الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن ***
[كِتَابُ الْبُرْهَانِ فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ] سَنَدُنَا بِكِتَابِ الْبُرْهَانِ فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ لِمُؤَلِّفِهِ الْإِمَامِ بَدْرِ الدِّينِ الزَّرْكَشِيِّ يَقُولُ الْفَقِيرُ إِلَى عَفْوِ رَبِّهِ الْعَلِيِّ، يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ فُؤَادٍ الْمَرْعَشْلِيُّ: أَرْوِي هَذَا الْكِتَابَ بِالْإِسْنَادِ الْمُتَّصِلِ إِلَى مُؤَلِّفِهِ إِجَازَةً عَنْ شَيْخِنَا أَبِي الْفَيْضِ مُحَمَّدِ يَاسِينَ بْنِ عِيسَى الْفَادَانِيِّ الْمَكِّيِّ- حَفِظَهُ اللَّهُ- عَنِ الشَّيْخِ حَسَنِ بْنِ سَعِيدٍ يَمَانِيٍّ، عَنِ السَّيِّدِ حُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْحَبَشِيِّ الْمَكِّيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْمُفْتِي السَّيِّدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْأَهْدَلِ، عَنِ الصَّفِّي السَّيِّدِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ شَرِيف مَقْبُول الْأَهْدَلِ، عَنِ السَّيِّدِ يَحْيَى بْنِ عُمَرَ مَقْبُول الْأَهْدَلِ، عَنِ السَّيِّدِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الْبَطَّاحِ الْأَهْدَلِ، عَنِ السَّيِّدِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ الْأَهْدَلِ الْمُلَقَّبِ بِسِرَاجِ الْعُلُومِ، عَنِ السَّيِّدِ الصِّدِّيقِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْخَاصِّ، عَنِ الْعَلَّامَةِ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ السَّنَدِيِّ الْمَدَنِيِّ، عَنِ الشِّهَابِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَجَرٍ الْهَيْثَمِيِّ، عَنِ الْحَافِظِ أَبِي الْفَضْلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا بِهَا الْعَلَّامَةُ تَقِيُّ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الشُّمُنِّيُّ إِجَازَةً عَنْ أَبِيهِ الْعَلَّامَةِ كَمَالِ الدِّينِ مُحَمَّدٍ الشُّمُنِّيِّ، عَنْ مُؤَلِّفِهِ الْعَلَّامَةِ بَدْرِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَهَادِرَ الزَّرْكَشِيِّ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ، وَحِيدُ الدَّهْرِ، وَفَرِيدُ الْعَصْرِ، جَامِعُ أَشْتَاتِ الْفَضَائِلِ، وَنَاصِرُ الْحَقِّ بِالْبُرْهَانِ مِنَ الدَّلَائِلِ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بَدْرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الزَّرْكَشِيُّ الشَّافِعِيُّ، بَلَّغَهُ اللَّهُ مِنْهُ مَا يَرْجُوهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَوَّرَ بِكِتَابِهِ الْقُلُوبَ، وَأَنْزَلَهُ فِي أَوْجَزِ لَفْظٍ وَأَعْجَزِ أُسْلُوبٍ، فَأَعْيَتْ بَلَاغَتُهُ الْبُلَغَاءَ، وَأَعْجَزَتْ حِكْمَتُهُ الْحُكَمَاءَ، وَأَبْكَمَتْ فَصَاحَتُهُ الْخُطَبَاءَ. أَحْمَدُهُ أَنْ جَعَلَ الْحَمْدَ فَاتِحَةَ أَسْرَارِهِ، وَخَاتِمَةَ تَصَارِيفِهِ وَأَقْدَارِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الْمُصْطَفَى، وَنَبِيُّهُ الْمُرْتَضَى، الظَّافِرُ مِنَ الْمَحَامِدِ بِالْخَصْلِ، الظَّاهِرُ بِفَضْلِهِ عَلَى ذَوِي الْفَضْلِ، مُعَلِّمُ الْحِكْمَةِ، وَهَادِي الْأُمَّةِ، أَرْسَلَهُ بِالنُّورِ السَّاطِعِ، وَالضِّيَاءِ اللَّامِعِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ الْأَبْرَارِ، وَصَحْبِهِ الْأَخْيَارِ. أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَوْلَى مَا أُعْمِلَتْ فِيهِ الْقَرَائِحُ، وَعَلِقَتْ بِهِ الْأَفْكَارُ اللَّوَاقِحُ، الْفَحْصُ عَنْ أَسْرَارِ التَّنْزِيلِ، وَالْكَشْفُ عَنْ حَقَائِقِ التَّأْوِيلِ، الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْمَعَالِمُ، وَتَثْبُتُ الدَّعَائِمُ، فَهُوَ الْعِصْمَةُ الْوَاقِيَةُ، وَالنِّعْمَةُ الْبَاقِيَةُ، وَالْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ، وَالدَّلَالَةُ الدَّامِغَةُ، وَهُوَ شِفَاءُ الصُّدُورِ، وَالْحَكَمُ الْعَدْلُ عِنْدَ مُشْتَبِهَاتِ الْأُمُورِ؛ وَهُوَ الْكَلَامُ الْجَزْلُ، وَهُوَ الْفَصْلُ الَّذِي لَيْسَ بِالْهَزْلِ، سِرَاجٌ لَا يَخْبُو ضِيَاؤُهُ، وَشِهَابٌ لَا يَخْمَدُ نُورُهُ وَسَنَاؤُهُ، وَبَحْرٌ لَا يُدْرَكُ غَوْرُهُ. بَهَرَتْ بَلَاغَتُهُ الْعُقُولَ، وَظَهَرَتْ فَصَاحَتُهُ عَلَى كُلِّ مَقُولٍ، وَتَظَافَرَ إِيجَازُهُ وَإِعْجَازُهُ، وَتَظَاهَرَتْ حَقِيقَتُهُ وَمَجَازُهُ، وَتَقَارَنَ فِي الْحُسْنِ مَطَالِعُهُ وَمَقَاطِعُهُ، وَحَوَتْ كُلَّ الْبَيَانِ جَوَامِعُهُ وَبَدَائِعُهُ، قَدْ أَحْكَمَ الْحَكِيمُ صِيغَتَهُ وَمَبْنَاهُ، وَقَسَّمَ لَفْظَهُ وَمَعْنَاهُ، إِلَى مَا يُنَشِّطُ السَّامِعَ، وَيُقَرِّطُ الْمَسَامِعَ، مِنْ تَجْنِيسٍ أَنِيسٍ، وَتَطْبِيقٍ لَبِيقٍ، وَتَشْبِيهٍ نَبِيهٍ، وَتَقْسِيمٍ وَسِيمٍ، وَتَفْصِيلٍ أَصِيلٍ، وَتَبْلِيغٍ بَلِيغٍ، وَتَصْدِيرٍ بِالْحُسْنِ جَدِيرٍ، وَتَرْدِيدٍ مَا لَهُ مَزِيدٌ؛ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا احْتَوَى مِنَ الصِّيَاغَةِ الْبَدِيعَةِ، وَالصِّنَاعَةِ الرَّفِيعَةِ، فَالْآذَانُ بِأَقْرَاطِهِ حَالِيَةٌ، وَالْأَذْهَانُ مِنْ أَسْمَاطِهِ غَيْرُ خَالِيَةٍ؛ فَهُوَ مِنْ تُنَاسُبِ أَلْفَاظِهِ، وَتَنَاسُقِ أَغْرَاضِهِ، قِلَادَةٌ ذَاتُ اتِّسَاقٍ؛ وَمِنْ تَبَسُّمِ زَهْرِهِ، وَتَنَسُّمِ نَشْرِهِ، حَدِيقَةٌ مُبْهِجَةٌ لِلنُّفُوسِ وَالْأَسْمَاعِ وَالْأَحْدَاقِ؛ كُلُّ كَلِمَةٍ مِنْهُ لَهَا مِنْ نَفْسِهَا طَرَبٌ، وَمِنْ ذَاتِهَا عَجَبٌ، وَمِنْ طَلْعَتِهَا غُرَّةٌ، وَمِنْ بَهْجَتِهَا دُرَّةٌ، لَاحَتْ عَلَيْهِ بَهْجَةُ الْقُدْرَةِ، وَنَزَلَ مِمَّنْ لَهُ الْأَمْرُ، فَلَهُ عَلَى كُلِّ كَلَامٍ سُلْطَانٌ وَإِمْرَةٌ، بَهَرَ تَمَكُّنُ فَوَاصِلِهِ، وَحُسْنُ ارْتِبَاطِ أَوَاخِرِهِ بِأَوَائِلِهِ، وَبَدِيعُ إِشَارَاتِهِ، وَعَجِيبُ انْتِقَالَاتِهِ؛ مِنْ قِصَصٍ بَاهِرَةٍ، إِلَى مَوَاعِظَ زَاجِرَةٍ، وَأَمْثَالٍ سَائِرَةٍ، وَحِكَمٍ زَاهِرَةٍ، وَأَدِلَّةٍ عَلَى التَّوْحِيدِ ظَاهِرَةٍ، وَأَمْثَالٍ بِالتَّنْزِيهِ وَالتَّحْمِيدِ سَائِرَةٍ، وَمَوَاقِعِ تَعَجُّبٍ وَاعْتِبَارٍ، وَمَوَاطِنِ تَنْزِيهٍ وَاسْتِغْفَارٍ؛ إِنْ كَانَ سِيَاقُ الْكَلَامِ تَرْجِيَةً بَسَطَ، وَإِنْ كَانَ تَخْوِيفًا قَبَضَ، وَإِنْ كَانَ وَعْدًا أَبْهَجَ، وَإِنْ كَانَ وَعِيدًا أَزْعَجَ، وَإِنْ كَانَ دَعْوَةً حَدَبَ، وَإِنْ كَانَ زَجْرَةً أَرْعَبَ، وَإِنْ كَانَ مَوْعِظَةً أَقْلَقَ، وَإِنْ كَانَ تَرْغِيبًا شَوَّقَ. هَذَا، وَكَمْ فِيهِ مِنْ مَزَايَا *** وَفِي زَوَايَاهُ مِنْ خَبَايَا وَيُطْمِعُ الْحَبْرَ فِي التَّقَاضِي *** فَيَكْشِفُ الْخَبَرَ عَنْ قَضَايَا فَسُبْحَانَ مَنْ سَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْقُلُوبِ، وَصَرَّفَهُ بِأَبْدَعِ مَعْنًى وَأَغْرَبِ أُسْلُوبٍ، لَا يَسْتَقْصِي مَعَانِيَهُ فَهْمُ الْخَلْقِ، وَلَا يُحِيطُ بِوَصْفِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ ذُو اللِّسَانِ الطَّلْقِ، فَالسَّعِيدُ مَنْ صَرَفَ هِمَّتَهُ إِلَيْهِ، وَوَقَفَ فِكْرَهُ وَعَزْمَهُ عَلَيْهِ، وَالْمُوَفَّقُ مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ لِتَدَبُّرِهِ، وَاصْطَفَاهُ لِلتَّذْكِيرِ بِهِ وَتَذَكُّرِهِ، فَهُوَ يَرْتَعُ مِنْهُ فِي رِيَاضٍ، وَيَكْرَعُ مِنْهُ فِي حِيَاضٍ. أَنْدَى عَلَى الْأَكْبَادِ مِنْ قَطْرِ النَّدَى *** وَأَلَذُّ فِي الْأَجْفَانِ مِنْ سِنَةِ الْكَرَى يَمْلَأُ الْقُلُوبَ بِشْرًا، وَيَبْعَثُ الْقَرَائِحَ عَبِيرًا وَنَشْرًا، يُحْيِي الْقُلُوبَ بِأَوْرَادِهِ، وَلِهَذَا سَمَّاهُ اللَّهُ رُوحًا؛ فَقَالَ: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} (غَافِرٍ: 15)؛ فَسَمَّاهُ رُوحًا لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى حَيَاةِ الْأَبَدِ، وَلَوْلَا الرُّوحُ لَمَاتَ الْجَسَدُ، فَجَعَلَ هَذَا الرُّوحَ سَبَبًا لِلِاقْتِدَارِ، وَعَلَمًا عَلَى الِاعْتِبَارِ. يَزِيدُ عَلَى طُولِ التَّأَمُّلِ بَهْجَةً *** كَأَنَّ الْعُيُونَ النَّاظِرَاتِ صَيَاقِلُ وَإِنَّمَا يَفْهَمُ بَعْضَ مَعَانِيهِ، وَيَطَّلِعُ عَلَى أَسْرَارِهِ وَمَبَانِيهِ؛ مَنْ قَوِيَ نَظَرُهُ، وَاتَّسَعَ مَجَالُهُ فِي الْفِكْرِ وَتَدَبَّرَهُ؛ وَامْتَدَّ بَاعُهُ؛ وَرَقَّتْ طِبَاعُهُ، وَامْتَدَّ فِي فُنُونِ الْأَدَبِ، وَأَحَاطَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ. قَالَ الْحَرَالِّيُّ فِي جُزْءٍ سَمَّاهُ: " مِفْتَاحَ الْبَابِ الْمُقْفَلِ، لِفَهْمِ الْقُرْآنِ الْمُنَزَلِ ": " لِلَّهِ تَعَالَى مَوَاهِبُ، جَعَلَهَا أُصُولًا لِلْمَكَاسِبِ، فَمَنْ وَهَبَهُ عَقْلًا يَسَّرَ عَلَيْهِ السَّبِيلَ، وَمَنْ رَكَّبَ فِيهِ خُرْقًا نَقَصَ ضَبْطُهُ مِنَ التَّحْصِيلِ، وَمَنْ أَيَّدَهُ بِتَقْوَى الِاسْتِنَادِ إِلَيْهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ عَلَّمَهُ وَفَهَّمَهُ ". قَالَ: " وَأَكْمَلُ الْعُلَمَاءِ مَنْ وَهَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَهْمًا فِي كَلَامِهِ، وَوَعْيًا عَنْ كِتَابِهِ، وَتَبْصِرَةً فِي الْفُرْقَانِ، وَإِحَاطَةً بِمَا شَاءَ مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ، فَفِيهِ تَمَامُ شُهُودِ مَا كَتَبَ اللَّهُ لِمَخْلُوقَاتِهِ مِنْ ذِكْرِهِ الْحَكِيمِ؛ بِمَا يُزِيلُ بِكَرِيمِ عِنَايَتِهِ مِنْ خَطَأِ اللَّاعِبِينَ؛ إِذْ فِيهِ كُلُّ الْعُلُومِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: " جَمِيعُ مَا تَقُولُهُ الْأُمَّةُ شَرْحٌ لِلسُّنَّةِ، وَجَمِيعُ السُّنَّةِ شَرْحٌ لِلْقُرْآنِ، وَجَمِيعُ الْقُرْآنِ شَرْحُ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى، وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا- زَادَ غَيْرُهُ: وَجَمِيعُ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى شَرْحٌ لِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ- وَكَمَا أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ كَلَامٍ سِوَاهُ، فَعُلُومُهُ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ عِلْمٍ عَدَاهُ؛ قَالَ تَعَالَى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} (الرَّعْدِ: 19)، وَقَالَ تَعَالَى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (الْبَقَرَةِ: 269)، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْفَهْمُ وَالْإِصَابَةُ فِي الْقُرْآنِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي عِلْمَ الْقُرْآنِ. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} (الْأَعْرَافِ: 146)، قَالَ: أَحْرِمُهُمْ فَهْمَ الْقُرْآنِ وَالْمَحْرُومُونَ مِنْهُ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: لَا يَجْتَمِعُ فَهْمُ الْقُرْآنِ وَالِاشْتِغَالُ بِالْحُطَامِ فِي قَلْبِ مُؤْمِنٍ أَبَدًا. وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى الْكِنَانِيُّ: " مَثَلُ عِلْمِ الْقُرْآنِ مَثَلُ الْأَسَدِ لَا يُمَكِّنُ مِنْ غِلَتِهِ سِوَاهُ ". قَالَ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ: " أَبَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُكْرِمَ قُلُوبَ الْبَطَّالِينَ مَكْنُونَ حِكْمَةِ الْقُرْآنِ ". وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (الْأَنْعَامِ: 38). وَقَالَ: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}، (النِّسَاءِ: 82). وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (الْفَاتِحَةِ: 6) قَالَ: " الْقُرْآنُ " يَقُولُ: أَرْشِدْنَا إِلَى عِلْمِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: عِلْمُ الْقُرْآنِ ذِكْرٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا الذَّكُورُ مِنَ الرِّجَالِ ". وَقَالَ اللَّهُ- جَلَّ ذِكْرُهُ-: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}. (النِّسَاءِ: 59)، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (الشُّورَى: 10)؛ يَقُولُ: إِلَى كِتَابِ اللَّهِ ". وَكُلُّ عِلْمٍ مِنَ الْعُلُومِ مُنْتَزَعٌ مِنَ الْقُرْآنِ، وَإِلَّا فَلَيْسَ لَهُ بُرْهَانٌ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: " مَنْ أَرَادَ الْعِلْمَ فَلْيُثَوِّرِ الْقُرْآنَ، فَإِنَّ فِيهِ عِلْمَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ " رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الْمَدْخَلِ " وَقَالَ: " أَرَادَ بِهِ أُصُولَ الْعِلْمِ ". وَقَدْ كَانَتِ الصَّحَابَةُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- عُلَمَاءَ؛ كُلٌّ مِنْهُمْ مَخْصُوصٌ بِنَوْعٍ مِنَ الْعِلْمِ كَعَلِيٍّ- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ- بِالْقَضَاءِ، وَزَيْدٍ بِالْفَرَائِضِ، وَمُعَاذٍ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَأُبَيٍّ بِالْقِرَاءَةِ، فَلَمْ يُسَمَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَحْرًا اسْمٌ أُطْلِقَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ لِاخْتِصَاصِهِ دُونَهُمْ بِالتَّفْسِيرِ وَعِلْمِ التَّأْوِيلِ؛ وَقَالَ فِيهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: " كَأَنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى الْغَيْبِ مِنْ وَرَاءِ سِتْرٍ رَقِيقٍ ". وَقَالَ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: " نِعْمَ تَرْجُمَانُ الْقُرْآنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ "؛ وَقَدْ مَاتَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ؛ وَعُمِّرَ بَعْدَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ سِتًّا وَثَلَاثِينَ سَنَةً؛ فَمَا ظَنُّكَ بِمَا كَسَبَهُ مِنَ الْعُلُومِ بَعْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ! نَعَمْ؛ كَانَ لِعَلِيٍّ فِيهِ الْيَدُ السَّابِقَةُ قَبْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ وَهُوَ الْقَائِلُ: " لَوْ أَرَدْتُ أَنْ أُمْلِيَ وِقْرَ بَعِيرٍ عَلَى الْفَاتِحَةِ لَفَعَلْتُ ". وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: " فَأَمَّا صَدْرُ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُؤَيَّدُ فِيهِمْ فَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَيَتْلُوهُ ابْنُ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-؛ وَهُوَ تَجَرَّدَ لِلْأَمْرِ وَكَمَّلَهُ، وَتَتَبَّعَهُ الْعُلَمَاءُ عَلَيْهِ؛ كَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَغَيْرِهِمَا. وَكَانَ جِلَّةٌ مِنَ السَّلَفِ كَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالشَّعْبِيِّ وَغَيْرِهِمَا، يُعَظِّمُونَ تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ، وَيَتَوَقَّفُونَ عَنْهُ تَوَرُّعًا وَاحْتِيَاطًا لِأَنْفُسِهِمْ، مَعَ إِدْرَاكِهِمْ وَتَقَدُّمِهِمْ "، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَهُمْ طَبَقَةٌ فَطَبَقَةٌ، فَجَدُّوا وَاجْتَهَدُوا، وَكُلٌّ يُنْفِقُ مِمَّا رَزَقَهُ اللَّهُ؛ وَلِهَذَا كَانَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَقُولُ: " لَوْ أُعْطِيَ الْعَبْدُ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنَ الْقُرْآنِ أَلْفَ فَهْمٍ لَمْ يَبْلُغْ نِهَايَةَ مَا أَوْدَعَهُ اللَّهُ فِي آيَةٍ مِنْ كِتَابِهِ؛ لِأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ، وَكَلَامُهُ صِفَتُهُ. وَكَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ نِهَايَةٌ، فَكَذَلِكَ لَا نِهَايَةَ لِفَهْمِ كَلَامِهِ؛ وَإِنَّمَا يَفْهَمُ كُلٌّ مِقْدَارَ مَا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَكَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَلَا تَبْلُغُ إِلَى نِهَايَةِ فَهْمِهِ فُهُومٌ مُحْدَثَةٌ مَخْلُوقَةٌ ". وَلَمَّا كَانَتْ عُلُومُ الْقُرْآنِ لَا تَنْحَصِرُ، وَمَعَانِيهِ لَا تُسْتَقْصَى، وَجَبَتِ الْعِنَايَةُ بِعُلُومِ الْقُرْآنِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ. وَمِمَّا فَاتَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَضْعُ كِتَابٍ يَشْتَمِلُ عَلَى أَنْوَاعِ عُلُومِهِ، كَمَا وَضَعَ النَّاسُ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِ الْحَدِيثِ، فَاسْتَخَرْتُ اللَّهَ تَعَالَى- وَلَهُ الْحَمْدُ- فِي وَضْعِ كِتَابٍ فِي ذَلِكَ جَامِعٍ لَمَّا تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي فُنُونِهِ، وَخَاضُوا فِي نُكَتِهِ وَعُيُونِهِ، وَضَمَّنْتُهُ مِنَ الْمَعَانِي الْأَنِيقَةِ، وَالْحِكَمِ الرَّشِيقَةِ، مَا يَهُزُّ الْقُلُوبَ طَرَبًا، وَيُبْهِرُ الْعُقُولَ عَجَبًا؛ لِيَكُونَ مِفْتَاحًا لِأَبْوَابِهِ، وَعُنْوَانًا عَلَى كِتَابِهِ: مُعِينًا لِلْمُفَسِّرِ عَلَى حَقَائِقِهِ، وَمُطْلِعًا عَلَى بَعْضِ أَسْرَارِهِ وَدَقَائِقِهِ؛ وَاللَّهُ الْمُخَلِّصُ وَالْمُعِينُ، وَعَلَيْهِ أَتَوَكَّلُ، وَبِهِ أَسْتَعِينُ، وَسَمَّيْتُهُ: " الْبُرْهَانَ فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ ". وَهَذِهِ فِهْرِسْتُ أَنْوَاعِهِ: الْأَوَّلُ: مَعْرِفَةُ سَبَبِ النُّزُولِ. الثَّانِي: مَعْرِفَةُ الْمُنَاسَبَاتِ بَيْنَ الْآيَاتِ. الثَّالِثُ: مَعْرِفَةُ الْفَوَاصِلِ. الرَّابِعُ: مَعْرِفَةُ الْوُجُوهِ وَالنَّظَائِرِ. الْخَامِسُ: عِلْمُ الْمُتَشَابِهِ. السَّادِسُ: عِلْمُ الْمُبْهَمَاتِ. السَّابِعُ: فِي أَسْرَارِ الْفَوَاتِحِ. الثَّامِنُ: فِي خَوَاتِمِ السُّوَرِ. التَّاسِعُ: فِي مَعْرِفَةِ الْمَكِّيِّ وَالْمَدَنِيِّ. الْعَاشِرُ: مَعْرِفَةُ أَوَّلِ مَا نَزَلَ. الْحَادِيَ عَشَرَ: مَعْرِفَةُ عَلَى كَمْ لُغَةٍ نَزَلَ. الثَّانِيَ عَشَرَ: فِي كَيْفِيَّةِ إِنْزَالِهِ. الثَّالِثَ عَشَرَ: فِي بَيَانِ جَمْعِهِ وَمَنْ حَفِظَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ. الرَّابِعَ عَشَرَ: مَعْرِفَةُ تَقْسِيمِهِ. الْخَامِسَ عَشَرَ: مَعْرِفَةُ أَسْمَائِهِ. السَّادِسَ عَشَرَ: مَعْرِفَةُ مَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ لُغَةِ الْحِجَازِ. السَّابِعَ عَشَرَ: مَعْرِفَةُ مَا فِيهِ مِنْ غَيْرِ لُغَةِ الْعَرَبِ. الثَّامِنَ عَشَرَ: مَعْرِفَةُ غَرِيبِهِ. التَّاسِعَ عَشَرَ: مَعْرِفَةُ التَّصْرِيفِ. الْعِشْرُونَ: مَعْرِفَةُ الْأَحْكَامِ. الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: مَعْرِفَةُ كَوْنِ اللَّفْظِ أَوِ التَّرْكِيبِ أَحْسَنَ وَأَفْصَحَ. الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: مَعْرِفَةُ اخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ. الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: مَعْرِفَةُ تَوْجِيهِ الْقِرَاءَاتِ. الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: مَعْرِفَةُ الْوَقْفِ وَالِابْتِدَاءِ. الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: عِلْمُ مَرْسُومِ الْخَطِّ. السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: مَعْرِفَةُ فَضَائِلِهِ. السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: مَعْرِفَةُ خَوَاصِّهِ. الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: هَلْ فِي الْقُرْآنِ شَيْءٌ أَفْضَلُ مِنْ شَيْءٍ. التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: فِي آدَابِ تِلَاوَتِهِ. الثَّلَاثُونَ: فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ فِي التَّصَانِيفِ وَالرَّسَائِلِ وَالْخُطَبِ اسْتِعْمَالُ بَعْضِ آيَاتِ الْقُرْآنِ. الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ: مَعْرِفَةُ الْأَمْثَالِ الْكَائِنَةِ فِيهِ. الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: مَعْرِفَةُ أَحْكَامِهِ. الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ: فِي مَعْرِفَةِ جَدَلِهِ. الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: مَعْرِفَةُ نَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ. الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ: مَعْرِفَةُ مُوهِمِ الْمُخْتَلِفِ. السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ: فِي مَعْرِفَةِ الْمُحْكَمِ مِنَ الْمُتَشَابِهِ. السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: فِي حُكْمِ الْآيَاتِ الْمُتَشَابِهَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الصِّفَاتِ. الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ: مَعْرِفَةُ إِعْجَازِهِ. التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ: مَعْرِفَةُ وُجُوبِ تَوَاتُرِهِ. الْأَرْبَعُونَ: فِي بَيَانِ مُعَاضَدَةِ السُّنَّةِ لِلْكِتَابِ. الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ: مَعْرِفَةُ تَفْسِيرِهِ. الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ: مَعْرِفَةُ وُجُوبِ الْمُخَاطِبَاتِ. الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ: بَيَانُ حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ. الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي الْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ. الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي أَقْسَامِ مَعْنَى الْكَلَامِ. السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي ذِكْرِ مَا يَتَيَسَّرُ مِنْ أَسَالِيبِ الْقُرْآنِ. السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: فِي مَعْرِفَةِ الْأَدَوَاتِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ مَا مِنْ نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ إِلَّا وَلَوْ أَرَادَ الْإِنْسَانُ اسْتِقْصَاءَهُ، لَاسْتَفْرَغَ عُمُرَهُ، ثُمَّ لَمْ يُحْكِمْ أَمْرَهُ؛ وَلَكِنِ اقْتَصَرْنَا مِنْ كُلِّ نَوْعٍ عَلَى أُصُولِهِ، وَالرَّمْزِ إِلَى بَعْضِ فُصُولِهِ؛ فَإِنَّ الصِّنَاعَةَ طَوِيلَةٌ وَالْعُمُرَ قَصِيرٌ؛ وَمَاذَا عَسَى أَنْ يَبْلُغَ لِسَانُ التَّقْصِيرِ! قَالُوا خُذِ الْعَيْنَ مِنْ كُلٍّ فَقُلْتُ لَهُمْ *** فِي الْعَيْنِ فَضْلٌ وَلَكِنْ نَاظِرُ الْعَيْنِ
التَّفْسِيرُ مَا هُوَ عِلْمٌ يُعْرَفُ بِهِ فَهْمُ كِتَابِ اللَّهِ الْمُنَزَّلِ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَيَانُ مَعَانِيهِ، وَاسْتِخْرَاجُ أَحْكَامِهِ وَحِكَمِهِ، وَاسْتِمْدَادُ ذَلِكَ مِنْ عِلْمِ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ وَالتَّصْرِيفِ وَعِلْمِ الْبَيَانِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ وَالْقِرَاءَاتِ، وَيَحْتَاجُ لِمَعْرِفَةِ أَسْبَابِ النُّزُولِ وَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ. وَقَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ فِيهِ مِنَ الْمَوْضُوعَاتِ مَا بَيْنَ مُخْتَصَرٍ وَمَبْسُوطٍ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَقْتَصِرُ عَلَى الْفَنِّ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَيْهِ. فَالزَّجَّاجُ وَالْوَاحِدِيُّ فِي " الْبَسِيطِ " يَغْلِبُ عَلَيْهِمَا الْغَرِيبُ وَالنَّحْوُ، وَالثَّعْلَبِيُّ يَغْلِبُ عَلَيْهِ الْقَصَصُ، وَالزَّمَخْشَرِيُّ... عِلْمُ الْبَيَانِ، وَالْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ عِلْمُ الْكَلَامِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا خَاطَبَ خَلْقَهُ بِمَا يَفْهَمُونَهُ؛ وَلِذَلِكَ أَرْسَلَ كُلَّ رَسُولٍ بِلِسَانِ قَوْمِهِ، وَأَنْزَلَ كِتَابَهُ عَلَى لُغَتِهِمْ؛ وَإِنَّمَا احْتِيجَ إِلَى التَّفْسِيرِ لِمَا سَنَذْكُرُ، بَعْدَ تَقْرِيرِ قَاعِدَةٍ؛ وَهِيَ أَنَّ كُلَّ مَنْ وَضَعَ مِنَ الْبَشَرِ كِتَابًا فَإِنَّمَا وَضَعَهُ لِيُفْهَمَ بِذَاتِهِ مِنْ غَيْرِ شَرْحٍ؛ وَإِنَّمَا احْتِيجَ إِلَى الشُّرُوحِ فِي الْقُرْآنِ لِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ لِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: (أَحَدُهَا): كَمَالُ فَضِيلَةِ الْمُصَنِّفِ؛ فَإِنَّهُ لِقُوَّتِهِ الْعِلْمِيَّةِ يَجْمَعُ الْمَعَانِيَ الدَّقِيقَةَ فِي اللَّفْظِ الْوَجِيزِ، فَرُبَّمَا عَسُرَ فَهْمُ مُرَادِهِ، فَقَصَدَ بِالشَّرْحِ ظُهُورَ تِلْكَ الْمَعَانِي الْخَفِيَّةِ؛ وَمِنْ هُنَا كَانَ شَرْحُ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ تَصْنِيفَهُ أَدَلَّ عَلَى الْمُرَادِ مِنْ شَرْحِ غَيْرِهِ لَهُ. (وَثَانِيهَا): قَدْ يَكُونُ حَذَفَ بَعْضَ مُقَدِّمَاتِ الْأَقْيِسَةِ أَوْ أَغْفَلَ فِيهَا شُرُوطًا اعْتِمَادًا عَلَى وُضُوحِهَا، أَوْ لِأَنَّهَا مِنْ عِلْمٍ آخَرَ؛ فَيَحْتَاجُ الشَّارِحُ لِبَيَانِ الْمَحْذُوفِ وَمَرَاتِبِهِ. (وَثَالِثُهَا): احْتِمَالُ اللَّفْظِ لِمَعَانٍ ثَلَاثَةٍ؛ كَمَا فِي الْمَجَازِ وَالِاشْتِرَاكِ وَدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ؛ فَيَحْتَاجُ الشَّارِحُ إِلَى بَيَانِ غَرَضِ الْمُصَنِّفِ وَتَرْجِيحِهِ. وَقَدْ يَقَعُ فِي التَّصَانِيفِ مَا لَا يَخْلُو مِنْهُ بَشَرٌ مِنَ السَّهْوِ وَالْغَلَطِ أَوْ تَكْرَارِ الشَّيْءِ، وَحَذْفِ الْمُهِمِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ فَيَحْتَاجُ الشَّارِحُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى ذَلِكَ. وَإِذَا عُلِمَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ الْقُرْآنَ إِنَّمَا أُنْزِلَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ فِي زَمَنِ أَفْصَحِ الْعَرَبِ؛ وَمَعَ هَذَا كَانُوا فِي حَاجَةٍ إِلَى تَفْسِيرِهِ وَكَانُوا يَعْلَمُونَ ظَوَاهِرَهُ وَأَحْكَامَهُ؛ أَمَّا دَقَائِقُ بَاطِنِهِ فَإِنَّمَا كَانَ يَظْهَرُ لَهُمْ بَعْدَ الْبَحْثِ وَالنَّظَرِ مِنْ سُؤَالِهِمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَكْثَرِ كَسُؤَالِهِمْ لَمَّا نَزَلَ: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} (الْأَنْعَامِ: 82) فَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ! فَفَسَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشِّرْكِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لُقْمَانَ: 13). وَكَسُؤَالِ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- عَنِ الْحِسَابِ الْيَسِيرِ فَقَالَ: ذَلِكَ الْعَرْضُ، وَمَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ. وَكَقِصَّةِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ فِي الْخَيْطِ الَّذِي وَضَعَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا سَأَلُوا عَنْ آحَادٍ لَهُ مِنْهُ. وَلَمْ يُنْقَلْ إِلَيْنَا عَنْهُمْ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ وَتَأْوِيلُهُ بِجُمْلَتِهِ؛ فَنَحْنُ نَحْتَاجُ إِلَى مَا كَانُوا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، وَزِيَادَةٍ عَلَى مَا لَمْ يَكُونُوا مُحْتَاجِينَ إِلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ الظَّوَاهِرِ لِقُصُورِنَا عَنْ مَدَارِكِ أَحْكَامِ اللُّغَةِ بِغَيْرِ تَعَلُّمٍ؛ فَنَحْنُ أَشَدُّ النَّاسِ احْتِيَاجًا إِلَى التَّفْسِيرِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَفْسِيرَهُ يَكُونُ بَعْضُهُ مِنْ قَبِيلِ بَسْطِ الْأَلْفَاظِ الْوَجِيزَةِ وَكَشْفِ مَعَانِيهَا، وَبَعْضُهُ مِنْ قَبِيلِ تَرْجِيحِ بَعْضِ الِاحْتِمَالَاتِ عَلَى بَعْضٍ لِبَلَاغَتِهِ وَلُطْفِ مَعَانِيهِ؛ وَلِهَذَا لَا يُسْتَغْنَى عَنْ قَانُونٍ عَامٍّ يُعَوَّلُ فِي تَفْسِيرِهِ عَلَيْهِ وَيُرْجَعُ فِي تَفْسِيرِهِ إِلَيْهِ مِنْ مَعْرِفَةِ مُفْرَدَاتِ أَلْفَاظِهِ وَمُرَكَّبَاتِهَا وَسِيَاقِهِ وَظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَهْمِ وَيَدِقُّ عَنْهُ الْفَهْمُ. وَبَيْنَ أَقْدَاحِهِمْ حَدِيثٌ قَصِيرٌ *** هُوَ سِحْرٌ وَمَا سِوَاهُ كَلَامُ وَفِي هَذَا تَتَفَاوَتُ الْأَذْهَانُ، وَتَتَسَابَقُ فِي النَّظَرِ إِلَيْهِ مُسَابَقَةَ الرِّهَانِ، فَمَنْ سَابَقَ بِفَهْمِهِ، وَرَاشَقَ كَبِدَ الرَّمْيَةِ بِسَهْمِهِ وَآخَرُ رَمَى فَأَشْوَى، وَخَبَطَ فِي النَّظَرِ خَبْطَ عَشْوَا- كَمَا قِيلَ. وَأَيْنَ الدَّقِيقُ مِنَ الرَّكِيكِ، وَأَيْنَ الزُّلَالُ مِنَ الزُّعَاقِ! وَقَالَ الْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ ابْنُ الْخُوَيِّيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: " عِلْمُ التَّفْسِيرِ عَسِيرٌ يَسِيرٌ؛ أَمَّا عُسْرُهُ فَظَاهِرٌ مِنْ وُجُوهٍ؛ أَظْهَرُهَا أَنَّهُ كَلَامُ مُتَكَلِّمٍ لَمْ يَصِلِ النَّاسُ إِلَى مُرَادِهِ بِالسَّمَاعِ مِنْهُ، وَلَا إِمْكَانَ لِلْوُصُولِ إِلَيْهِ بِخِلَافِ الْأَمْثَالِ وَالْأَشْعَارِ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يُمْكِنُ عِلْمُهُ بِمُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ بِأَنْ يَسْمَعَ مِنْهُ أَوْ يَسْمَعَ مِمَّنْ سَمِعَ مِنْهُ، وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَتَفْسِيرُهُ عَلَى وَجْهِ الْقَطْعِ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِأَنْ يُسْمَعَ مِنَ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ إِلَّا فِي آيَاتٍ قَلَائِلَ. فَالْعِلْمُ بِالْمُرَادِ يُسْتَنْبَطُ بِأَمَارَاتٍ وَدَلَائِلَ، وَالْحِكْمَةُ فِي نُزُولِ الْقُرْآنِ مُحْتَاجًا إِلَى تَفْسِيرٍ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يَتَفَكَّرَ عِبَادُهُ فِي كِتَابِهِ؛ فَلَمْ يَأْمُرْ نَبِيَّهُ بِالتَّنْصِيصِ عَلَى الْمُرَادِ؛ وَإِنَّمَا هُوَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- صَوَّبَ رَأْيَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، فَصَارَ ذَلِكَ دَلِيلًا قَاطِعًا عَلَى جَوَازِ التَّفْسِيرِ مِنْ غَيْرِ سَمَاعٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ". قَالَ: " وَاعْلَمْ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَفْتَخِرُ وَيَقُولُ: كَتَبْتُ هَذَا، وَمَا طَالَعْتُ شَيْئًا مِنَ الْكُتُبِ، وَيَظُنُّ أَنَّهُ فَخْرٌ؛ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ غَايَةُ النَّقْصِ، فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَزِيَّةَ مَا قَالَهُ عَلَى مَا قِيلَ، وَلَا مَزِيَّةَ مَا قِيلَ عَلَى مَا قَالَهُ، فَبِمَاذَا يَفْتَخِرُ؟! وَمَعَ هَذَا مَا كَتَبْتُ شَيْئًا إِلَّا خَائِفًا مِنَ اللَّهِ مُسْتَعِينًا بِهِ، مُعْتَمِدًا عَلَيْهِ; فَمَا كَانَ حَسَنًا فَمِنَ اللَّهِ وَفَضْلِهِ بِوَسِيلَةِ مُطَالَعَةِ كَلَامِ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، وَمَا كَانَ ضَعِيفًا فَمِنَ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ ".
ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي كِتَابِ " قَانُونِ التَّأْوِيلِ ": " إِنَّ عُلُومَ الْقُرْآنِ خَمْسُونَ عِلْمًا وَأَرْبَعُمِائَةٍ وَسَبْعَةُ آلَافِ عِلْمٍ وَسَبْعُونَ أَلْفَ عِلْمٍ، عَلَى عَدَدِ كَلِمِ الْقُرْآنِ مَضْرُوبَةً فِي أَرْبَعَةٍ. قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِذْ لِكُلِّ كَلِمَةٍ ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ وَحَدٌّ وَمَقْطَعٌ، وَهَذَا مُطْلَقٌ دُونَ اعْتِبَارِ تَرَاكِيبِهِ وَمَا بَيْنَهَا مِنْ رَوَابِطَ. وَهَذَا مَا لَا يُحْصَى وَلَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ: " وَأُمُّ [ عُلُومِ] الْقُرْآنِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: تَوْحِيدٌ وَتَذْكِيرٌ وَأَحْكَامٌ، فَالتَّوْحِيدُ تَدْخُلُ فِيهِ مَعْرِفَةُ الْمَخْلُوقَاتِ وَمَعْرِفَةُ الْخَالِقِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ. وَالتَّذْكِيرُ، وَمِنْهُ الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ، وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ، وَتَصْفِيَةُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ. وَالْأَحْكَامُ، وَمِنْهَا التَّكَالِيفُ كُلُّهَا وَتَبْيِينُ الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالنَّدْبُ ". فَالْأَوَّلُ: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (الْبَقَرَةِ: 163)، فِيهِ التَّوْحِيدُ كُلُّهُ فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ. وَالثَّانِي: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (الذَّارِيَاتِ: 55). وَالثَّالِثُ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ} (الْمَائِدَةِ: 49)؛ وَلِذَلِكَ قِيلَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الْإِخْلَاصِ: 1) تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ. يَعْنِي فِي الْأَجْرِ، وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وَقِيلَ ثُلُثُهُ فِي الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ كَمَا ذَكَرْنَا. وَهَذِهِ السُّورَةُ اشْتَمَلَتْ عَلَى التَّوْحِيدِ ". وَلِهَذَا الْمَعْنَى صَارَتْ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ أُمَّ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ فِيهَا الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ: فَأَمَّا التَّوْحِيدُ فَمِنْ أَوَّلِهَا إِلَى قَوْلِهِ: {يَوْمِ الدِّينِ}. وَأَمَّا الْأَحْكَامُ فَـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، وَأَمَّا التَّذْكِيرُ فَمِنْ قَوْلِهِ: {اهْدِنَا} إِلَى آخِرِهَا، فَصَارَتْ بِهَذَا أُمًّا؛ لِأَنَّهُ يَتَفَرَّعُ عَنْهَا كُلُّ نَبْتٍ. وَقِيلَ: صَارَتْ أُمًّا لِأَنَّهَا مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْقُرْآنِ بِالْقَبْلِيَّةِ، وَالْأُمُّ قَبْلَ الْبِنْتِ. وَقِيلَ: سُمِّيَتْ فَاتِحَةً لِأَنَّهَا تَفْتَحُ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ عَلَى وُجُوهٍ مَذْكُورَةٍ فِي مَوَاضِعِهَا ". وَقَالَ أَبُو الْحَكَمِ بْنُ بَرَّجَانَ فِي كِتَابِ " الْإِرْشَادِ ": " وَجُمْلَةُ الْقُرْآنِ تَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ عُلُومٍ: عِلْمِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ، ثُمَّ عِلْمِ النُّبُوَّةِ وَبَرَاهِينِهَا، ثُمَّ عِلْمِ التَّكْلِيفِ وَالْمِحْنَةِ ". قَالَ: " وَهُوَ أَعْسَرُ لِإِغْرَابِهِ وَقِلَّةِ انْصِرَافِ الْهِمَمِ إِلَى تَطَلُّبِهِ مِنْ مَكَانِهِ ". وَقَالَ غَيْرُهُ: الْقُرْآنُ يَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الْعُلُومِ: أَمْرٍ، وَنَهْيٍ، وَخَبَرٍ وَاسْتِخْبَارٍ- وَقِيلَ سِتَّةٌ- وَزَادَ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: " يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: التَّوْحِيدِ، وَالْأَخْبَارِ، وَالدِّيَانَاتِ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الْإِخْلَاصِ: 1) تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ. وَهَذِهِ السُّورَةُ تَشْمَلُ التَّوْحِيدَ كُلَّهُ ". وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: " الْقُرْآنُ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثِينَ شَيْئًا: الْإِعْلَامِ وَالتَّنْبِيهِ، وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَوَصْفِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَتَعْلِيمِ الْإِقْرَارِ بِاسْمِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَتَعْلِيمِ الِاعْتِرَافِ بِإِنْعَامِهِ، وَالِاحْتِجَاجِ عَلَى الْمُخَالِفِينَ، وَالرَّدِّ عَلَى الْمُلْحِدِينَ، وَالْبَيَانِ عَنِ الرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ، وَنَعْتِ الْحِكْمَةِ، وَفَضْلِ الْمَعْرِفَةِ، وَمَدْحِ الْأَبْرَارِ وَذَمِّ الْفُجَّارِ، وَالتَّسْلِيمِ وَالتَّحْسِينِ، وَالتَّوْكِيدِ وَالتَّقْرِيعِ، وَالْبَيَانِ عَنْ ذَمِّ الْإِخْلَافِ وَشَرَفِ الْأَدَاءِ ". قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْمَعَالِي عَزِيزِي: " وَعَلَى التَّحْقِيقِ أَنَّ تِلْكَ الثَّلَاثَةَ الَّتِي قَالَهَا مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ تَشْمَلُ هَذِهِ كُلَّهَا بَلْ أَضْعَافَهَا؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ لَا يُسْتَدْرَكُ وَلَا تُحْصَى غَرَائِبُهُ وَعَجَائِبُهُ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} (الْأَنْعَامِ: 59) ". وَقَالَ غَيْرُهُ: عُلُومُ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ أَرْبَعَةٌ: الْإِعْرَابُ؛ وَهُوَ فِي الْخَبَرِ. وَالنَّظْمُ؛ وَهُوَ الْقَصْدُ، نَحْوَ: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} (الطَّلَاقِ: 4)، مَعْنًى بَاطِنٌ نُظِمَ بِمَعْنًى ظَاهِرٍ. وَقَوْلُهُ: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ} (يُونُسَ: 34)، كَأَنَّهُ قِيلَ: قَالُوا: وَمَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ؟ فَأُمِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ: {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ} (يُونُسَ: 34)، لَفْظٌ ظَاهِرٌ نُظِمَ بِمَعْنًى بَاطِنٍ. وَالتَّصْرِيفُ فِي الْكَلِمَةِ؛ كَأَقْسَطَ: عَدَلَ، وَقَسَطَ: جَارَ. وَبَعُدَ: ضِدُّ قَرُبَ، وَبَعِدَ: هَلَكَ. وَالِاعْتِبَارُ؛ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ مِعْيَارُ الْأَنْحَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَبِهِ يَكُونُ الِاسْتِنْبَاطُ وَالِاسْتِدْلَالُ، وَهُوَ كَثِيرٌ، مِنْهُ مَا يُعْرَفُ بِفَحْوَى الْخِطَابِ. وَمَعْنَى اعْتَبَرْتُ الشَّيْءَ طَلَبْتُ بَيَانَهُ، عَبَّرْتُ الرُّؤْيَا: بَيَّنْتُهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا} (الْحَشْرِ: 2) بَعْدَ: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ} (الْحَشْرِ: 2) دَلَّ عَلَى أَنَّ انْتِقَامَهُ بِالْخُرُوجِ مِنَ الدَّارِ مِنْ أَعْظَمِ الْوُجُوهِ، وَ {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} (الْحَشْرِ: 2) دَلَّ عَلَى أَنَّ لَهَا تَوَابِعَ؛ لِأَنَّ " أَوَّلَ " لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ " آخِرَ "؛ وَكَانَ هَذَا فِي بَنِي النَّضِيرِ ثُمَّ أَهْلِ نَجْرَانَ. {مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا} (الْحَشْرِ: 2) إِلَّا بِنَبَأٍ، وَأَنَّهُمْ يَسْتَقِلُّونَ عَدَدَ مَنْ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ} (الْحَشْرِ: 3) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِخْرَاجَ فِي الشِّدَّةِ مِثْلُ الْعَذَابِ؛ إِذْ جُعِلَ بَدَلَهُ. وَقَدْ يَتَعَدَّدُ الِاعْتِبَارُ؛ نَحْوُ: أَتَانِي غَيْرُ زَيْدٍ، أَيْ أَتَيَاهُ، أَوْ أَتَاهُ غَيْرُ زَيْدٍ، لَا هُوَ. لَوْ شِئْتَ أَنْتَ لَمْ أَفْعَلْ، أَيْ أَنْتَ أَمَرْتَنِي أَوْ نَهَيْتَنِي؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا} (النَّحْلِ: 35) رَدٌّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} (الْأَعْرَافِ: 28)، {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} (الْمَائِدَةِ: 2) فَالِاعْتِبَارُ إِبَاحَةٌ. وَمِنَ الِاعْتِبَارِ مَا يَظْهَرُ بِآيٍ أُخَرَ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} (فَاطِرٍ: 45)، فَهَذِهِ تُعْتَبَرُ بِآخِرِ الْوَاقِعَةِ (الْآيَاتِ: 88- 96)؛ مِنْ أَنَّ النَّاسَ عَلَى ثَلَاثَةِ مَنَازِلَ؛ أَيْ أَحَلَّ كُلُّ فَرِيقٍ فِي مَنْزِلَةٍ لَهُ، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَنَازِلِهِمْ. وَمِنْهُ مَا يَظْهَرُ بِالْخَبَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ} (الْبَقَرَةِ: 97) بِمَعْنَى الْحَدِيثِ: إِنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: لَوْ جَاءَ بِهِ مِيكَائِيلُ لَاتَّبَعْنَاكَ، لِأَنَّهُ يَأْتِي بِالْخَيْرِ، وَجِبْرِيلُ لَمْ يَأْتِ بِالْخَيْرِ قَطُّ وَأَيُّ خَيْرٍ أَجَلُّ مِنَ الْقُرْآنِ. وَمِنْ ضُرُوبِ النَّظْمِ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ} (فَاطِرٍ: 10)، إِنْ حُمِلَ عَلَى أَنْ يَعْتَبِرَ أَنَّ الْعِزَّةَ لَهُ لَمْ يَنْتَظِمْ بِهِ مَا بَعْدَهُ، وَإِنْ حُمِلَ عَلَى مَعْنَى أَنْ يَعْلَمَ لِمَنِ الْعِزَّةُ انْتَظَمَ.
وَقَدِ اعْتَنَى بِذَلِكَ الْمُفَسِّرُونَ فِي كُتُبِهِمْ، وَأَفْرَدُوا فِيهِ تَصَانِيفَ؛ مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ، وَمِنْ أَشْهَرِهَا تَصْنِيفُ الْوَاحِدِيِّ فِي ذَلِكَ. وَأَخْطَأَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ لِجَرَيَانِهِ مَجْرَى التَّارِيخِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ لَهُ فَوَائِدُ: مِنْهَا وَجْهُ الْحِكْمَةِ الْبَاعِثَةِ عَلَى تَشْرِيعِ الْحُكْمِ. وَمِنْهَا تَخْصِيصُ الْحُكْمِ بِهِ عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِخُصُوصِ السَّبَبِ. وَمِنْهَا الْوُقُوفُ عَلَى الْمَعْنَى، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَتْحَ الْقُشَيْرِيُّ: " بَيَانُ سَبَبِ النُّزُولِ طَرِيقٌ قَوِيٌّ فِي فَهْمِ مَعَانِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ "، وَهُوَ أَمْرٌ تَحَصَّلَ لِلصَّحَابَةِ بِقَرَائِنَ تَحْتَفُّ بِالْقَضَايَا. وَمِنْهَا أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ اللَّفْظُ عَامًّا، وَيَقُومُ الدَّلِيلُ عَلَى التَّخْصِيصِ، فَإِنَّ مَحَلَّ السَّبَبِ لَا يَجُوزُ إِخْرَاجُهُ بِالِاجْتِهَادِ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي " مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ "؛ لِأَنَّ دُخُولَ السَّبَبِ قَطْعِيٌّ. وَنَقَلَ بَعْضُهُمُ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ لِتَقَدُّمِ السَّبَبِ عَلَى وُرُودِ الْعُمُومِ أَثَرًا. وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ مِنْ تَجْوِيزِ إِخْرَاجِ مَحَلِّ السَّبَبِ بِالتَّخْصِيصِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَلَا يَجُوزُ. وَالثَّانِي: أَنَّ فِيهِ عُدُولًا عَنْ مَحَلِّ السُّؤَالِ؛ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي حَقِّ الشَّارِعِ؛ لِئَلَّا يَلْتَبِسَ عَلَى السَّائِلِ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ تُعْتَبَرُ النُّصُوصِيَّةُ فِي السَّبَبِ مِنْ جِهَةِ اسْتِحَالَةِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَتُؤَثِّرُ أَيْضًا فِيمَا وَرَاءَ مَحَلِّ السَّبَبِ، وَهُوَ إِبْطَالُ الدَّلَالَةِ عَلَى قَوْلٍ، وَالضَّعْفُ عَلَى قَوْلٍ. وَمِنَ الْفَوَائِدِ أَيْضًا دَفْعُ تَوَهُّمِ الْحَصْرِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ مَا مَعْنَاهُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} (الْأَنْعَامِ: 145) الْآيَةَ: إِنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا حَرَّمُوا مَا أَحَلَّ اللَّهُ، وَأَحَلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَكَانُوا عَلَى الْمُضَادَّةِ وَالْمُحَادَّةِ فَجَاءَتِ الْآيَةُ مُنَاقِضَةً لِغَرَضِهِمْ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا حَلَالَ إِلَّا مَا حَرَّمْتُمُوهُ، وَلَا حَرَامَ إِلَّا مَا أَحْلَلْتُمُوهُ، نَازِلًا مَنْزِلَةَ مَنْ يَقُولُ: لَا تَأْكُلِ الْيَوْمَ حَلَاوَةً، فَتَقُولُ: لَا آكُلُ الْيَوْمَ إِلَّا الْحَلَاوَةَ، وَالْغَرَضُ الْمُضَادَّةُ لَا النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا حَرَامَ إِلَّا مَا حَلَّلْتُمُوهُ مِنَ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ، وَلَمْ يَقْصِدْ حِلَّ مَا وَرَاءَهُ، إِذِ الْقَصْدُ إِثْبَاتُ التَّحْرِيمِ لَا إِثْبَاتُ الْحِلِّ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: " وَهَذَا فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، وَلَوْلَا سَبْقُ الشَّافِعِيِّ إِلَى ذَلِكَ لَمَا كُنَّا نَسْتَجِيزُ مُخَالَفَةَ مَالِكٍ فِي حَصْرِ الْمُحَرَّمَاتِ فِيمَا ذَكَرَتْهُ الْآيَةُ. وَهَذَا قَدْ يَكُونُ مِنَ الشَّافِعِيِّ أَجْرَاهُ مَجْرَى التَّأْوِيلِ ". وَمَنْ قَالَ بِمُرَاعَاةِ اللَّفْظِ دُونَ سَبَبِهِ لَا يَمْنَعُ مِنَ التَّأْوِيلِ. وَقَدْ جَاءَتْ آيَاتٌ فِي مَوَاضِعَ اتَّفَقُوا عَلَى تَعْدِيَتِهَا إِلَى غَيْرِ أَسْبَابِهَا؛ كَنُزُولِ آيَةِ الظِّهَارِ فِي سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ وَآيَةِ اللَّعَّانِ فِي شَأْنِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ،........ وَنُزُولِ حَدِّ الْقَذْفِ فِي رُمَاةِ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- ثُمَّ تَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِمْ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} (النُّورِ: 4)، فَجَمَعَهَا مَعَ غَيْرِهَا، إِمَّا تَعْظِيمًا لَهَا إِذْ أَنَّهَا أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ- وَمَنْ رَمَى أُمَّ قَوْمٍ فَقَدْ رَمَاهُمْ- وَإِمَّا لِلْإِشَارَةِ إِلَى التَّعْمِيمِ، وَلَكِنَّ الرُّمَاةَ لَهَا كَانُوا مَعْلُومِينَ، فَتَعَدَّى الْحُكْمُ إِلَى مَنْ سِوَاهُمْ، فَمَنْ يَقُولُ بِمُرَاعَاةِ حُكْمِ اللَّفْظِ كَانَ الِاتِّفَاقُ هَاهُنَا هُوَ مُقْتَضَى الْأَصْلِ، وَمَنْ قَالَ بِالْقَصْرِ عَلَى الْأَصْلِ خَرَجَ عَنِ الْأَصْلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِدَلِيلٍ. وَنَظِيرُ هَذَا تَخْصِيصُ الِاسْتِعَاذَةِ بِالْإِنَاثِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} (الْفَلَقِ: 4) لِخُرُوجِهِ عَلَى السَّبَبِ؛ وَهُوَ أَنَّ بَنَاتِ لَبِيَدٍ سَحَرْنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كَذَا قَالَ أَبُو عَبِيدٍ: وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الَّذِي سَحَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ. وَقَدْ تَنْزِلُ الْآيَاتُ عَلَى الْأَسْبَابِ خَاصَّةً، وَتُوضَعُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا مَعَ مَا يُنَاسِبُهَا مِنَ الْآيِ رِعَايَةً لِنَظْمِ الْقُرْآنِ وَحُسْنِ السِّيَاقِ، فَذَلِكَ الَّذِي وُضِعَتْ مَعَهُ الْآيَةُ نَازِلَةً عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ لِلْمُنَاسَبَةِ؛ إِذْ كَانَ مَسُوقًا لَمَّا نَزَلَ فِي مَعْنًى يَدْخُلُ تَحْتَ ذَلِكَ اللَّفْظِ الْعَامِّ، أَوْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَفْرَادِ الدَّاخِلَةِ وَضْعًا تَحْتَ اللَّفْظِ الْعَامِّ، فَدَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ: هَلْ هِيَ كَالسَّبَبِ، فَلَا يَخْرُجُ وَيَكُونُ مُرَادًا مِنَ الْآيَاتِ قَطْعًا؟ أَوْ لَا يَنْتَهِي فِي الْقِرَاءَةِ إِلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُرَادُ غَيْرُهُ، وَتَكُونُ الْمُنَاسَبَةُ مُشَبَّهَةً بِهِ؟ فِيهِ احْتِمَالٌ. وَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ رُتْبَةٌ مُتَوَسِّطَةٌ دُونَ السَّبَبِ وَفَوْقَ الْعَامِّ الْمُجَرَّدِ، وَمِثَالُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (النِّسَاءِ: 58) فَإِنَّ مُنَاسَبَتَهَا لِلْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} (النِّسَاءِ: 51) أَنَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، كَانَ قَدِمَ إِلَى مَكَّةَ وَشَاهَدَ قَتْلَى بَدْرٍ وَحَرَّضَ الْكُفَّارَ عَلَى الْأَخْذِ بِثَأْرِهِمْ وَغَزْوِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلُوهُ مَنْ أَهْدَى سَبِيلًا؟ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ هُمْ؟ فَقَالَ: أَنْتُمْ- كَذِبًا مِنْهُ وَضَلَالَةً- لَعَنَهُ اللَّهُ! فَتِلْكَ الْآيَةُ فِي حَقِّهِ وَحَقِّ مَنْ شَارَكَهُ فِي تِلْكَ الْمَقَالَةِ، وَهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ يَجِدُونَ عِنْدَهُمْ فِي كِتَابِهِمْ نَعْتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِفَتَهُ، وَقَدْ أُخِذَتْ عَلَيْهِمُ الْمَوَاثِيقُ أَلَّا يَكْتُمُوا ذَلِكَ وَأَنْ يَنْصُرُوهُ، وَكَانَ ذَلِكَ أَمَانَةً لَازِمَةً لَهُمْ، فَلَمْ يُؤَدُّوهَا، وَخَانُوا فِيهَا، وَذَلِكَ مُنَاسِبٌ لِقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (النِّسَاءِ: 58) قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي " تَفْسِيرِهِ ": " وَجْهُ النُّظُمِ أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ كِتْمَانِ أَهْلِ الْكِتَابِ صِفَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَوْلِهِمْ: إِنِ الْمُشْرِكِينَ أَهْدَى سَبِيلًا، فَكَانَ ذَلِكَ خِيَانَةً مِنْهُمْ، فَانْجَرَّ الْكَلَامُ إِلَى ذِكْرِ جَمِيعِ الْأَمَانَاتِ " انْتَهَى. وَلَا يُرَدُّ عَلَى هَذَا أَنْ قِصَّةَ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ كَانَتْ عَقِبَ بَدْرٍ، وَنُزُولُ {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ} (النِّسَاءِ: 58) فِي الْفَتْحِ أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا وَبَيْنَهُمَا سِتُّ سِنِينَ؛ لِأَنَّ الزَّمَانَ إِنَّمَا يُشْتَرَطُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُنَاسَبَةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا وَضْعُ آيَةٍ فِي مَوْضِعٍ يُنَاسِبُهَا، وَالْآيَاتُ كَانَتْ تَنْزِلُ عَلَى أَسْبَابِهَا، وَيَأْمُرُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَضْعِهَا فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي عَلِمَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهَا مَوَاضِعُهَا. وَمِنْ فَوَائِدِ هَذَا الْعِلْمِ إِزَالَةُ الْإِشْكَالِ، فَفِي " الصَّحِيحِ " عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ: " أَنَّهُ بَعَثَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ: لَئِنْ كَانَ كُلُّ امْرِئٍ فَرِحَ بِمَا أُوتِيَ وَأَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ مُعَذَّبًا، لَنُعَذَّبَنَّ أَجْمَعُونَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، ثُمَّ تَلَا: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} (آلِ عِمْرَانَ: 187) إِلَى قَوْلِهِ: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} (آلِ عِمْرَانَ: 188). قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَأَلَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ فَكَتَمُوهُ وَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ، فَخَرَجُوا وَقَدْ أَرَوْهُ أَنْ قَدْ أَخْبَرُوهُ بِمَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ، فَاسْتَحْمَدُوا بِذَلِكَ إِلَيْهِ، وَفَرِحُوا بِمَا أُوتُوا مِنْ كِتْمَانِهِمْ مَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ ". انْتَهَى. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَمَا أَجَابَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ سُؤَالِ مَرْوَانَ لَا يَكْفِي؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ أَعَمُّ مِنَ السَّبَبِ، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ وَإِنَّمَا الْجَوَابُ أَنَّ الْوَعِيدَ مُرَتَّبٌ عَلَى أَثَرِ الْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَهُمَا الْفَرَحُ وَحُبُّ الْحَمْدِ، لَا عَلَيْهِمَا أَنْفُسِهِمَا؛ إِذْ هُمَا مِنَ الْأُمُورِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا التَّكْلِيفُ أَمْرًا وَلَا نَهْيًا. قُلْتُ: لَا يَخْفَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ اللَّفْظَ أَعَمُّ مِنَ السَّبَبِ؛ لَكِنَّهُ بَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِاللَّفْظِ خَاصٌّ وَنَظِيرُهُ تَفْسِيرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّلْمَ بِالشِّرْكِ فِيمَا سَبَقَ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} (الْمَائِدَةِ: 93) الْآيَةَ، فَـ " حُكِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَعَمْرِو بْنِ مَعْدِ يَكَرِبَ أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ: الْخَمْرُ مُبَاحَةٌ، وَيَحْتَجَّانِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَخَفِيَ عَلَيْهَا سَبَبُ نُزُولِهَا؛ فَإِنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ مَا قَالَهُ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ: لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ قَالُوا: كَيْفَ بِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ مَاتُوا وَهِيَ فِي بُطُونِهِمْ. وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهَا رِجْسٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} (الْمَائِدَةِ: 93). وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ} (الطَّلَاقِ: 4) الْآيَةَ، قَدْ أَشْكَلَ مَعْنَى هَذَا الشَّرْطِ عَلَى بَعْضِ الْأَئِمَّةِ، وَقَدْ بَيَّنَهُ سَبَبُ النُّزُولِ، رُوِيَ " أَنَّ نَاسًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَرَفْنَا عِدَّةَ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ، فَمَا عِدَّةُ اللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ مِنَ الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ؟ فَنَزَلَتْ، فَهَذَا يُبَيِّنُ مَعْنَى: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} (الطَّلَاقِ: 4) أَيْ إِنْ أَشْكَلَ عَلَيْكُمْ حُكْمُهُنَّ وَجَهِلْتُمْ كَيْفَ يَعْتَدِدْنَ فَهَذَا حُكْمُهُنَّ ". وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (الْبَقَرَةِ: 115) فَإِنَّا لَوْ تَرَكْنَا مَدْلُولَ اللَّفْظِ لَاقْتَضَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ لَا يَجِبْ عَلَيْهِ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ سَفَرًا وَلَا حَضَرًا، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، فَلَا يُفْهَمُ مُرَادُ الْآيَةِ حَتَّى يُعْلَمَ سَبَبُهَا، وَذَلِكَ " أَنَّهَا نَزَلَتْ لَمَّا صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَهُوَ مُسْتَقْبِلٌ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ " فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ} (التَّغَابُنِ: 14) فَإِنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا: " أَنَّ قَوْمًا أَرَادُوا الْخُرُوجَ لِلْجِهَادِ، فَمَنَعَهُمْ أَزْوَاجُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ ثُمَّ أَنْزَلَ فِي بَقِيَّتِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى الرَّحْمَةِ وَتَرْكِ الْمُؤَاخَذَةَ، فَقَالَ: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (التَّغَابُنِ: 14) ".
وَقَدْ يُنَزَّلُ الشَّيْءَ مَرَّتَيْنِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَتَذْكِيرًا بِهِ عِنْدَ حُدُوثِ سَبَبِهِ خَوْفَ نِسْيَانِهِ، وَهَذَا كَمَا قِيلَ فِي الْفَاتِحَةِ: نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ، مَرَّةً بِمَكَّةَ، وَأُخْرَى بِالْمَدِينَةِ، وَكَمَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ مِنِ امْرَأَةٍ قُبْلَةً فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (هُودٍ: 114)، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَلِي هَذَا؟ فَقَالَ: بَلْ لِجَمِيعِ أُمَّتِي. فَهَذَا كَانَ فِي الْمَدِينَةِ، وَالرَّجُلُ قَدْ ذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ- أَوْ غَيْرُهُ- أَنَّهُ أَبُو الْيُسْرِ، وَسُورَةُ هُودٍ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَلِهَذَا أَشْكَلَ عَلَى بَعْضِهِمْ هَذَا الْحَدِيثُ مَعَ مَا ذَكَرْنَا، وَلَا إِشْكَالَ لِأَنَّهَا نَزَلَتْ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. وَمِثْلُهُ مَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} (الْإِسْرَاءِ: 85) أَنَّهَا نَزَلَتْ لَمَّا سَأَلَهُ الْيَهُودُ عَنِ الرُّوحِ وَهُوَ فِي الْمَدِينَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ فِي سُورَةِ " سُبْحَانَ " وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا سَأَلُوهُ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ وَعَنْ أَهْلِ الْكَهْفِ قَبْلَ ذَلِكَ بِمَكَّةَ وَأَنَّ الْيَهُودَ أَمَرُوهُمْ أَنْ يَسْأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْجَوَابَ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ. وَكَذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الْإِخْلَاصِ: 1) أَنَّهَا جَوَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ، وَأَنَّهَا جَوَابٌ لِأَهْلِ الْكِتَابِ بِالْمَدِينَةِ. وَكَذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ الْمُسَيَّبِ: " لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ؛ وَتَلَكَّأَ عَنِ الشَّهَادَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاللَّهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} (التَّوْبَةِ: 113)، وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَبِي طَالِبٍ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} (الْقَصَصِ: 56) وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي آخِرِ الْأَمْرِ بِالِاتِّفَاقِ، وَمَوْتُ أَبِي طَالِبٍ كَانَ بِمَكَّةَ، فَيُمْكِنُ أَنَّهَا نَزَلَتْ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَجُعِلَتْ أَخِيرًا فِي " بَرَاءَةٌ ". وَالْحِكْمَةُ فِي التَّكْرَارِ فِي الْقُرْآنِ هَذَا كُلِّهِ أَنَّهُ قَدْ يَحْدُثُ سَبَبٌ مِنْ سُؤَالٍ أَوْ حَادِثَةٍ تَقْتَضِي نُزُولَ آيَةٍ، وَقَدْ نَزَلَ قَبْلَ ذَلِكَ مَا يَتَضَمَّنُهَا، فَتُؤَدَّى تِلْكَ الْآيَةُ بِعَيْنِهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِهَا، وَبِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ هَذِهِ، وَالْعَالِمُ قَدْ يَحْدُثُ لَهُ حَوَادِثُ فَيَتَذَكَّرُ أَحَادِيثَ وَآيَاتٍ تَتَضَمَّنُ الْحُكْمَ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ خَطَرَتْ لَهُ تِلْكَ الْحَادِثَةُ قَبْلُ، مَعَ حِفْظِهِ لِذَلِكَ النَّصِّ. وَمَا يَذْكُرُهُ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ أَسْبَابٍ مُتَعَدِّدَةٍ لِنُزُولِ الْآيَةِ قَدْ يَكُونُ مِنْ هَذَا الْبَابِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ عُرِفَ مِنْ عَادَةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا قَالَ: " نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي كَذَا " فَإِنَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَتَضَمَّنُ هَذَا الْحُكْمَ، لَا أَنَّ هَذَا كَانَ السَّبَبَ فِي نُزُولِهَا أَوَّلًا. وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ يَجْعَلُونَ هَذَا مِنَ الْمَرْفُوعِ الْمُسْنَدِ، كَمَا فِي قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} (الْبَقَرَةِ: 223)، وَأَمَّا الْإِمَامُ أَحْمَدُ فَلَمْ يُدْخِلْهُ فِي " الْمُسْنَدِ " وَكَذَلِكَ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، وَجَعَلُوا هَذَا مِمَّا يُقَالُ بِالِاسْتِدْلَالِ وَبِالتَّأْوِيلِ، فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْحُكْمِ بِالْآيَةِ، لَا مِنْ جِنْسِ النَّقْلِ لِمَا وَقَعَ.
وَقَدْ يَكُونُ السَّبَبُ خَاصًّا وَالصِّيغَةُ عَامَّةً فِي الْآيَةِ لِيُنَبَّهَ عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْهُمَزَةِ: " يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ خَاصًّا وَالْوَعِيدُ عَامًّا لِيَتَنَاوَلَ كُلَّ مَنْ بَاشَرَ ذَلِكَ الْقَبِيحَ، وَلِيَكُونَ جَارِيًا مَجْرَى التَّعْرِيضِ بِالْوَارِدِ فِيهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَزْجَرُ لَهُ وَأَنْكَى فِيهِ".
وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ النُّزُولُ سَابِقًا عَلَى الْحُكْمِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} (الْأَعْلَى: 14)، فَإِنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى زَكَاةِ الْفِطْرِ، رَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدِهِ إِلَى ابْنِ عُمَرَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي زَكَاةِ رَمَضَانَ، ثُمَّ أَسْنَدَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: " لَا أَدْرِي مَا وَجْهُ هَذَا التَّأْوِيلِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ وَلَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ عِيدٌ وَلَا زَكَاةٌ ". وَأَجَابَ الْبَغَوِيُّ فِي " تَفْسِيرِهِ " بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النُّزُولُ سَابِقًا عَلَى الْحُكْمِ فِي الْقُرْآنِ كَمَا قَالَ: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} (الْبَلَدِ: 1، 2) فَالسُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، وَظُهُورُ أَثَرِ الْحِلِّ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، حَتَّى قَالَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-: أُحِلَّتْ لِي سَاعَةٌ مِنْ نَهَارٍ. وَكَذَلِكَ نَزَلَ بِمَكَّةَ {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} (الْقَمَرِ: 45) قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: كُنْتُ لَا أَدْرِي أَيَّ الْجَمْعِ يُهْزَمُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} (الْقَمَرِ: 45) ".
فَائِدَةٌ: [مِنْ كِتَابِ الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ فِي بِرِّ الْوَالِدَيْنِ] رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ " الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ " فِي بِرِّ الْوَالِدَيْنِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: " نَزَلَتْ فِي أَرْبَعِ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ نَزَلَتْ فِي سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَزَّ وَجَلَّ: كَانَتْ أُمِّي حَلَفَتْ أَلَّا تَأْكُلَ وَلَا تَشْرَبَ حَتَّى أُفَارِقَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (لُقْمَانَ: 15)، وَالثَّانِيَةُ: أَنِّي كُنْتُ أَخَذْتُ سَيْفًا فَأَعْجَبَنِي فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَبْ لِي هَذَا، فَنَزَلَتْ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} (الْأَنْفَالِ: 1)، وَالثَّالِثَةُ: أَنِّي كُنْتُ مَرِضْتُ فَأَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُقْسِمَ مَالِي أَفَأُوصِي بِالنِّصْفِ؟ فَقَالَ: لَا، فَقُلْتُ: الثُّلُثُ؟ فَسَكَتَ، فَكَانَ الثُّلُثُ بَعْدُ جَائِزًا. وَالرَّابِعَةُ: أَنِّي شَرِبْتُ الْخَمْرَ مَعَ قَوْمٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَضَرَبَ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَنْفِي بِلَحْيَيْ جَمَلٍ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ ". وَاعْلَمْ أَنَّهُ جَرَتْ عَادَةُ الْمُفَسِّرِينَ أَنْ يَبْدَءُوا بِذِكْرِ سَبَبِ النُّزُولِ، وَوَقَعَ الْبَحْثُ فِي أَنَّهُ أَيُّمَا أَوْلَى الْبَدَاءَةُ بِهِ؟ بِتَقَدُّمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ؟ أَوْ بِالْمُنَاسَبَةِ؛ لِأَنَّهَا الْمُصَحِّحَةُ لِنَظْمِ الْكَلَامِ، وَهِيَ سَابِقَةٌ عَلَى النُّزُولِ، وَالتَّحْقِيقُ التَّفْصِيلُ؛ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ مُتَوَقِّفًا عَلَى سَبَبِ النُّزُولِ كَالْآيَةِ السَّابِقَةِ فِي: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (النِّسَاءِ: 58) فَهَذَا يَنْبَغِي فِيهِ تَقْدِيمُ ذِكْرِ السَّبَبِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مِنْ بَابِ تَقْدِيمِ الْوَسَائِلِ عَلَى الْمَقَاصِدِ، وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى ذَلِكَ فَالْأَوْلَى تَقْدِيمُ وَجْهِ الْمُنَاسَبَةِ.
وَقَدْ أَفْرَدَهُ بِالتَّصْنِيفِ الْأُسْتَاذُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ شَيْخُ الشَّيْخِ أَبِي حَيَّانَ. وَتَفْسِيرُ الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ فِيهِ شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنْ ذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُنَاسَبَةَ عِلْمٌ شَرِيفٌ تُحْزَرُ بِهِ الْعُقُولُ وَيُعْرَفُ بِهِ قَدْرُ الْقَائِلِ فِيمَا يَقُولُ. وَالْمُنَاسَبَةُ فِي اللُّغَةِ: الْمُقَارَبَةُ، وَفُلَانٌ يُنَاسِبُ فُلَانًا أَيْ يَقْرُبُ مِنْهُ وَيُشَاكِلُهُ، وَمِنْهُ النَّسِيبُ الَّذِي هُوَ الْقَرِيبُ الْمُتَّصِلُ كَالْأَخَوَيْنِ وَابْنِ الْعَمِّ وَنَحْوِهِ، وَإِنْ كَانَا مُتَنَاسِبَيْنِ بِمَعْنًى رَابِطٍ بَيْنَهُمَا وَهُوَ الْقَرَابَةُ. وَمِنْهُ الْمُنَاسَبَةُ فِي الْعِلَّةِ فِي بَابِ الْقِيَاسِ: الْوَصْفُ الْمُقَارِبُ لِلْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا حَصَلَتْ مُقَارَبَتُهُ لَهُ ظُنَّ عِنْدَ وُجُودِ ذَلِكَ الْوَصْفِ وُجُودُ الْحُكْمِ؛ وَلِهَذَا قِيلَ: الْمُنَاسَبَةُ أَمْرٌ مَعْقُولٌ، إِذَا عُرِضَ عَلَى الْعُقُولِ تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُولِ. وَكَذَلِكَ الْمُنَاسَبَةُ فِي فَوَاتِحِ الْآيِ وَخَوَاتِيمِهَا وَمَرْجِعِهَا- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- إِلَى مَعْنَى ذَلِكَ مَا رَابَطَ بَيْنَهُمَا عَامٌّ أَوْ خَاصٌّ، عَقْلِيٌّ أَوْ حِسِّيٌّ أَوْ خَيَالِيٌّ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَلَاقَاتِ، أَوِ التَّلَازُمِ الذِّهْنِيِّ، كَالسَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ، وَالْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ، وَالنَّظِيرَيْنِ وَالضِّدَّيْنِ وَنَحْوِهِ. أَوِ التَّلَازُمِ الْخَارِجِيِّ كَالْمُرَتَّبِ عَلَى تَرْتِيبِ الْوُجُودِ الْوَاقِعِ فِي بَابِ الْخَبَرِ. وَفَائِدَتُهُ: جَعْلُ أَجْزَاءِ الْكَلَامِ، بَعْضُهَا آخِذٌ بِأَعْنَاقِ بَعْضٍ، فَيَقْوَى بِذَلِكَ الِارْتِبَاطُ وَيَصِيرُ التَّأْلِيفُ حَالُهُ حَالَ الْأَكِيدِ الْبِنَاءِ الْمُحْكَمِ الْمُتَلَائِمِ الْأَجْزَاءِ. وَقَدْ قَلَّ اعْتِنَاءُ الْمُفَسِّرِينَ بِهَذَا النَّوْعِ لِدِقَّتِهِ، وَمِمَّنْ أَكْثَرَ مِنْهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ وَقَالَ فِي تَفْسِيرِهِ: " أَكْثَرُ لَطَائِفِ الْقُرْآنِ مُودَعَةٌ فِي التَّرْتِيبَاتِ وَالرَّوَابِطِ ". وَقَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: مِنْ مَحَاسِنَ الْكَلَامِ أَنْ يَرْتَبِطَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ؛ لِئَلَّا يَكُونَ مُنْقَطِعًا. وَهَذَا النَّوْعُ يُهْمِلُهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَوْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَفَوَائِدُهُ غَزِيرَةٌ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي " سِرَاجِ الْمُرِيدِينَ ": " ارْتِبَاطُ آيِ الْقُرْآنِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ حَتَّى تَكُونَ كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ مُتَّسِقَةَ الْمَعَانِي مُنْتَظِمَةَ الْمَبَانِي عِلْمٌ عَظِيمٌ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ إِلَّا عَالِمٌ وَاحِدٌ عَمِلَ فِيهِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ فَتَحَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَنَا فِيهِ، فَإِنَّا لَمْ نَجِدْ لَهُ حَمَلَةً وَرَأَيْنَا الْخَلْقَ بِأَوْصَافِ الْبَطَلَةِ خَتَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ اللَّهِ، وَرَدَدْنَاهُ إِلَيْهِ ". وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الشَّهْرَبَانِيُّ: " أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ بِبَغْدَادَ عِلْمَ الْمُنَاسَبَةِ وَلَمْ نَكُنْ سَمِعْنَاهُ مَنْ غَيْرِهِ هُوَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ، وَكَانَ غَزِيرَ الْعِلْمِ فِي الشَّرِيعَةِ وَالْأَدَبِ، وَكَانَ يَقُولُ عَلَى الْكُرْسِيِّ إِذَا قُرِئَ عَلَيْهِ: لِمَ جُعِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَى جَنْبِ هَذِهِ؟ وَمَا الْحِكْمَةُ فِي جَعْلِ هَذِهِ السُّورَةِ إِلَى جَنْبِ هَذِهِ السُّورَةِ؟ وَكَانَ يُزْرِي عَلَى عُلَمَاءِ بَغْدَادَ لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِالْمُنَاسَبَةِ " انْتَهَى. وَقَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: " الْمُنَاسَبَةُ عِلْمٌ حَسَنٌ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي حُسْنِ ارْتِبَاطِ الْكَلَامِ أَنْ يَقَعَ فِي أَمْرٍ مُتَّحِدٍ، مُرْتَبِطٍ أَوَّلُهُ بِآخِرِهِ، فَإِنْ وَقَعَ عَلَى أَسْبَابٍ مُخْتَلِفَةٍ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ ارْتِبَاطُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ- قَالَ- وَمَنْ رَبَطَ ذَلِكَ فَهُوَ مُتَكَلِّفٌ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا بِرَبْطٍ رَكِيكٍ يُصَانُ عَنْ مِثْلِهِ حَسَنُ الْحَدِيثِ فَضْلًا عَنْ أَحْسَنِهِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ فِي نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً فِي أَحْكَامٍ مُخْتَلِفَةٍ وَلِأَسْبَابِ مُخْتَلِفَةٍ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى رَبْطُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، إِذْ لَا يَحْسُنُ أَنْ يَرْتَبِطَ تَصَرُّفُ الْإِلَهِ فِي خَلْقِهِ وَأَحْكَامِهِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، مَعَ اخْتِلَافِ الْعِلَلِ وَالْأَسْبَابِ، كَتَصَرُّفِ الْمُلُوكِ وَالْحُكَّامِ وَالْمُفْتِينَ، وَتَصَرُّفِ الْإِنْسَانِ نَفْسِهِ بِأُمُورٍ مُتَوَافِقَةٍ وَمُتَخَالِفَةٍ وَمُتَضَادَّةٍ. وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَطْلُبَ رَبْطَ بَعْضِ تِلْكَ التَّصَرُّفَاتِ مَعَ بَعْضٍ مَعَ اخْتِلَافِهَا فِي نَفْسِهَا وَاخْتِلَافِ أَوْقَاتِهَا " انْتَهَى. قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا الْمُحَقِّقِينَ: " قَدْ وَهِمَ مَنْ قَالَ: لَا يُطْلَبُ لِلْآيِ الْكَرِيمَةِ مُنَاسَبَةٌ؛ لِأَنَّهَا حَسَبُ الْوَقَائِعِ الْمُتَفَرِّقَةِ، وَفَصْلُ الْخِطَابِ أَنَّهَا عَلَى حَسَبِ الْوَقَائِعِ تَنْزِيلًا، وَعَلَى حَسَبِ الْحِكْمَةِ تَرْتِيبًا وَتَأْصِيلًا، فَالْمُصْحَفُ كَالصُّحُفِ الْكَرِيمَةِ عَلَى وَفْقِ مَا فِي الْكِتَابِ الْمَكْنُونِ، مُرَتَّبَةً سُوَرُهُ كُلُّهَا وَآيَاتُهُ بِالتَّوْقِيفِ. وَحَافِظُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ لَوِ اسْتُفْتِيَ فِي أَحْكَامٍ مُتَعَدِّدَةٍ أَوْ نَاظَرَ فِيهَا أَوْ أَمْلَاهَا لَذَكَرَ آيَةَ كُلِّ حُكْمٍ عَلَى مَا سُئِلَ، وَإِذَا رَجَعَ إِلَى التِّلَاوَةِ لَمْ يَتْلُ كَمَا أَفْتَى، وَلَا كَمَا نَزَلَ مُفَرَّقًا، بَلْ كَمَا أُنْزِلَ جُمْلَةً إِلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ. وَمِنَ الْمُعْجِزِ الْبَيِّنِ أُسْلُوبُهُ، وَنَظْمُهُ الْبَاهِرُ، فَإِنَّهُ {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (هُودٍ: 1). قَالَ: وَالَّذِي يَنْبَغِي فِي كُلِّ آيَةٍ أَنْ يُبْحَثَ أَوَّلَ كُلِّ شَيْءٍ عَنْ كَوْنِهَا مُكَمِّلَةً لِمَا قَبْلَهَا أَوْ مُسْتَقِلَّةً، ثُمَّ الْمُسْتَقِلَّةُ مَا وَجْهُ مُنَاسَبَتِهَا لِمَا قَبْلَهَا؟ فَفِي ذَلِكَ عِلْمٌ جَمٌّ، وَهَكَذَا فِي السُّوَرِ يُطْلَبُ وَجْهُ اتِّصَالِهَا بِمَا قَبْلَهَا وَمَا سِيقَتْ لَهُ ". قُلْتُ: وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ تَرْتِيبَ السُّوَرِ تَوْقِيفِيٌّ، وَهُوَ الرَّاجِحُ كَمَا سَيَأْتِي، وَإِذَا اعْتَبَرْتَ افْتِتَاحَ كُلِّ سُورِهِ وَجَدْتَهُ فِي غَايَةِ الْمُنَاسَبَةِ لِمَا خَتَمَ بِهِ السُّورَةَ قَبْلَهَا، ثُمَّ هُوَ يَخْفَى تَارَةً وَيَظْهَرُ أُخْرَى كَافْتِتَاحِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ بِالْحَمْدِ، فَإِنَّهُ مُنَاسِبٌ لِخِتَامِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ مَنْ فَصْلِ الْقَضَاءِ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الزُّمَرِ: 75) وَكَافْتِتَاحِ سُورَةِ فَاطِرٍ بِـ {الْحَمْدُ} أَيْضًا، فَإِنَّهُ مُنَاسِبٌ لِخِتَامِ مَا قَبْلَهَا مِنْ قَوْلِهِ: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} (سَبَأٍ: 54)، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الْأَنْعَامِ: 45). وَكَافْتِتَاحِ سُورَةِ الْحَدِيدِ بِالتَّسْبِيحِ، فَإِنَّهُ مُنَاسِبٌ لِخِتَامِ سُورَةِ الْوَاقِعَةِ لِلْأَمْرِ بِهِ. وَكَافْتِتَاحِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِقَوْلِهِ: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} (الْآيَةَ: 1وَ2)، فَإِنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى {الصِّرَاطَ} فِي قَوْلِهِ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (الْفَاتِحَةِ: 6) كَأَنَّهُمْ لَمَّا سَأَلُوا الْهِدَايَةَ إِلَى {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} قِيلَ لَهُمْ: ذَلِكَ الصِّرَاطُ الَّذِي سَأَلْتُمُ الْهِدَايَةَ إِلَيْهِ هُوَ {الْكِتَابُ} وَهَذَا مَعْنًى حَسَنٌ يَظْهَرُ فِيهِ ارْتِبَاطُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِالْفَاتِحَةِ، وَهُوَ يَرُدُّ سُؤَالَ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي ذَلِكَ. وَتَأَمَّلِ ارْتِبَاطَ سُورَةِ {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} بِسُورَةِ الْفِيلِ؛ حَتَّى قَالَ الْأَخْفَشُ: اتِّصَالُهَا بِهَا مِنْ بَابِ قَوْلِهِ: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} (الْقَصَصِ: 8). وَمِنْ لَطَائِفِ سُورَةِ الْكَوْثَرِ أَنَّهَا كَالْمُقَابِلَةِ لِلَّتِي قَبْلَهَا؛ لِأَنَّ السَّابِقَةَ قَدْ وَصَفَ اللَّهُ فِيهَا الْمُنَافِقَ بِأُمُورٍ أَرْبَعَةٍ: الْبُخْلِ، وَتَرْكِ الصَّلَاةِ، وَالرِّيَاءِ فِيهَا، وَمَنْعِ الزَّكَاةِ، فَذَكَرَ هُنَا فِي مُقَابَلَةِ الْبُخْلِ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (الْكَوْثَرِ: 1) أَيِ الْكَثِيرَ. وَفِي مُقَابَلَةِ تَرْكِ الصَّلَاةِ {فَصَلِّ} أَيْ دُمْ عَلَيْهَا، وَفِي مُقَابَلَةِ الرِّيَاءِ {لِرَبِّكَ} أَيْ لِرِضَاهُ لَا لِلنَّاسِ، وَفِي مُقَابَلَةِ مَنْعِ الْمَاعُونِ: {وَانْحَرْ}، وَأَرَادَ بِهِ التَّصَدُّقَ بِلَحْمِ الْأَضَاحِيِّ، فَاعْتَبَرَ هَذِهِ الْمُنَاسَبَةَ الْعَجِيبَةَ. وَكَذَلِكَ مُنَاسَبَةُ فَاتِحَةِ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ بِالتَّسْبِيحِ، وَسُورَةِ الْكَهْفِ بِالتَّحْمِيدِ؛ لِأَنَّ التَّسْبِيحَ حَيْثُ جَاءَ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّحْمِيدِ، يُقَالُ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ كَمَالُ الدِّينِ الزَّمْلَكَانِيُّ فِي بَعْضِ دُرُوسِهِ مُنَاسَبَةَ اسْتِفْتَاحِهِمَا بِذَلِكَ مَا مُلَخَّصُهُ: أَنَّ سُورَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ افْتُتِحَتْ بِحَدِيثِ الْإِسْرَاءِ، وَهُوَ مِنَ الْخَوَارِقِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَالْمُشْرِكُونَ كَذَّبُوا ذَلِكَ وَقَالُوا: كَيْفَ يَسِيرُ فِي لَيْلَةٍ مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ! وَعَانَدُوا وَتَعَنَّتُوا وَقَالُوا: صِفْ لَنَا بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَرُفِعَ لَهُ حَتَّى وَصْفَهُ لَهُمْ. وَالسَّبَبُ فِي الْإِسْرَاءِ أَوَّلًا لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ لِيَكُونَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ بِصُعُودِ السَّمَاوَاتِ، فَافْتُتِحَتْ بِالتَّسْبِيحِ تَصْدِيقًا لِنَبِيِّهِ فِيمَا ادَّعَاهُ؛ لِأَنَّ تَكْذِيبَهُمْ لَهُ تَكْذِيبُ عِنَادٍ، فَنَزَّهَ نَفْسَهُ قَبْلَ الْإِخْبَارِ بِهَذَا الَّذِي كَذَّبُوهُ، وَأَمَّا الْكَهْفُ فَإِنَّهُ لَمَّا احْتَبَسَ الْوَحْيُ، وَأَرْجَفَ الْكُفَّارُ بِسَبَبِ ذَلِكَ أَنْزَلَهَا اللَّهُ رَدًّا عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ لَمْ يَقْطَعْ نِعْمَتَهُ عَنْ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ أَتَمَّ عَلَيْهِ بِإِنْزَالِ الْكِتَابِ فَنَاسَبَ افْتِتَاحُهَا بِالْحَمْدِ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى السُّوَرِ، فَمَا ظَنُّكَ بِالْآيَاتِ وَتَعَلُّقِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ! بَلْ عِنْدَ التَّأَمُّلِ يَظْهَرُ أَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ. * * *
عُدْنَا إِلَى ذِكْرِ ارْتِبَاطِ الْآيِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ. فَنَقُولُ: ذِكْرُ الْآيَةِ بَعْدَ الْأُخْرَى؛ إِمَّا أَنْ يَظْهَرَ الِارْتِبَاطُ بَيْنَهُمَا لِتَعَلُّقِ الْكَلَامِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ وَعَدَمِ تَمَامِهِ بِالْأُولَى فَوَاضِحٌ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الثَّانِيَةُ لِلْأُولَى عَلَى جِهَةِ التَّأْكِيدِ وَالتَّفْسِيرِ أَوِ الِاعْتِرَاضِ وَالتَّشْدِيدِ، وَهَذَا الْقِسْمُ لَا كَلَامَ فِيهِ. وَإِمَّا أَلَّا يَظْهَرَ الِارْتِبَاطُ، بَلْ يَظْهَرُ أَنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٌ عَنِ الْأُخْرَى، وَأَنَّهَا خِلَافُ النَّوْعِ الْمَبْدُوءِ بِهِ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى مَا قَبْلَهَا بِحَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الْعَطْفِ الْمُشْتَرِكِ فِي الْحُكْمِ أَوْ لَا: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً، وَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ بَيْنَهُمَا جِهَةٌ جَامِعَةٌ عَلَى مَا سَبَقَ تَقْسِيمُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} (الْحَدِيدِ: 4) وَقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (الْبَقَرَةِ: 245)، وَفَائِدَةُ الْعَطْفِ جَعْلُهُمَا كَالنَّظِيرَيْنِ وَالشَّرِيكَيْنِ. وَقَدْ تَكُونُ الْعَلَاقَةُ بَيْنَهُمَا الْمُضَادَّةَ، وَهَذَا كَمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ الرَّحْمَةِ بَعْدَ ذِكْرِ الْعَذَابِ وَالرَّغْبَةِ بَعْدَ الرَّهْبَةِ. وَعَادَةُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ إِذَا ذَكَرَ أَحْكَامًا ذَكَرَ بَعْدَهَا وَعْدًا وَوَعِيدًا؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ بَاعِثًا عَلَى الْعَمَلِ بِمَا سَبَقَ، ثُمَّ يَذْكُرُ آيَاتِ تَوْحِيدٍ وَتَنْزِيهٍ لِيُعْلَمَ عِظَمُ الْآمِرِ وَالنَّاهِي، وَتَأَمَّلْ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ وَالْمَائِدَةِ وَغَيْرَهَا تَجِدْهُ كَذَلِكَ. وَقَدْ تَأْتِي الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَتُشَكِّلُ وَجْهَ الِارْتِبَاطِ فَتَحْتَاجُ إِلَى شَرْحٍ، وَنَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ صُوَرًا يَلْتَحِقُ بِهَا مَا هُوَ فِي مَعْنَاهَا: فَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} (الْبَقَرَةِ: 189) الْآيَةَ، فَقَدْ يُقَالُ: أَيُّ رَابِطٍ بَيْنَ أَحْكَامِ الْأَهِلَّةِ وَبَيْنَ أَحْكَامِ إِتْيَانِ الْبُيُوتِ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: (أَحَدُهَا) كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ عِنْدَ سُؤَالِهِمْ عَنِ الْحِكْمَةِ فِي تَمَامِ الْأَهِلَّةِ وَنُقْصَانِهَا: مَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ فِيهِ حِكْمَةٌ ظَاهِرَةٌ وَمُصْلِحَةٌ لِعِبَادِهِ، فَدَعُوا السُّؤَالَ عَنْهُ، وَانْظُرُوا فِي وَاحِدَةٍ تَفْعَلُونَهَا أَنْتُمْ مِمَّا لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ فِي شَيْءٍ وَأَنْتُمْ تَحْسَبُونَهَا بِرًّا. (الثَّانِي) أَنَّهُ مِنْ بَابِ الِاسْتِطْرَادِ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهَا مَوَاقِيتُ لِلْحَجِّ، وَكَانَ هَذَا مِنْ أَفْعَالِهِمْ فِي الْحَجِّ، فَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ نَاسًا مِنَ الْأَنْصَارِ كَانُوا إِذَا أَحْرَمُوا لَمْ يَدْخُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ حَائِطًا وَلَا دَارًا وَلَا فُسْطَاطًا مِنْ بَابٍ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمَدَرِ نَقَبَ نَقْبًا فِي ظَهْرِ بَيْتِهِ، مِنْهُ يَدْخُلُ وَيَخْرُجُ، أَوْ يَتَّخِذُ سُلَّمًا يَصْعَدُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْوَبَرِ خَرَجَ مِنْ خَلْفِ الْخِبَاءِ فَقِيلَ لَهُمْ: لَيْسَ الْبِرُّ بِتَحَرُّجِكُمْ مِنْ دُخُولِ الْبَابِ لَكِنَّ الْبِرَّ بِرُّ مَنِ اتَّقَى مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَكَانَ مِنْ حَقِّهِمُ السُّؤَالُ عَنْ هَذَا وَتَرْكُهُمُ السُّؤَالَ عَنِ الْأَهِلَّةِ، وَنَظِيرُهُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْجَوَابِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ عَنِ التَّوَضُّؤِ بِمَاءِ الْبَحْرِ فَقَالَ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ. (الثَّالِثُ) أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ التَّمْثِيلِ لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ تَعْكِيسِهِمْ فِي سُؤَالِهِمْ، وَأَنَّ مَثَلَهُمْ كَمَثَلِ مَنْ يَتْرُكُ بَابًا وَيَدْخُلُ مَنْ ظَهْرِ الْبَيْتِ، فَقِيلَ لَهُمْ: لَيْسَ الْبِرُّ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ تَعْكِيسِ الْأَسْئِلَةِ، وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} (الْبَقَرَةِ: 189) أَيْ بَاشِرُوا الْأُمُورَ مِنْ وُجُوهِهَا الَّتِي يَجِبُ أَنْ يُبَاشَرَ عَلَيْهَا، وَلَا تَعْكِسُوا، وَالْمُرَادُ أَنْ يُصَمِّمَ الْقَلْبُ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ أَفْعَالِ اللَّهِ حِكْمَةٌ مِنْهُ وَأَنَّهُ: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الْأَنْبِيَاءِ: 23) فَإِنَّ فِي السُّؤَالِ اتِّهَامًا. وَمِنْهَا قَوْلُهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} (الْإِسْرَاءِ: 1) إِلَى أَنْ قَالَ: {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} (الْإِسْرَاءِ: 2)، فَإِنَّهُ قَدْ يُقَالُ: أَيُّ رَابِطٍ بَيْنَ الْإِسْرَاءِ وَ {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ}؟ وَوَجْهُ اتِّصَالِهَا بِمَا قَبْلَهَا أَنَّ التَّقْدِيرَ أَطْلَعْنَاهُ عَلَى الْغَيْبِ عِيَانًا وَأَخْبَرْنَاهُ بِوَقَائِعِ مَنْ سَلَفَ بَيَانًا لِتَقُومَ أَخْبَارُهُ بِذَلِكَ عَلَى مُعْجِزَتِهِ بُرْهَانًا، أَيْ سُبْحَانَ الَّذِي أَطْلَعَكَ عَلَى بَعْضِ آيَاتِهِ لِتَقُصَّهَا ذِكْرَى، وَأَخْبَرَكَ بِمَا جَرَى لِمُوسَى وَقَوْمِهِ فِي الْكَرَّتَيْنِ لِتَكُونَ قِصَّتُهُمَا آيَةً أُخْرَى، أَوْ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِمُحَمَّدٍ إِلَى رَبِّهِ كَمَا أُسْرِيَ بِمُوسَى مِنْ مِصْرَ حِينَ خَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} (الْإِسْرَاءِ: 3) لِيَتَذَكَّرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ قَدِيمًا حَيْثُ نَجَّاهُمْ مِنَ الْغَرَقِ، إِذْ لَوْ لَمْ يَنْجُ أَبَاهُمْ مِنْ أَبْنَاءِ نُوحٍ لَمَا وُجِدُوا، وَأَخْبَرَهُمْ أَنْ نُوحًا كَانَ عَبْدًا شَكُورًا، وَهُمْ ذُرِّيَّتُهُ، وَالْوَلَدُ سِرُّ أَبِيهِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونُوا شَاكِرِينَ كَأَبِيهِمْ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَسِيرُوا سَيْرَتَهُ فَيَشْكُرُوا. وَتَأَمَّلْ كَيْفَ أَثْنَى عَلَيْهِ وَكَيْفَ تَلِيقُ صِفَتُهُ بِالْفَاصِلَةِ، وَيَتِمُّ النَّظْمُ بِهَا مَعَ خُرُوجِهَا مَخْرَجَ الْمُرُورِ مِنَ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ إِلَى ذِكْرِهِ وَمَدْحِهِ فَشُكْرِهِ، وَأَنْ يَعْتَقِدُوا تَحْرِيمَ تَعْظِيمِ تَخْلِيصِهِ إِيَّاهُمْ مِنَ الطُّوفَانِ بِمَا حَمَلَهُمْ عَلَيْهِ، وَنَجَّاهُمْ مِنْهُ حِينَ أَهْلَكَ مَنْ عَدَاهُمْ، وَقَدْ عَرَّفَهُمْ أَنَّهُ إِنَّمَا يُؤَاخِذُهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَفَسَادِهِمْ فِيمَا سَلَّطَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَتْلِهِمْ، ثُمَّ عَادَ عَلَيْهِمْ بِالْإِحْسَانِ وَالْإِفْضَالِ كَيْ يَتَذَكَّرُوا وَيَعْرِفُوا قَدْرَ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى نُوحٍ الَّذِي وَلَدَهُمْ، وَهُمْ ذُرِّيَّتُهُ، فَلَمَّا جَارُوا إِلَى جَهَالَتِهِمْ وَتَمَرَّدُوا عَادَ عَلَيْهِمُ التَّعْذِيبُ. ثُمَّ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ثَلَاثِ آيَاتٍ بَعْدَ ذَلِكَ مَعْنَى هَذِهِ الْقِصَّةِ بِكَلِمَاتٍ قَلِيلَةِ الْعَدَدِ كَثِيرَةِ الْفَوَائِدِ، لَا يُمْكِنُ شَرْحُهَا إِلَّا بِالتَّفْصِيلِ الْكَثِيرِ وَالْكَلَامِ الْمُطَوَّلِ، مَعَ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ التَّدْرِيجِ الْعَجِيبِ وَالْمَوْعِظَةِ الْعَظِيمَةِ بِقَوْلِهِ: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} (الْإِسْرَاءِ: 7) وَإِنْ لَمْ يَنْقَطِعْ بِذَلِكَ نِظَامُ الْكَلَامِ إِلَى أَنْ خَرَجَ إِلَى قَوْلِهِ: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} (الْإِسْرَاءِ: 8) يَعْنِي إِنْ عُدْتُمْ إِلَى الطَّاعَةِ عُدْنَا إِلَى الْعَفْوِ، ثُمَّ خَرَجَ خُرُوجًا آخَرَ إِلَى حِكْمَةِ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهُ الْآيَةُ الْكُبْرَى. وَعَلَى هَذَا فَقِسِ الِانْتِقَالَ مِنْ مَقَامٍ إِلَى مَقَامٍ، حَتَّى يَنْقَطِعَ الْكَلَامُ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ لَكَ اشْتِمَالُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ عَلَى النَّوْعِ الْمُسَمَّى بِالتَّخَلُّصِ، وَقَدْ أَنْكَرَهُ أَبُو الْعَلَاءِ مُحَمَّدُ بْنُ غَانِمٍ الْمَعْرُوفُ بِالْغَانِمِيِّ وَقَالَ: " لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ مِنْهُ شَيْءٌ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ "، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ. وَمِنْ أَحْسَنِ أَمْثِلَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (النُّورِ: 35) الْآيَةَ، فَإِنَّ فِيهَا خَمْسَ تَخَلُّصَاتٍ: وَذَلِكَ أَنَّهُ جَاءَ بِصِفَةِ النُّورِ وَتَمْثِيلِهِ، ثُمَّ تَخَلَّصَ مِنْهُ إِلَى ذِكْرِ الزُّجَاجَةِ وَصِفَاتِهَا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى ذِكْرِ النُّورِ وَالزَّيْتِ يَسْتَمِدُّ مِنْهُ، ثُمَّ تَخَلَّصَ مِنْهُ إِلَى ذِكْرِ الشَّجَرَةِ، ثُمَّ تَخَلَّصَ مِنْ ذِكْرِهَا إِلَى صِفَةِ الزَّيْتِ، ثُمَّ تَخَلَّصَ مِنْ صِفَةِ الزَّيْتَ إِلَى صِفَةِ النُّورِ وَتَضَاعُفِهِ، ثُمَّ تَخَلَّصَ مِنْهُ إِلَى نِعَمِ اللَّهِ بِالْهُدَى عَلَى مَنْ يَشَاءُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} (الْمَعَارِجِ: 1) الْآيَةَ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ أَوَّلًا عَذَابَ الْكُفَّارِ، وَأَنْ لَا دَافِعَ لَهُ مِنَ اللَّهِ، ثُمَّ تَخَلَّصَ إِلَى قَوْلِهِ: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} (الْمَعَارِجِ: 4) بِوَصْفِ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (الْمَعَارِجِ: 3). وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ} (الشُّعَرَاءِ: 69- 70) إِلَى قَوْلِهِ: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (الشُّعَرَاءِ: 102) فَهَذَا تَخَلُّصٌ مِنْ قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى قَوْمِهِ هَكَذَا، وَتَمَنِّي الْكُفَّارِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ الرُّجُوعَ إِلَى الدُّنْيَا لِيُؤْمِنُوا بِالرُّسُلِ، وَهَذَا تَخَلُّصٌ عَجِيبٌ. وَقَوْلُهُ: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} (الشُّعَرَاءِ: 72- 78). وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ الِانْتِقَالَ مِنْ أَحْوَالِ أَصْنَامِهِمْ إِلَى ذِكْرِ صِفَاتِ اللَّهِ قَالَ: إِنَّ أُولَئِكَ لِي أَعْدَاءٌ إِلَّا اللَّهَ، فَانْتَقَلَ بِطَرِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْفَصِلِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (النَّمْلِ: 23- 26). وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} (الْآيَةَ: 62)؛ وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ التَّخَلُّصِ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلُصَ مِنْ وَصْفِ الْمُخْلِصِينَ وَمَا أَعَدَّ لَهُمْ، إِلَى وَصْفِ الظَّالِمِينَ وَمَا أَعَدَّ لَهُمْ. وَمِنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ ذَكَرَ الْأُمَمَ الْخَالِيَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ الْمَاضِينَ مِنْ آدَمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِلَى أَنِ انْتَهَى إِلَى قِصَّةِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَقَالَ فِي آخِرِهَا: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} (الْآيَةَ: 155) إِلَى {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} (الْآيَةَ: 157) وَهُوَ مِنْ بَدِيعِ التَّخَلُّصِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ حَيْثُ قَصَدَ التَّخَلُّصَ فَلَا بُدَّ مِنَ التَّوْطِئَةِ لَهُ، وَمِنْ بَدِيعِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} (يُوسُفَ: 3) يُشِيرُ إِلَى قِصَّةِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَوَطَّأَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ إِلَى ذِكْرِ الْقِصَّةِ، يُشِيرُ إِلَيْهَا بِهَذِهِ النُّكْتَةِ مِنْ بَابِ الْوَحْيِ وَالرَّمْزِ. وَكَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ مُوَطِّئًا لِلتَّخَلُّصِ إِلَى ذِكْرِ مُبْتَدَأِ خَلْقِ الْمَسِيحِ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا} الْآيَةَ (آلِ عِمْرَانَ: 33). وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (الْبَقَرَةِ: 115)، فَإِنَّهُ قَدْ يُقَالُ: مَا وَجْهُ اتِّصَالِهِ بِمَا قَبْلَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} الْآيَةَ (114)؟ وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ فِي " تَفْسِيرِهِ ": " سَمِعْتُ أَبَا الْحُسَيْنِ الدَّهَّانَ يَقُولُ: وَجْهُ اتِّصَالِهَا هُوَ أَنَّ ذِكْرَ تَخْرِيبِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَدْ سَبَقَ، أَيْ فَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ ذَلِكَ وَاسْتَقْبِلُوهَا، فَإِنَّ لِلَّهِ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ ". وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} الْآيَةَ (الْغَاشِيَةِ: 17- 18)، فَإِنَّهُ يُقَالُ: مَا وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْإِبِلِ وَالسَّمَاءِ وَالْجِبَالِ وَالْأَرْضِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ؟ وَالْجَوَابُ: إِنَّمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَجْرَى الْإِلْفِ وَالْعَادَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَهْلِ الْوَبَرِ؛ فَإِنَّ جُلَّ انْتِفَاعِهِمْ فِي مَعَايِشِهِمْ مِنَ الْإِبِلِ، فَتَكُونُ عِنَايَتُهُمْ مَصْرُوفَةً إِلَيْهَا، وَلَا يَحْصُلُ إِلَّا بِأَنْ تَرْعَى وَتَشْرَبَ، وَذَلِكَ بِنُزُولِ الْمَطَرِ، وَهُوَ سَبَبُ تَقْلِيبِهِمْ وُجُوهَهُمْ فِي السَّمَاءِ، وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ مَأْوًى يُؤْوِيهِمْ وَحِصْنٍ يَتَحَصَّنُونَ بِهِ، وَلَا شَيْءَ فِي ذَلِكَ كَالْجِبَالِ، ثُمَّ لَا غِنًى لَهُمْ- لِتَعَذُّرِ طُولِ مُكْثِهِمْ فِي مَنْزِلٍ- عَنِ التَّنَقُّلِ مِنْ أَرْضٍ إِلَى سِوَاهَا، فَإِذَا نَظَرَ الْبَدَوِيُّ فِي خَيَالِهِ وَجَدَ صُورَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ حَاضِرَةً فِيهِ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ} (الرَّعْدِ: 33) فَيُقَالُ: أَيُّ ارْتِبَاطٍ بَيْنَهُمَا؟ وَجَوَابُهُ: أَنَّ الْمُبْتَدَأَ وَهُوَ " مَنْ " خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ؛ أَيْ أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ تُتْرَكُ عِبَادَتُهُ؟ أَوْ مُعَادِلُ الْهَمْزَةِ تَقْدِيرُهُ: أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ كَمَنْ لَيْسَ بِقَائِمٍ؟ وَوَجْهُ الْعَطْفِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ وَاضِحٌ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْمَعْنَى أَتَتْرُكُ عِبَادَةَ مَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ، وَلَمْ يَكْفِ التَّرْكُ حَتَّى جَعَلُوا لَهُ شُرَكَاءَ! وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي فَالْمَعْنَى: إِذَا انْتَفَتِ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فَكَيْفَ تَجْعَلُونَ لِغَيْرِ الْمُسَاوِي حُكْمَ الْمُسَاوِي؟!. وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} (الْبَقَرَةِ: 258) إِلَى قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} (الْبَقَرَةِ: 258- 259) عَطَفَ قِصَّةً عَلَى قِصَّةٍ، مَعَ أَنَّ شَرْطَ الْعَطْفِ الْمُشَاكَلَةُ، فَلَا يَحْسُنُ فِي نَظِيرِ الْآيَةِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ} (الْفُرْقَانِ: 45) {أَوْ كَالَّذِي} (الْبَقَرَةِ: 259) وَوَجْهُ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُشَابَهَةِ أَنَّ: {أَلَمْ تَرَ} بِمَنْزِلَةِ: هَلْ رَأَيْتَ كَالَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ؟ وَإِنَّمَا كَانَتْ بِمَنْزِلَتِهَا لِأَنَّ {أَلَمْ تَرَ} مُرَكَّبَةٌ مِنْ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَحَرْفِ النَّفْيِ؛ وَلِذَلِكَ يُجَابُ بِبَلَى، وَالِاسْتِفْهَامُ يُعْطِي النَّفْيَ، إِذْ حَقِيقَةُ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ غَيْرُ ثَابِتَةٍ عِنْدَ الْمُسْتَفْهِمِ، وَمِنْ ثَمَّ جَاءَ حَرْفُ الِاسْتِفْهَامِ مَكَانَ حَرْفِ النَّفْيِ، وَنَفْيُ النَّفْيِ إِيجَابٌ، فَصَارَ بِمَثَابَةِ " رَأَيْتَ "، غَيْرَ أَنَّهُ مَقْصُودٌ بِهِ الِاسْتِفْهَامُ، وَلَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُؤْتَى بِحَرْفِهِ لِوُجُودِهِ فِي اللَّفْظِ؛ فَلِذَلِكَ أَعْطَى مَعْنَى: هَلْ رَأَيْتَ. فَإِنْ قُلْتَ: مِنْ أَيْنَ جَاءَتْ " إِلَى " وَ " رَأَيْتَ " يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ؟ أُجِيبُ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى " تَنْظُرُ ". الْقِسْمُ الثَّانِي: أَلَّا تَكُونَ مَعْطُوفَةً، فَلَا بُدَّ مِنْ دِعَامَةٍ تُؤْذِنُ بِاتِّصَالِ الْكَلَامِ، وَهِيَ قَرَائِنُ مَعْنَوِيَّةٌ مُؤْذِنَةٌ بِالرَّبْطِ، وَالْأَوَّلُ مَزْجٌ لَفْظِيٌّ، وَهَذَا مَزْجٌ مَعْنَوِيٌّ، تَنْزِلُ الثَّانِيَةُ مِنَ الْأُولَى مَنْزِلَةَ جُزْئِهَا الثَّانِي، وَلَهُ أَسْبَابٌ: (أَحَدُهَا) التَّنْظِيرُ؛ فَإِنَّ إِلْحَاقَ النَّظِيرِ بِالنَّظِيرِ مِنَ الْقَرَائِنِ الْمَعْنَوِيَّةِ الْمُؤْذِنَةِ بِالرَّبْطِ مِنْ دَأْبِ الْعُقَلَاءِ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} (الْأَنْفَالِ: 5) عَقِبَ قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (الْأَنْفَالِ: 4) فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يَمْضِيَ لِأَمْرِهِ فِي الْغَنَائِمِ عَلَى كُرْهٍ مِنْ أَصْحَابِهِ كَمَا مَضَى لِأَمْرِهِ فِي خُرُوجِهِ مِنْ بَيْتِهِ لِطَلَبِ الْعِيرِ وَهُمْ كَارِهُونَ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْقِتَالِ يَوْمَ بَدْرٍ فِي الْأَنْفَالِ، وَحَاجُّوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَادَلُوهُ، فَكَرِهَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ مَا كَانَ مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّفْلِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ وَأَنْفَذَ أَمْرَهُ بِهَا، وَأَمْرَهُمْ أَنْ يَتَّقُوا اللَّهَ وَيُطِيعُوهُ وَلَا يَعْتَرِضُوا عَلَيْهِ فِيمَا يَفْعَلُهُ مِنْ شَيْءٍ مَا بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ. وَوَصَفَ الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ قَالَ: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} (الْأَنْفَالِ: 5) يُرِيدُ أَنَّ كَرَاهِيَتَهُمْ لِمَا فَعَلْتَهُ مِنَ الْغَنَائِمِ كَكَرَاهَتِهِمْ لِلْخُرُوجِ مَعَكَ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} (الذَّارِيَاتِ: 23). وَقِيلَ: الْكَافُ صِفَةٌ لِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، وَتَأْوِيلُهُ: افْعَلْ فِي الْأَنْفَالِ كَمَا فَعَلْتَ فِي الْخُرُوجِ إِلَى بَدْرٍ، وَإِنْ كَرِهَ الْقَوْمُ ذَلِكَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ} (الْبَقَرَةِ: 151) مَعْنَاهُ: كَمَا أَنْعَمْنَا عَلَيْكُمْ بِإِرْسَالِ رَسُولٍ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، فَكَذَلِكَ أُتِمُّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ؛ فَشَبَّهَ كَرَاهَتَهُمْ مَا جَرَى مِنْ أَمْرِ الْأَنْفَالِ وَقِسْمَتِهَا بِالْكَرَاهَةِ فِي مَخْرَجِهِ مِنْ بَيْتِهِ، وَكُلُّ مَا لَا يَتِمُّ الْكَلَامُ إِلَّا بِهِ مِنْ صِفَةٍ وَصِلَةٍ فَهُوَ مِنْ نَفْسِ الْكَلَامِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ} (الْحِجْرِ: 90) بَعْدَ قَوْلِهِ: {وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} (الْحِجْرِ: 89) فَإِنَّ فِيهِ مَحْذُوفًا؛ كَأَنَّهُ قَالَ: قُلْ أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ، عُقُوبَةً أَوْ عَذَابًا مِثْلَ مَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} (الْقِيَامَةِ: 16)، وَقَدِ اكْتَنَفَهُ مِنْ جَانِبَيْهِ قَوْلُهُ: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} (الْقِيَامَةِ: 14- 15) وَقَوْلُهُ: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} (الْقِيَامَةِ: 20- 21) فَهَذَا مِنْ بَابِ قَوْلِكَ لِلرَّجُلِ وَأَنْتَ تُحَدِّثُهُ بِحَدِيثٍ فَيَنْتَقِلُ عَنْكَ وَيُقْبِلُ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ: أَقْبِلْ عَلَيَّ وَاسْمَعْ مَا أَقُولُ، وَافْهَمْ عَنِّي، وَنَحْوَ هَذَا الْكَلَامِ، ثُمَّ تَصِلُ حَدِيثَكَ فَلَا يَكُونُ بِذَلِكَ خَارِجًا عَنِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ قَاطِعًا لَهُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِهِ مُشَوِّقًا لِلْكَلَامِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِّيًّا لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ، وَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ وَسَمِعَ الْقُرْآنَ حَرَّكَ لِسَانَهُ بِذِكْرِ اللَّهِ، فَقِيلَ لَهُ: تَدَبَّرْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَلَا تَتَلَقَّهُ بِلِسَانِكَ؛ فَإِنَّمَا نَجْمَعُهُ لَكَ وَنَحْفَظُهُ عَلَيْكَ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} (الْآيَةَ: 3) إِلَى قَوْلِهِ: {الْإِسْلَامِ دِينًا} (الْآيَةَ: 3) فَإِنَّ الْكَلَامَ بَعْدَ ذَلِكَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ أَوَّلًا: {ذَلِكُمْ فِسْقٌ} (الْآيَةَ: 3) وَوَسَّطَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ تَرْغِيبًا فِي قَبُولِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَالْعَمَلِ بِهَا، وَالْحَثِّ عَلَى مُخَالَفَةِ الْكُفَّارِ وَمَوْتِ كَلِمَتِهِمْ وَإِكْمَالِ الدِّينِ، وَيَدُلُّ عَلَى اتِّصَالٍ {فَمَنِ اضْطُرَّ} (الْآيَةَ: 3) بِقَوْلِهِ: {ذَلِكُمْ فِسْقٌ} آيَةَ الْأَنْعَامِ: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ} (الْآيَةَ: 145). (الثَّانِي): الْمُضَادَّةُ، مِنَ الْقَرَائِنِ الْمَعْنَوِيَّةِ الْمُؤْذِنَةِ بِالرَّبْطِ وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} (الْآيَةَ: 6) الْآيَةَ، فَإِنَّ أَوَّلَ السُّورَةِ كَانَ حَدِيثًا عَنِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَأَنَّ مِنْ شَأْنِهِ كَيْتَ وَكَيْتَ، وَأَنَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الَّذِينَ مِنْ صِفَاتِهِمْ كَيْتَ وَكَيْتَ، فَرَجَعَ إِلَى الْحَدِيثِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا أَكْمَلَهُ عَقَّبَ بِمَا هُوَ حَدِيثٌ عَنِ الْكُفَّارِ، فَبَيْنَهُمَا جَامِعٌ وَهْمِيٌّ بِالتَّضَادِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَحِكْمَتُهُ التَّشْوِيقُ وَالثُّبُوتُ عَلَى الْأَوَّلِ، كَمَا قِيلَ: " وَبِضِدِّهَا تَتَبَيَّنُ الْأَشْيَاءُ "، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا جَامِعٌ بَعِيدٌ لِأَنَّ كَوْنَهُ حَدِيثًا عَنِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْعَرْضِ لَا بِالذَّاتِ، وَالْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ الَّذِي هُوَ مَسَاقُ الْكَلَامِ إِنَّمَا هُوَ الْحَدِيثُ عَنِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُ مُفْتَتَحُ الْقَوْلِ. قُلْنَا: لَا يُشْتَرَطُ فِي الْجَامِعِ ذَلِكَ، بَلْ يَكْفِي التَّعَلُّقُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ، وَيَكْفِي فِي وَجْهِ الرَّبْطِ مَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ تَأْكِيدُ أَمْرِ الْقُرْآنِ، وَالْعَمَلُ بِهِ وَالْحَثُّ عَلَى الْإِيمَانِ بِهِ، وَلِهَذَا لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} الْآيَةَ (الْبَقَرَةِ: 23) فَرَجَعَ إِلَى الْأَوَّلِ. (الثَّالِثُ): الِاسْتِطْرَادُ؛ مِنَ الْقَرَائِنِ الْمَعْنَوِيَّةِ الْمُؤْذِنَةِ بِالرَّبْطِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} (الْأَعْرَافِ: 26) قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: " هَذِهِ الْآيَةُ وَارِدَةٌ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِطْرَادِ، وَعَقَّبَ ذِكْرَ بُدُوِّ السَّوْآتِ وَخَصْفِ الْوَرَقِ عَلَيْهَا إِظْهَارًا لِلْمِنَّةِ فِيمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنَ اللِّبَاسِ، وَلِمَا فِي الْعُرْيِ وَكَشْفِ الْعَوْرَةِ مِنَ الْمَهَانَةِ وَالْفَضِيحَةِ، وَإِشْعَارًا بِأَنَّ السَّتْرَ بَابٌ عَظِيمٌ مِنْ أَبْوَابِ التَّقْوَى ". وَجَعَلَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي كِتَابِ " إِعْجَازِ الْقُرْآنِ " مِنَ الِاسْتِطْرَادِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}. (النَّحْلِ: 48- 49) وَقَالَ: " كَأَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يَجْرِيَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَسْجُدُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِنْ كَانَ ابْتِدَاءُ الْكَلَامِ فِي أَمْرٍ خَاصٍّ " انْتَهَى، وَفِيهِ نَظَرٌ. وَمِنْهُ الِانْتِقَالُ مِنْ حَدِيثٍ إِلَى آخَرَ تَنْشِيطًا لِلسَّامِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ (ص) بَعْدَ ذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ: {هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} (الْآيَةَ: 49)، فَإِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نَوْعٌ مِنَ الذِّكْرِ لَمَّا انْتَهَى ذِكْرُ الْأَنْبِيَاءِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ التَّنْزِيلِ، أَرَادَ أَنْ يَذْكُرَ نَوْعًا آخَرَ، وَهُوَ ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَأَهْلِهَا فَقَالَ: {هَذَا ذِكْرٌ} فَأَكَّدَ تِلْكَ الْإِخْبَارَاتِ بَاسِمِ الْإِشَارَةِ، تَقُولُ: أُشِيرُ عَلَيْكَ بِكَذَا، ثُمَّ تَقُولُ بَعْدَهُ: هَذَا الَّذِي عِنْدِي وَالْأَمْرُ إِلَيْكَ. وَقَالَ: {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} (الْآيَةَ: 49)، كَمَا يَقُولُ الْمُصَنِّفُ: هَذَا بَابٌ، ثُمَّ يَشْرَعُ فِي بَابٍ آخَرَ. وَلِذَلِكَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ قَالَ: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} (الْآيَةَ: 55).
|