، وَمَذْهَبُ الْمُبَرِّدِ أَنَّهَا سَادَّةٌ مَسَدَّ الْمَفْعُولِ الْوَاحِدِ، وَالثَّانِي عِنْدَهُ مُقَدَّرٌ. وَيَشْهَدُ لِسِيبَوَيْهِ أَنَّ الْعَرَبَ لَمْ يُسْمَعْ مِنْ كَلَامِهِمْ نُطْقٌ بِمَا ادَّعَاهُ مِنَ التَّصْرِيحِ بِهِ، وَلَوْ كَانَ كَمَا ذَكَرَهُ لَنَطَقُوا بِهِ وَلَوْ مَرَّةً.
لِلنَّحْوِيِّينَ فِيهَا أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ فِي الْقُرْآنِ. وَلِلنَّحْوِيِّينَ فِيهَا أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ: - (أَحَدُهَا): أَنَّ إِثْبَاتَهَا إِثْبَاتٌ وَنَفْيَهَا نَفْيٌ كَغَيْرِهَا مِنَ الْأَفْعَالِ. - (وَالثَّانِي) أَنَّهَا تُفِيدُ الدَّلَالَةَ عَلَى وُقُوعِ الْفِعْلِ بِعُسْرٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ جِنِّي. - (وَالثَّالِثُ) أَنَّ إِثْبَاتَهَا نَفْيٌ وَنَفْيَهَا إِثْبَاتٌ، فَإِذَا قِيلَ: كَادَ يَفْعَلُ، فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} (الْإِسْرَاءِ: 73)، وَإِذَا قِيلَ لَمْ يَكَدْ يَفْعَلُ، فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ فَعَلَهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} (الْبَقَرَةِ: 71). - (وَالرَّابِعُ) التَّفْصِيلُ فِي النَّفْيِ بَيْنَ الْمُضَارِعِ وَالْمَاضِي، فَنَفْيُ الْمُضَارِعِ نَفْيٌ، وَنَفْيُ الْمَاضِي إِثْبَاتٌ بِدَلِيلٍ: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} (الْبَقَرَةِ: 71) وَقَوْلُهُ: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} (النُّورِ: 40) مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَرَ شَيْئًا، وَهَذَا حَكَاهُ ابْنُ أَبِي الرَّبِيعِ فِي شَرْحِ الْجُمَلِ، وَقَالَ: إِنَّهُ الصَّحِيحُ. وَالْمُخْتَارُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَاهَا الْمُقَارَبَةُ، فَمَعْنَى كَادَ يَفْعَلُ: قَارَبَ الْفِعْلَ، وَمَعْنَى مَا كَادَ يَفْعَلُ: لَمْ يُقَارِبْهُ. فَخَبَرُهَا مَنْفِيٌّ دَائِمًا. أَمَّا إِذَا كَانَتْ مَنْفِيَّةً فَوَاضِحٌ لِأَنَّهُ إِذَا انْتَفَتْ مُقَارَبَةُ الْفِعْلِ اقْتَضَى عَقْلًا عَدَمَ حُصُولِهِ، وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} (النُّورِ: 40) وَلِهَذَا كَانَ أَبْلَغَ مِنْ قَوْلِهِ: لَمْ يَرَهَا، لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَرَ قَدْ يُقَارِبُ الرُّؤْيَةَ. وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْمُقَارَبَةُ مَنْفِيَّةً فَلِأَنَّ الْإِخْبَارَ بِقُرْبِ الشَّيْءِ يَقْتَضِي عُرْفًا عَدَمَ حُصُولِهِ، وَإِلَّا لَمْ يَتَّجِهِ الْإِخْبَارُ بِقُرْبِهِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} (الْبَقَرَةِ: 71) فَإِنَّهَا مَنْفِيَّةٌ مَعَ إِثْبَاتِ الْفِعْلِ لَهُمْ فِي قَوْلِهِ: فَذَبَحُوهَا وَوَجْهُهُ أَيْضًا إِخْبَارٌ عَنْ حَالِهِمْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَوَّلًا بُعَدَاءَ مِنْ ذَبْحِهَا، بِدَلِيلِ مَا ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَنْ تَعَنُّتِهِمْ، وَحُصُولُ الْفِعْلِ إِنَّمَا فَهِمْنَاهُ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: " فَذَبَحُوهَا ". وَالْأَقْرَبُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ النَّفْيَ وَارِدٌ عَلَى الْإِثْبَاتِ، وَإِثْبَاتُ هَذَا إِنَّمَا هُوَ قَارَبَ الْفِعْلَ بِنَفْسِهِ لَمْ يُقَارِبْ، وَإِذَا لَمْ يُقَارِبْ فَهُوَ لَمْ يَفْعَلْهُ بَعْدُ، وَالْمَعْنَى هُنَا: " وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ الذَّبْحَ قَبْلَ ذَلِكَ " لِأَنَّهُمْ قَالُوا: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} (الْبَقَرَةِ: 67) وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ التَّشْدِيدِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} (الْإِسْرَاءِ: 74) فَالْمَعْنَى عَلَى النَّفْيِ، وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَرْكَنْ إِلَيْهِمْ لَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، مِنْ جِهَةِ أَنَّ لَوْلَا الِامْتَنَاعِيَّةَ تَقْتَضِي ذَلِكَ، وَأَنَّهُ امْتَنَعَ مُقَارَبَةُ الرُّكُونِ الْقَلِيلِ لِأَجْلِ وُجُودِ التَّثْبِيتِ لِيَنْتَفِيَ الْكَثِيرُ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى. وَتَأَمَّلْ كَيْفَ جَاءَ " كَادَ " الْمُقْتَضِيَةُ الْمُقَارَبَةَ لِلْفِعْلِ، وَنَقْلَ الظَّاهِرَةِ فِي التَّقْلِيلِ، كُلُّ ذَلِكَ تَعْظِيمًا لِشَأْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ الزَّكِيَّةُ مِنْ كَوْنِهِ لَا يَكَادُ يَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا لِلتَّثْبِيتِ مَعَ مَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ. هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمَ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ خِلَافًا لِمَا وَقَعَ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ مِنِ ابْنِ عَطِيَّةَ وَغَيْرِهِ، فَهُمْ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى اللَّطِيفِ بِمَعْزِلٍ. وَحَكَى الشَّرِيفُ الرَّضِيُّ فِي كِتَابِ الْغُرَرِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} (النُّورِ: 40). الْأَوَّلُ: أَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى الرُّؤْيَةِ بِعُسْرٍ، أَيْ رَأَهَا بَعْدَ عُسْرٍ وَبُطْءٍ لِتَكَاثُفِ الظُّلَمِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا زَائِدَةٌ وَالْكَلَامُ عَلَى النَّفْيِ الْمَحْضِ، وَنَقَلَهُ عَنْ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، أَيْ لَمْ يَرَهَا أَصْلًا، لِأَنَّ هَذِهِ الظُّلُمَاتِ تَحُولُ بَيْنَ الْعَيْنِ وَبَيْنَ النَّظَرِ إِلَى الْبَدَنِ وَسَائِرِ الْمَنَاظِرِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا بِمَعْنَى أَرَادَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كِدْنَا لِيُوسُفَ} (يُوسُفَ: 76) أَيْ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَرَاهَا. وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ التَّقْدِيرَ: إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ مُمْتَحِنًا لِبَصَرِهِ لَمْ يَكَدْ يُخْرِجْهَا، وَ " يَرَاهَا " صِفَةٌ لِلظُّلُمَاتِ، تَقْدِيرُهُ: ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ يَرَاهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى} (طه: 15) فَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَعْنَى: أُرِيدُ أُخْفِيهَا لِكَيْ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِسَعْيِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً أَيْ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى. (وَقِيلَ): تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: {آتِيَةٌ أَكَادُ} وَالْمَعْنَى: أَكَادُ آتِي بِهَا، ثُمَّ ابْتَدَأَ بِقَوْلِهِ: {أُخْفِيهَا لِتُجْزَى}. وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ (أَكَادُ أَخْفِيهَا) بِفَتْحِ الْأَلِفِ أَيْ أُظْهِرُهَا، يُقَالُ: أَخْفَيْتُ الشَّيْءَ إِذَا سَتَرْتُهُ وَإِذَا أَظْهَرْتُهُ. وَقِرَاءَةُ الضَّمِّ تَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ، وَقِرَاءَةُ الْفَتْحِ لَا تَحْتَمِلُ غَيْرَ الْإِظْهَارِ، وَمَعْنَى سَتَرْتُهَا لِأَجْلِ الْجَزَاءِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا أَخْفَى وَقْتَهَا قَوِيَتِ الدَّوَاعِي عَلَى التَّأَهُّبِ لَهَا خَوْفَ الْمَجِيءِ بَغْتَةً. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ} (النُّورِ: 35) فَلَمْ يُثْبِتْ لِلزَّيْتِ الضَّوْءَ، وَإِنَّمَا أَثْبَتَ لَهُ الْمُقَارَبَةَ مِنَ الضَّوْءِ قَبْلَ أَنْ تَمَسَّهُ النَّارُ، ثُمَّ أَثْبَتَ النُّورَ بِقَوْلِهِ: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} (النُّورِ: 35) فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ النُّورَ دُونَ الضَّوْءِ لَا نَفْسُهُ. فَإِنْ قُلْتَ: ظَاهِرُهُ أَنَّ الْمُرَادَ: يَكَادُ يُضِيءُ، مَسَّتْهُ النَّارُ أَوْ لَمْ تَمَسَّهُ، فَيُعْطِي ذَلِكَ أَنَّهُ مَعَ أَنَّ مِسَاسَ النَّارِ لَا يُضِيءُ، وَلَكِنْ يُقَارِبُ الْإِضَاءَةَ، لَكِنَّ الْوَاقِعَ أَنَّهُ عِنْدَ الْمِسَاسِ يُضِيءُ قَطْعًا، أُجِيبُ بِأَنَّ الْوَاوَ لَيْسَتْ عَاطِفَةً، وَإِنَّمَا هِيَ لِلْحَالِ، أَيْ يَكَادُ يُضِيءُ، وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ تَمَسَّهُ نَارٌ، فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهَا لَوْ مَسَّتْهُ لَأَضَاءَ قَطْعًا
فِي مَجِيءِ كَادَ بِمَعْنَى أَرَادَ فِي الْقُرْآنِ. وَمِنْهُ: كَذَلِكَ {كِدْنَا لِيُوسُفَ} (يُوسُفَ: 76) {أَكَادُ أُخْفِيهَا} (طه: 15) وَعَكْسُهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} (الْكَهْفِ: 77) أَيْ يَكَادُ
فِعْلُ الْمُطَاوَعَةِ هُوَ الْوَاقِعُ مُسَبَّبًا عَنْ سَبَبٍ اقْتَضَاهُ، نَحْوَ: كَسَرْتُهُ فَانْكَسَرَ، قَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِي شَرْحِ الْخُلَاصَةِ: هُوَ الدَّالُّ عَلَى قَبُولِ مَفْعُولٍ لِأَثَرِ الْفَاعِلِ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْفِعْلَ الْمُطَاوِعَ بِكَسْرِ الْوَاوِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَفْعُولَ لِقَوْلِكِ: كَسَرْتُ الشَّيْءَ، يَدُلُّ عَلَى مَفْعُولِ مُعَالَجَتِكِ فِي إِيْصَالِ الْفِعْلِ إِلَى الْمَفْعُولِ، فَإِذَا قُلْتَ: فَانْكَسَرَ، عُلِمَ أَنَّهُ قَبِلَ الْفِعْلَ، وَإِذَا قُلْتَ: لَمْ يَنْكَسِرْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَقْبَلْهُ، وَأَمَّا الْمُطَاوَعُ بِفَتْحِ الْوَاوِ، فَيَدُلُّ عَلَى مُعَالَجَةِ الْفَاعِلِ فِي إِيصَالِ فِعْلِهِ إِلَى الْمَفْعُولِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَفْعُولَ قَبِلَ الْفِعْلَ أَوْ لَمْ يَقْبَلْهُ. وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْمُطَاوِعَ وَالْمُطَاوَعَ، لَا بُدَّ وَأَنْ يَشْتَرِكَا فِي أَصْلِ الْمَعْنَى، وَأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا إِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ التَّأَثُّرِ وَالتَّأْثِيرِ، كَالْكَسْرِ وَالِانْكِسَارِ، إِذْ لَا مَعْنَى لِلْمُطَاوَعَةِ إِلَّا حُصُولُ فِعْلٍ عَنْ فِعْلٍ، فَالثَّانِي مُطَاوِعٌ، لِأَنَّهُ طَاوَعَ الْأَوَّلَ، وَالْأَوَّلُ مُطَاوَعٌ، لِأَنَّهُ طَاوَعَهُ الثَّانِي، فَيَكُونُ الْمُطَاوَعُ لَازِمًا لِلْمُطَاوِعِ، وَمُرَتَّبًا عَلَيْهِ. وَقَدِ اسْتَشْكَلَ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} (فُصِّلَتْ: 17) فَأَثْبَتَ الْهُدَى بِدُونِ الِاهْتِدَاءِ. وَقَوْلُهُ: أَمَرْتُهُ فَلَمْ يَأْتَمِرْ. فَأَثْبَتَ الْأَمْرَ بِدُونِ الِائْتِمَارِ، وَأَيْضًا فَاشْتِرَاطُ الْمُوَافَقَةِ فِي أَصْلِ الْمَعْنَى مَنْقُوضٌ بِقَوْلِهِ: أَمَرْتُهُ فَأْتَمَرَ، أَيِ امْتَثَلَ، فَإِنَّ الِامْتِثَالَ خِلَافُ الطَّلَبِ. وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِـ {هَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى} الْهَدْيَ الْحَقِيقِيَّ، بَلْ أَوْصَلْنَا إِلَيْهِمْ أَسْبَابَ الْهِدَايَةِ مِنْ بَعْثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا يَلْزَمُ وُجُودُ الِاهْتِدَاءِ، وَأَمَّا الْأَمْرُ فَيَقْتَضِيهِ لُغَةً أَلَّا يَثْبُتَ إِلَّا بِالِامْتِثَالِ وَالِائْتِمَارِ. وَقَالَ الْمُطَرِّزِيُّ فِي الْمُغْرِبِ: الِائْتِمَارُ مِنَ الْأَضْدَادِ، وَعَلَيْهِ قَوْلُ شَيْخِنَا فِي الْأَسَاسِ، يُقَالُ: أَمَرْتُهُ فَائْتَمَرَ، وَأَبَى أَنْ يَأْتَمِرَ، أَيْ أَمَرْتُهُ فَاسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ وَلَمْ يَمْتَثِلْ، وَالْمُرَادُ بِالْمُؤْتَمِرِ الْمُمْتَثِلُ، وَيُقَالُ: عَلَّمْتُهُ فَلَمْ يَتَعَلَّمْ، لِأَنَّ التَّعْلِيمَ فِعْلٌ صَالِحٌ لِأَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُصُولُ الْعِلْمِ لِإِيجَادِهِ. كَذَا قَالَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ، وَمَنَعَهُ بَعْضُهُمْ. وَقَالَ الشَّيْخُ عَلَاءُ الدِّينِ الْبَاجِيُّ: لَوْ لَمْ يَصِحَّ: عَلَّمْتُهُ فَمَا تَعَلَّمَ، لَمَا صَحَّ: عَلَّمْتُهُ فَعَلِمَ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ التَّعْلِيمُ يَقْتَضِي إِيجَادَ الْعِلْمِ، وَهُوَ عِلَّةٌ فِيهِ، فَمَعْلُولُهُ وَهُوَ التَّعَلُّمُ يُوجَدُ مَعَهُ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ مَعَ الْمَعْلُولِ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِنَا: فَتَعَلَّمَ، تَقْتَضِي تَعَقُّبَ الْعِلْمِ، وَإِنْ قُلْنَا: الْمَعْلُولُ يَتَأَخَّرُ، فَلَا فَائِدَةَ فِي (فَتَعَلَّمَ) لِأَنَّ التَّعَلُّمَ قَدْ فُهِمَ مِنْ " عَلَّمْتُهُ "، فَوَضَحَ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ عَلَّمْتُهُ فَمَا تَعَلَّمَ، لَكَانَ إِمَّا أَلَّا يَصِحَّ: عَلَّمْتُهُ فَتَعَلَّمَ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ مَعَ الْمَعْلُولِ، أَوْ لَا يَكُونُ فِي قَوْلِنَا: " فَتَعَلَّمَ " فَائِدَةٌ بِتَأَخُّرِ الْمَعْلُولِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ مَنَعُوا " كَسَرْتُهُ " فَمَا انْكَسَرَ، فَمَا وَجْهُ صِحَّةِ قَوْلِهِمْ: عَلَّمْتُهُ فَمَا تَعَلَّمَ؟ قِيلَ: فَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْعِلْمَ فِي الْقَلْبِ مِنَ اللَّهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَمْرٍ مِنَ الْمُعَلِّمِ وَمِنَ الْمُتَعَلِّمِ، وَكَانَ عِلْمُهُ مَوْضُوعًا لِلْجَزَاءِ الَّذِي مِنَ الْمُعَلِّمِ فَقَطْ، لِعَدَمِ إِمْكَانِ فِعْلٍ مِنَ الْمَخْلُوقِ يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ، وَلَا بُدَّ بِخِلَافِ الْكَسْرِ، فَإِنْ آثَرَهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِانْكِسَارِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْفِعْلِ الْمُطَاوَعَةُ أَنْ يُعْطَفَ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ، تَقُولُ: دَعَوْتُهُ فَأَجَابَ وَأَعْطَيْتُهُ فَأَخَذَ، وَلَا تَقُولُهَا بِالْوَاوِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ إِفَادَةُ السَّبَبِيَّةِ، وَهُوَ لَا يَكُونُ فِي الْغَالِبِ إِلَّا بِالْفَاءِ كَقَوْلِهِ: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي} (الْأَعْرَافِ: 178). وَيَجُوزُ عَطْفُهُ بِالْوَاوِ كَقَوْلِهِ: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} (الْكَهْفِ: 28). وَكَقَوْلِهِ: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ} (الْأَنْبِيَاءِ: 88). وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ} (الْأَنْبِيَاءِ: 76). وَزَعَمَ ابْنُ جِنِّي فِي كِتَابِ " الْخَصَائِصِ " أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِعْلُ الْمُطَاوَعَةِ إِلَّا بِالْفَاءِ. وَأَجَابَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} (الْكَهْفِ: 28) بِأَنَّ " أَغْفَلَ " فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى وَجَدْنَاهُ غَافِلًا، لَا جَعَلْنَاهُ يَغْفُلُ، وَإِلَّا لَقِيلَ: فَاتَّبَعَ هَوَاهُ بِالْفَاءِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ مُطَاوِعًا. وَفِي كَلَامِهِ نَظَرٌ، لِأَنَّا نَقُولُ: لَيْسَ اتِّبَاعُ الْهَوَى مُطَاوِعًا لِـ " أَغْفَلْنَا "، بَلِ الْمُطَاوِعُ لِـ " أَغْفَلْنَا " غَفَلَ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ مِنْ لَازِمِ الْغَفْلَةِ اتِّبَاعُ الْهَوَى، وَالْمُسَبَّبُ عَنِ السَّبَبِ سَبَبٌ. قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى مُسَبَّبٌ عَنِ الْغَفْلَةِ، بَلْ قَدْ يُغْفَلُ عَنِ الذِّكْرِ، وَلَا يُتَّبَعُ الْهَوَى، وَيَكُونُ الْمَانِعُ لَهُ مِنْهُ غَفْلَةً أُخْرَى عَنْهُ، كَمَا حَصَلَتْ لَهُ غَفْلَةٌ عَنِ الذِّكْرِ، أَوْ تَرَدٍّ بِهِ، أَوْ خَوْفُ النَّاسِ، عَلِمْنَا أَنَّهُ مُسَبَّبٌ عَنْهَا، إِلَّا أَنَّ كَلَامَنَا فِي الْمُسَبَّبِ الْمُطَاوِعِ، لَا فِي الْمُسَبَّبِ مُطْلَقًا وَتَسَبَّبَ اتِّبَاعُ الْهَوَى عَنِ الْغَفْلَةِ لَيْسَ عَنِ الْمُطَاوَعَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَامِلَ لِأَبِي الْفَتْحِ عَلَى هَذَا الْكَلَامِ اعْتِقَادُهُ الِاعْتِزَالِيُّ أَنَّ مَعْصِيَةَ الْعَبْدِ لَا تُنْسَبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهَا مُسَبَّبَةٌ لَهُ، فَلِهَذَا جَعَلَ " أَفْعَلَ " هُنَا بِمَعْنَى " وَجَدَ "، لَا بِمَعْنَى التَّعْدِيَةِ خَاصَّةً. وَقَدْ بَيَّنَّا ضَعْفَ كَلَامِهِ، وَأَنَّ الْمُطَاوِعَ لَا يَجِبْ عَطْفُهُ بِالْفَاءِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ} (النَّمْلِ: 15) هَذَا مَوْضِعُ الْفَاءِ كَمَا يُقَالُ: أَعْطَيْتُهُ فَشَكَرَ، وَمَنَعْتُهُ فَصَبَرَ، وَإِنَّمَا عُطِفَ بِالْوَاوِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ مَا قَالَاهُ بَعْضُ مَا أَحْدَثَ فِيهِمَا إِيتَاءُ الْعِلْمِ، فَأَضْمَرَ ذَلِكَ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ بِالتَّحْمِيدِ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَعَمِلَا بِهِ وَعَلَّمَاهُ، وَعَرَفَا حَقَّ النِّعْمَةِ فِيهِ وَالْفَضِيلَةِ، وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ. وَقَالَ السَّكَّاكِيُّ: يُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَمَّا صَنَعَ بِهِمَا، وَعَمَّا قَالَا، كَأَنَّهُ قَالَ: نَحْنُ فَعَلْنَا إِيتَاءَ الْعِلْمِ، وَهُمَا فَعَلَا الْحَمْدَ، مِنْ غَيْرِ بَيَانِ تَرَتُّبِهِ عَلَيْهِ اعْتِمَادًا عَلَى فَهْمِ السَّامِعِ، كَقَوْلِكَ: " قُمْ يَدْعُوكَ " بَدَلَ " قُمْ فَإِنَّهُ يَدْعُوكَ ". وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} فَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ التَّقْوَى سَبَبُ التَّعْلِيمِ، وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى مَنْعِ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَرْبُطِ الْفِعْلَ الثَّانِيَ بِالْأَوَّلِ رَبْطَ الْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ، فَلَمْ يَقُلْ: " وَاتَّقَوُا اللَّهَ وَيُعَلِّمْكُمْ ". وَلَا قَالَ: " فَيُعَلِّمْكُمُ اللَّهُ ". وَإِنَّمَا أَتَى بِوَاوِ الْعَطْفِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ الْأَوَّلَ سَبَبٌ لِلثَّانِي، وَإِنَّمَا غَايَتُهُ الِاقْتِرَانُ وَالتَّلَازُمُ، كَمَا يُقَالُ: زُرْنِي وَأَزُورُكَ، وَسَلِّمْ عَلَيْنَا وَنُسَلِّمُ عَلَيْكَ، وَنَحْوُهُ، مِمَّا يَقْتَضِي اقْتِرَانَ الْفِعْلَيْنِ وَالتَّعَارُضَ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، كَمَا لَوْ قَالَ عَبْدٌ لِسَيِّدِهِ: أَعْتِقْنِي وَلَكَ عَلَيَّ أَلْفٌ، أَوْ قَالَتِ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا: طَلِّقْنِي وَلَكَ عَلَيَّ أَلْفٌ، فَإِنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهَا بِأَلْفٍ أَوْ عَلَى أَلْفٍ. وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ مَتَّى عَلَّمَ اللَّهُ الْعِلْمَ النَّافِعَ اقْتَرَنَ بِهِ التَّقْوَى بِحَسَبِ ذَلِكَ. وَنَظِيرُ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} (هُودٍ: 123). وَقَوْلُهُ عُقَيْبَ ذِكْرِ الْغِيبَةِ {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} (الْحُجُرَاتِ: 12) وَوَجْهُ هَذَا الْخِتَامِ التَّنْبِيهُ عَلَى التَّوْبَةِ مِنَ الِاغْتِيَابِ، وَهُوَ مِنَ الظُّلْمِ. وَهَهُنَا بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّ الْأَئِمَّةَ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْعِلْمَ هَلْ يَسْتَدْعِي مُطَاوَعَةً أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: - (أَحَدُهُمَا): نَعَمْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي} (الْأَعْرَافِ: 178) فَأَخْبَرَ عَنْ كُلِّ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ بِأَنَّهُ يَهْتَدِي، وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} (فُصِّلَتْ: 17) فَلَيْسَ مِنْهُ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْهِدَايَةِ فِيهِ الدَّعْوَةُ بِدَلِيلِ: {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} (فُصِّلَتْ: 17). - (وَالثَّانِي) لَا يَدُلُّ عَلَى الْمُطَاوَعَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} (الْإِسْرَاءِ: 59) وَقَوْلِهِ: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} (الْإِسْرَاءِ: 60) لِأَنَّ التَّخْوِيفَ حَصَلَ، وَلَمْ يَحْصُلْ لِلْكُفَّارِ خَوْفٌ نَافِعٌ يَصْرِفُهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، فَإِنَّهُ الْمُطَاوِعُ لِلتَّخْوِيفِ الْمُرَادِ بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ تَكُونُ الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ فِي الزَّمَانِ، وَيَكُونُ " أَخْرَجْتُهُ فَمَا خَرَجَ " حَقِيقَةً
فَائِدَةٌ: [قَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى " إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا "] قَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} (النَّازِعَاتِ: 45) إِنَّ التَّقْدِيرَ: مُنْذِرُ إِنْذَارًا نَافِعًا مَنْ يَخْشَاهَا. قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ: وَحَاجَةٌ إِلَى هَذَا لِأَنَّ فَعَلَ وَأَفْعَلَ، إِذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ مُطَاوَعَةٌ، كَخَوْفٍ وَعِلْمٍ وَشِبْهِهِ لَا يَكُونُ حَقِيقَةً، لِأَنَّ " خَوْفٌ " إِذَا لَمْ يَحْصُلِ الْخَوْفُ، وَ " عِلْمٌ " إِذَا لَمْ يَحْصُلِ الْعِلْمُ كَانَ مَجَازًا، وَ {مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ، وَهُوَ الْخَشْيَةُ، فَيَكُونُ حَقِيقَةً لِمَنْ يَخْشَاهَا، فَإِذَنْ لَيْسَ مُنْذِرًا مَنْ لَمْ يَخْشَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ أَثَرٌ. فَعَلَى هَذَا {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} (النَّازِعَاتِ: 45) فِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ لِتَرَتُّبِ أَثَرِهِ عَلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى " مَنْ يَخْشَى " دُونَ " مَنْ لَمْ يَخْشَ ".
فَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} (الْأَعْرَافِ: 19) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَ الْفَاءِ مَجْزُومًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا، وَإِذَا كَانَ مَجْزُومًا كَانَ دَاخِلًا فِي النَّهْيِ، فَيَكُونُ قَدْ نَهَى عَنِ الظُّلْمِ، كَمَا نَهَى عَنْ قُرْبَانِ الشَّجَرَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: "لَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَلَا تَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ". وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} (الْبَقَرَةِ: 42) فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ " تَكْتُمُوا " مَجْزُومًا، فَهُوَ مُشْتَرِكٌ مَعَ الْأَوَّلِ فِي حَرْفِ النَّهْيِ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا تَلْبِسُوا وَلَا تَكْتُمُوا، أَيْ لَا تَفْعَلُوا هَذَا وَلَا هَذَا، كَمَا فِي قَوْلِكَ: لَا تَأْكُلِ السَّمَكَ وَتَشْرَبِ اللَّبَنَ، بِالْجَزْمِ. أَيْ لَا تَفْعَلْ وَاحِدًا مِنْ هَذَيْنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا، وَالتَّقْدِيرُ: لَا تَجْمَعُوا بَيْنَ هَذَيْنِ وَيَكُونُ مِثْلَ " لَا تَأْكُلِ السَّمَكَ وَتَشْرَبِ اللَّبَنَ "، وَالْمَعْنَى: لَا تَجْمَعُوا بَيْنَ هَذَيْنِ الْفِعْلَيْنِ الْقَبِيحَيْنِ، كَمَا تَقُولُ لِمَنْ لَقِيتَهُ: أَمَا كَفَاكَ أَحَدُهُمَا حَتَّى جَمَعْتَ بَيْنَهُمَا! وَلَيْسَ فِي هَذَا إِبَاحَةُ أَحَدِهِمَا وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَقَوْلُهُ: {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} (الْبَقَرَةِ: 236) أَيْ مَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ، الْمَسُّ أَوِ الْغَرَضُ الْمُسْتَلْزِمُ، لِعَدَمِ كُلٍّ مِنْهُمَا، أَيْ لَا هَذَا وَلَا هَذَا، فَإِنْ وُجِدَ أَحَدُهُمَا فَعَلَيْكُمُ الْجُنَاحُ، وَهُوَ الْمَهْرُ أَوْ نِصْفُ الْمَفْرُوضِ، وَ " تَفْرِضُوا " مَجْزُومٌ عَطْفًا عَلَى " تَمَسُّوهُنَّ ". وَقِيلَ: نَصْبٌ، وَ " أَوْ " بِمَعْنَى " إِلَّا أَنْ ". وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيرُ " لَمْ " بَعْدَ " أَوْ " لِفَسَادِ الْمَعْنَى، إِذْ يُؤَوَّلُ إِلَى رَفْعِ الْجُنَاحِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَسِّ مَعَ الْفَرْضِ وَعَدَمِهِ، وَعِنْدَ عَدَمِ الْفَرْضِ مَعَ الْمَسِّ وَعَدَمِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَا يُقَدَّرُ فِيمَا انْتَفَى أَحَدُهُمَا، لِلُزُومِ نَفْيِ الْجُنَاحِ عِنْدَ نَفْيِ أَحَدِهِمَا وَوُجُودِ الْآخَرِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى أَحَدِهِمَا عَلَى الْإِبْهَامِ وَانْسِحَابِ حُكْمِ " لَمْ " عَلَيْهِ. وَنَظِيرُهُ {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} (الْإِنْسَانِ: 24). وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} (الْبَقَرَةِ: 188). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} (آلِ عِمْرَانَ: 149) وَالْوَجْهُ الْجَزْمُ، وَيَجُوزُ النَّصْبُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} (الْبَقَرَةِ: 284) الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} (النِّسَاءِ: 19) وَقَوْلُهُ: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} (النِّسَاءِ: 97). وَقَوْلُهُ: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} (النِّسَاءِ: 129). وَقَوْلُهُ فِي آلِ عِمْرَانَ: {يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} (الْآيَةَ: 149). وَقَوْلُهُ فِي الْأَعْرَافِ: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} (الْآيَةَ: 19). وَقَوْلُهُ فِي الْأَنْفَالِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (الْآيَةَ: 27). وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ: {وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا} (الْآيَةَ: 50). وَقَوْلُهُ: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} (التَّوْبَةِ: 120). وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ: {فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} (الْآيَةَ: 88) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى: {لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ} (يُونُسَ: 88) فَيَكُونُ مَنْصُوبًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِالْفَاءِ عَلَى جَوَابِ الدُّعَاءِ، وَأَنْ يَكُونَ مَجْزُومًا لِأَنَّهُ دُعَاءٌ. وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ يُوسُفَ: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ} (الْآيَةَ: 9). وَقَوْلُهُ: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} (غَافِرٍ: 82). وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ هُودٍ: {ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} (الْآيَةَ: 1- 2) أَيْ " بِأَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ "، فَيَكُونُ مَنْصُوبًا، وَيَجُوزُ جَزْمُهُ لِأَنَّهُ نَهْيٌ. وَقَوْلُهُ: فِي سُورَةِ النَّحْلِ: {وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ} (الْآيَةَ: 94) يَجُوزُ عَطْفُ " وَتَذُوقُوا " عَلَى تَتَّخِذُوا أَوْ " فَتَزِلَّ " قَبْلَ دُخُولِ الْفَاءِ، فَيَكُونُ مَجْزُومًا. وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (الْآيَةَ: 23) أَيْ بِأَلَّا تَعْبُدُوا أَوْ عَلَى نَهْيٍ. وَفِيهَا: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} (الْإِسْرَاءِ: 33). وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ} (الْآيَةَ: 20). وَقَوْلُهُ فِي الْحَجِّ: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} (الْآيَةَ: 28) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَامُ كَيْ أَوْ لَامُ الْأَمْرِ، وَفَائِدَةُ هَذَا تَظْهَرُ فِي جَوَازِ الْوَقْفِ. وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (الْحَجِّ: 29) فِيمَنْ كَسَرَ اللَّامَاتِ، وَقَوْلُهُ فِي النَّمْلِ: {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} (الْآيَةَ: 31) أَيْ بِإِنْ، أَوْ نَهْيٌ. وَقَوْلُهُ فِي الْعَنْكَبُوتِ: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} (الْآيَةَ: 66). هَلْ هِيَ لَامُ كَيْ أَوْ لَامُ الْأَمْرِ وَفِي فَاطِرٍ: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا} (الْآيَةَ: 44). وَفِي يس: {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ} (الْآيَةَ: 35) هَلْ هِيَ لَامُ كَيْ، أَوْ لَامُ الْأَمْرِ؟ وَفِي الْمُؤْمِنِ: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا} (غَافِرٍ: 82). وَفِي فُصِّلَتْ: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا} (الْآيَةَ: 30). وَفِي الْأَحْقَافِ: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} (الْآيَةَ: 21). وَفِي الْقِتَالِ: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا} (مُحَمَّدٍ: 10). وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ النَّصْبِ ظُهُورُهُ فِي مِثْلِهِ، {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ} (الْحَجِّ: 46). وَقَوْلُهُ: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} (مُحَمَّدٍ: 53). وَقَوْلُهُ: {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} (الرَّحْمَنِ: 8) أَيْ لِئَلَّا. أَوْ مَجْزُومٌ. وَقَوْلُهُ: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً} (الْمُمْتَحَنَةِ: 2). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} (الْمُرْسَلَاتِ: 35- 36)، فَإِنَّ " يَعْتَذِرُونَ " دَاخِلٌ مَعَ الْأَوَّلِ فِي النَّفْيِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ}، فَإِنْ كَانَ النُّطْقُ قَدْ نُفِيَ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَالِاعْتِذَارُ نُطْقٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَنْفِيًّا مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: {وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ} (الْمُرْسَلَاتِ: 36) وَلَوْ حُمِلَ عَلَى إِضْمَارِ الْمُبْتَدَأِ- أَيْ فَهُمْ يَعْتَذِرُونَ- لَجَازَ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فِي " لَا يَنْطِقُونَ " أَنَّهُمْ وَإِنْ نَطَقُوا فَمَنْطِقُهُمْ كَلَا نُطْقٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعِ الْمَوْقِعَ الَّذِي أَرَادُوهُ، كَقَوْلِهِمْ: تَكَلَّمْتَ وَلَمْ تَتَكَلَّمْ. وَقَوْلُهُ: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} (الشُّعَرَاءِ: 102) وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ هَذَا قَوْلًا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْرِ نُطْقٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} (الْبَقَرَةِ: 260) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَامَ كَيْ، وَالْفِعْلُ مَنْصُوبٌ، أَوْ لَامَ الْأَمْرِ وَالْفِعْلُ مَجْزُومٌ. وَقَوْلُهُ: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} (الْأَعْرَافِ: 127) فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَجْزُومًا، وَاللَّامُ زَائِدَةٌ وَمَنْ نَصَبَ " وَيَذَرَكَ " عَطَفَهُ عَلَى " لِيُفْسِدُوا "
|