الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الإتقان في علوم القرآن ***
أَفْرَدَهُ بِالتَّصْنِيفِ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَعِ، فَأَوْرَدَ فِيهِ نَحْوَ مِائَةِ نَوْعٍ، وَهِيَ: الْمَجَازُ، وَالِاسْتِعَارَةُ، وَالتَّشْبِيهُ، وَالْكِنَايَةُ، وَالْإِرْدَافُ، وَالتَّمْثِيلُ، وَالْإِيجَازُ، وَالِاتِّسَاعُ، وَالْإِشَارَةُ، وَالْمُسَاوَاةُ، وَالْبَسْطُ، وَالْإِيغَالُ، وَالتَّتْمِيمُ، وَالتَّكْمِيلُ وَالِاحْتِرَاسُ، وَالِاسْتِقْصَاءُ، وَالتَّذْيِيلُ، وَالزِّيَادَةُ، وَالتَّرْدِيدُ، وَالتَّكْرَارُ، وَالتَّفْسِيرُ، وَالْإِيضَاحُ، وَنَفْيُ الشَّيْءِ بِإِيجَابِهِ، وَالْمَذْهَبُ الْكَلَامِيُّ، وَالْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ، وَالْمُنَاقَضَةُ، وَالِانْتِقَالُ، وَالْإِسْجَالُ، وَالتَّسْلِيمُ، وَالتَّمْكِينُ، وَالتَّوْشِيحُ، وَالتَّسْهِيمُ، وَرَدُّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ، وَتَشَابُهُ الْأَطْرَافِ، وَلُزُومُ مَا لَا يَلْزَمُ، وَالتَّخْيِيرُ، وَالتَّسْجِيعُ، وَالتَّسْرِيعُ، وَالْإِبْهَامُ- وَهُوَ التَّوْرِيَةُ- وَالِاسْتِخْدَامُ، وَالِالْتِفَاتُ، وَالِاسْتِطْرَادُ، وَالِاطِّرَادُ، وَالِانْسِجَامُ، وَالْإِدْمَاجُ، وَالِافْتِنَانُ، وَالِاقْتِدَارُ، وَائْتِلَافُ اللَّفْظِ مَعَ اللَّفْظِ، وَائْتِلَافُ اللَّفْظِ مَعَ الْمَعْنَى، وَالِاسْتِدْرَاكُ، وَالِاسْتِثْنَاءُ، وَتَأْكِيدُ الْمَدْحِ بِمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ، وَالتَّخْوِيفُ، وَالتَّغَايُرُ، وَالتَّقْسِيمُ، وَالتَّدْبِيجُ، وَالتَّنْكِيتُ، وَالتَّضْمِينُ، وَالْجِنَاسُ، وَجَمْعُ الْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ، وَحُسْنُ النَّسَقِ، وَعِتَابُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ، وَالْعَكْسُ، وَالْعُنْوَانُ، وَالْفَرَائِدُ، وَالْقَسَمُ، وَالْمُبَالَغَةُ، وَالْمُطَابَقَةُ، وَالْمُقَابَلَةُ، وَالْمُوَارَبَةُ، وَالْمُرَاجَعَةُ، وَالنَّزَاهَةُ، وَالْإِبْدَاعُ، وَالْمُقَارَنَةُ، وَحَسَنُ الِابْتِدَاءِ، وَحَسَنُ الْخِتَامِ، وَحُسْنُ التَّخَلُّصِ، وَالِاسْتِطْرَادُ. فَأَمَّا الْمَجَازُ وَمَا بَعْدَهُ إِلَى الْإِيضَاحِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُهَا فِي أَنْوَاعٍ مُفْرَدَةٍ، وَبَعْضُهَا فِي نَوْعِ الْإِيجَازِ وَالْإِطْنَابِ مَعَ أَنْوَاعٍ أُخَرَ؛ كَالتَّعْرِيضِ، وَالِاحْتِبَاكِ، وَالِاكْتِفَاءِ، وَالطَّرْدِ، وَالْعَكْسِ. وَأَمَّا نَفْيُ الشَّيْءِ بِإِيجَابِه: فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي النَّوْعِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا. وَأَمَّا الْمَذْهَبُ الْكَلَامِيُّ وَالْخَمْسَةُ بَعْدَهُ، فَسَتَأْتِي فِي نَوْعِ الْجَدَلِ مَعَ أَنْوَاعٍ أُخَرَ مَزِيدَةٍ. وَأَمَّا التَّمْكِينُ وَالثَّمَانِيَةُ بَعْدَهُ فَسَتَأْتِي فِي أَنْوَاعِ الْفَوَاصِلِ. وَأَمَّا حُسْنُ التَّخَلُّصِ وَالِاسْتِطْرَادِ فَسَيَأْتِيَانِ فِي نَوْعِ الْمُنَاسَبَاتِ. وَأَمَّا حُسْنُ الِابْتِدَاءِ وَبَرَاعَةُ الْخِتَامِ فَسَيَأْتِيَانِ فِي نَوْعَيِ الْفَوَاتِحِ وَالْخَوَاتِمِ. وَهَا أَنَا أُورِدُ الْبَاقِيَ مَعَ زَوَائِدِهِ وَنَفَائِسَ لَا تُوجَدُ مَجْمُوعَةً فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ.
وَيُدْعَى التَّوْرِيَةَ: أَنْ يُذْكَرَ لَفْظٌ لَهُ مَعْنَيَانِ- إِمَّا بِالِاشْتِرَاكِ، أَوِ التَّوَاطُؤِ، أَوِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ- أَحَدُهُمَا قَرِيبٌ وَالْآخَرُ بَعِيدٌ، وَيُقْصَدُ الْبَعِيدُ، وَيُوَرَّى عَنْهُ بِالْقَرِيبِ، فَيَتَوَهَّمُهُ السَّامِعُ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا تَرَى بَابًا فِي الْبَيَانِ أَدَقَّ وَلَا أَلْطَفَ مِنَ التَّوْرِيَةِ، وَلَا أَنْفَعَ وَلَا أَعْوَنَ عَلَى تَعَاطِي تَأْوِيلِ الْمُتَشَابِهَاتِ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. قَالَ: وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طَه: 5]، فَإِنَّ الِاسْتِوَاءَ عَلَى مَعْنَيَيْن: الِاسْتِقْرَارُ فِي الْمَكَانِ؛ وَهُوَ الْمَعْنَى الْقَرِيبُ الْمُوَرَّى بِهِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مَقْصُودٍ، لِتَنْزِيهِهِ تَعَالَى عَنْهُ. وَالثَّانِي: الِاسْتِيلَاءُ وَالْمُلْكُ؛ وَهُوَ الْمَعْنَى الْبَعِيدُ الْمَقْصُودُ الَّذِي وَرَّى عَنْهُ بِالْقَرِيبِ الْمَذْكُورِ. انْتَهَى. وَهَذِهِ التَّوْرِيَةُ تُسَمَّى مُجَرَّدَةً؛ لِأَنَّهَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ لَوَازِمِ الْمُوَرَّى بِهِ وَلَا الْمُوَرَّى عَنْهُ. وَمِنْهَا: مَا تُسَمَّى مُرَشَّحَةً، وَهِيَ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ لَوَازِمَ هَذَا أَوْ هَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذَّارِيَات: 47]، فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ الْجَارِحَةَ؛ وَهُوَ الْمُوَرَّى بِهِ، وَقَدْ ذُكِرَ مِنْ لَوَازِمِهِ عَلَى جِهَةِ التَّرْشِيحِ الْبُنْيَانُ، وَيَحْتَمِلُ الْقُوَّةَ وَالْقُدْرَةَ؛ وَهُوَ الْبَعِيدُ الْمَقْصُودُ. قَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَعِ فِي كِتَابِهِ الْإِعْجَازُ: وَمِنْهَا: {قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ} [يُوسُفَ: 95]، فَالضَّلَالُ يَحْتَمِلُ الْحُبَّ، وَضِدَّ الْهُدَى، فَاسْتَعْمَلَ أَوْلَادُ يَعْقُوبَ ضِدَّ الْهُدَى تَوْرِيَةً عَنِ الْحُبِّ. {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} [يُونُسَ: 92]، عَلَى تَفْسِيرِهِ بِالدِّرْعِ، فَإِنَّ الْبَدَنَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ وَعَلَى الْجَسَدِ، وَالْمُرَادُ الْبَعِيدُ؛ وَهُوَ الْجَسَدُ. قَالَ: وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عِنْدَ ذِكْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى حَيْثُ قَالَ: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} [الْبَقَرَة: 145]، وَلَمَّا كَانَ الْخِطَابُ لِمُوسَى مِنَ الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَتَوَجَّهَتْ إِلَيْهِ الْيَهُودُ، وَتَوَجَّهَتِ النَّصَارَى إِلَى الْمَشْرِقِ، كَانَتْ قِبْلَةُ الْإِسْلَامِ وَسَطًا بَيْنَ الْقِبْلَتَيْنِ، قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [الْبَقَرَة: 143]؛ أَيْ: خِيَارًا، وَظَاهِرُ اللَّفْظِ يُوهِمُ التَّوَسُّطَ مَعَ مَا يُعَضِّدُهُ مِنْ تَوَسُّطِ قِبْلَةِ الْمُسْلِمِينَ، صَدَقَ عَلَى لَفْظَةِ (وَسَطٍ) هَاهُنَا أَنْ يُسَمِّي تَعَالَى بِهِ لِاحْتِمَالِهَا الْمَعْنَيَيْنِ، وَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ أَبْعَدَهُمَا- وَهُوَ الْخِيَارُ- صَلُحَتْ أَنْ تَكُونَ مِنْ أَمْثِلَةِ التَّوْرِيَةِ. قُلْتُ: وَهِيَ مُرَشَّحَةٌ بِلَازِمِ الْمُوَرَّى عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الْبَقَرَة: 143]، فَإِنَّهُ مِنْ لَوَازِمِ كَوْنِهِمْ خِيَارًا؛ أَيْ: عُدُولًا، وَالْإِتْيَانُ قَبْلَهَا مِنْ قِسْمِ الْمُجَرَّدَةِ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرَّحْمَن: 6]، فَإِنَّ النَّجْمَ يُطْلَقُ عَلَى الْكَوْكَبِ، وَيُرَشِّحُهُ لَهُ ذِكْرُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَعَلَى مَا لَا سَاقَ لَهُ مِنَ النَّبَاتِ، وَهُوَ الْمَعْنَى الْبَعِيدُ لَهُ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ فِي الْآيَةِ. وَنَقَلْتُ مِنْ خَطِّ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ حَجَرٍ أَنَّ مِنَ التَّوْرِيَةِ فِي الْقُرْآنِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سَبَإٍ: 28]، فَإِنَّ (كَافَّةً) بِمَعْنَى (مَانِعٍ)؛ أَيْ: تَكُفُّهُمْ عَنِ الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَالْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ، وَهُوَ مَعْنًى بَعِيدٌ، وَالْمَعْنَى الْقَرِيبُ الْمُتَبَادِرُ أَنَّ الْمُرَادَ (جَامِعَةً) بِمَعْنَى (جَمِيعًا)، لَكِنْ مَنَعَ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ التَّأْكِيدَ يَتَرَاخَى عَنِ الْمُؤَكَّدِ، فَكَمَا لَا تَقُولُ: رَأَيْتُ جَمِيعًا النَّاسَ، لَا تَقُولُ: رَأَيْتُ كَافَّةً الناسَ. الِاسْتِخْدَامُ: هُوَ وَالتَّوْرِيَةُ أَشْرَفُ أَنْوَاعِ الْبَدِيعِ، وَهُمَا سِيَّانِ، بَلْ فَضَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَيْهَا. وَلَهُمْ فِيهِ عِبَارَتَان: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يُؤْتَى بِلَفْظٍ لَهُ مَعْنَيَانِ فَأَكْثَرُ مُرَادًا بِهِ أَحَدُ مَعَانِيهِ، ثُمَّ يُؤْتَى بِضَمِيرِهِ مُرَادًا بِهِ الْمَعْنَى الْآخَرُ. وَهَذِهِ طَرِيقُ السَّكَّاكِيِّ وَأَتْبَاعِهِ. وَالْأُخْرَى أَنْ يُؤْتَى بِلَفْظٍ مُشْتَرَكٍ، ثُمَّ بِلَفْظَيْنِ يُفْهَمُ مِنْ أَحَدِهِمَا أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ وَمِنَ الْآخَرِ الْآخَرُ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ بَدْرِ الدِّينِ بْنِ مَالِكٍ فِي الْمِصْبَاحِ، وَمَشَى عَلَيْهَا ابْنُ أَبِي الْإِصْبَعِ وَمَثَّلَ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} الْآيَةَ [الرَّعْد: 38]، فَلَفْظُ (كِتَابٍ) يَحْتَمِلُ الْأَمَدَ الْمَحْتُومَ، وَالْكِتَابَ الْمَكْتُوبَ، فَلَفْظُ (أَجْلٍ) يَخْدِمُ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ، وَ(يَمْحُو) يَخْدِمُ الثَّانِي. وَمَثَّلَ غَيْرُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النِّسَاء: 43]، فَالصَّلَاةُ تَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا فِعْلُهَا وَمَوْضِعُهَا، وَقَوْلُهُ: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النِّسَاء: 43]، يَخْدِمُ الْأَوَّلَ {إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النِّسَاء: 43]، يَخْدِمُ الثَّانِي. قِيلَ: وَلَمْ يَقَعْ فِي الْقُرْآنِ عَلَى طَرِيقَةِ السَّكَّاكِيِّ. قُلْتُ: وَقَدِ اسْتَخْرَجْتُ بِفِكْرِي آيَاتٍ عَلَى طَرِيقَتِهِ، مِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} فَأَمْرُ اللَّهِ يُرَادُ بِهِ قِيَامُ السَّاعَةِ، وَالْعَذَابُ، وَبِعْثَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ أُرِيدَ بِلَفْظِهِ الْأَخِيرِ كَمَا أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} قَالَ: مُحَمَّدٌ: وَأُعِيدَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ فِي: {تَسْتَعْجِلُوهُ} [النَّحْل: 1]، مُرَادًا بِهِ قِيَامُ السَّاعَةِ وَالْعَذَابُ. وَمِنْهَا- وَهِيَ أَظْهَرُهَا- قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} [الْمُؤْمِنُونَ: 12]، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ آدَمُ، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ الضَّمِيرَ مُرَادًا بِهِ وَلَدُهُ، ثُمَّ قَالَ: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [الْمُؤْمِنُونَ: 13]. وَمِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [الْمَائِدَة: 101]، ثُمَّ قَالَ: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} [الْمَائِدَة: 102]؛ أَيْ: أَشْيَاءُ أُخَرُ; لِأَنَّ الْأَوَّلِينَ لَمْ يَسْأَلُوا عَنِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي سَأَلَ عَنْهَا الصَّحَابَةُ فَنُهُوا عَنْ سُؤَالِهَا.
نَقْلُ الْكَلَامِ مِنْ أُسْلُوبٍ إِلَى آخَرَ، أَعْنِي: مِنَ الْمُتَكَلِّمِ أَوِ الْخِطَابِ أَوِ الْغَيْبَةِ إِلَى آخَرَ مِنْهَا بَعْدَ التَّعْبِيرِ بِالْأَوَّلِ. وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ. وَقَالَ السَّكَّاكِيُّ: إِمَّا ذَلِكَ أَوِ التَّعْبِيرُ بِأَحَدِهِمَا فِيمَا حَقُّهُ التَّعْبِيرُ بِغَيْرِهِ. وَلَهُ فَوَائِدُ: مِنْهَا تَطْرِيَةُ الْكَلَامِ، وَصِيَانَةُ السَّمْعِ عَنِ الضَّجَرِ وَالْمَلَالِ، لِمَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ النُّفُوسُ مِنْ حُبِّ التَّنَقُّلَاتِ، وَالسَّآمَةِ مِنَ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى مِنْوَالٍ وَاحِدٍ، وَهَذِهِ فَائِدَتُهُ الْعَامَّةُ. وَيَخْتَصُّ كُلُّ مَوْضِعٍ بِنُكَتٍ وَلِطَائِفَ بِاخْتِلَافِ مَحَلِّهِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ. مِثَالُهُ- مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْخِطَابِ-: وَوَجْهُهُ حَثُّ السَّامِعِ وَبَعْثُهُ عَلَى الِاسْتِمَاعِ حَيْثُ أَقْبَلَ الْمُتَكَلِّمُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ فَضْلَ عِنَايَةِ تَخْصِيصٍ بِالْمُوَاجَهَةِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 22]، وَالْأَصْلُ: (وَإِلَيْهِ أَرْجِعُ)، فَالْتَفَتَ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْخِطَابِ، وَنُكْتَتُهُ: أَنَّهُ أَخْرَجَ الْكَلَامَ فِي مَعْرِضِ مُنَاصَحَتِهِ لِنَفْسِهِ وَهُوَ يُرِيدُ نُصْحَ قَوْمِهِ، تَلَطُّفًا وَإِعْلَامًا أَنَّهُ يُرِيدُ لَهُمْ مَا يُرِيدُ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْهِمْ لِكَوْنِهِ فِي مَقَامِ تَخْوِيفِهِمْ وَدَعْوَتِهِمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. كَذَا جَعَلُوا هَذِهِ الْآيَةَ مِنَ الِالْتِفَاتِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْهُ إِذَا قَصَدَ الْإِخْبَارَ عَنْ نَفْسِهِ فِي كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ، وَهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ (تُرْجَعُونَ) الْمُخَاطَبِينَ لَا نَفْسَهُ. وَأُجِيبُ: بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ لَمَا صَحَّ الِاسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِيُّ؛ لَأَنَّ رُجُوعَ الْعَبْدِ إِلَى مَوْلَاهُ لَيْسَ بِمُسْتَلْزِمٍ أَنْ يُعِيدَهُ غَيْرُ ذَلِكَ الرَّاجِعِ. فَالْمَعْنَى: كَيْفَ لَا أَعْبُدُ مَنْ إِلَيْهِ رُجُوعِي، وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ: (وَإِلَيْهِ أَرْجِعُ) إِلَى: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِيهِمْ، وَمَعَ ذَلِكَ أَفَادَ فَائِدَةً حَسَنَةً، وَهِيَ تَنْبِيهُهُمْ عَلَى أَنَّهُ مِثْلَهُمْ فِي وُجُوبِ عِبَادَةِ مَنْ إِلَيْهِ الرُّجُوعُ. مِنْ أَمْثِلَتِهِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الْأَنْعَام: 71، 72]. وَمِثَالُهُ- مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ-: وَوَجْهُهُ أَنْ يَفْهَمَ السَّامِعُ أَنَّ هَذَا نَمَطُ الْمُتَكَلِّمِ وَقَصْدُهُ مِنَ السَّامِعِ؛ حَضَرَ أَوْ غَابَ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِهِ مِمَّنْ يَتَلَوَّنُ وَيَتَوَجَّهُ، وَيُبْدِي فِي الْغَيْبَةِ خِلَافَ مَا يُبْدِيهِ فِي الْحُضُورِ- قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} [الْفَتْح: 1، 2]، وَالْأَصْلُ: (لِنَغْفِرَ لَكَ). {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ} [الْكَوْثَر: 1، 2]، وَالْأَصْلُ: (لَنَا). {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الدُّخَان: 158]، وَالْأَصْلُ: (مِنَّا). {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الْأَعْرَاف: 158]، إِلَى قَوْلِه: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الْأَعْرَاف: 158]، وَالْأَصْلُ: (وَبِي)، وَعَدَلَ عَنْهُ لِنُكْتَتَيْن: إِحْدَاهُمَا دَفْعُ التُّهْمَةِ عَنْ نَفْسِهِ بِالْعَصَبِيَّةِ لَهَا، وَالْأُخْرَى: تَنْبِيهُهُمْ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ الِاتِّبَاعَ بِمَا اتَّصَفَ بِهِ مِنَ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ وَالْخَصَائِصِ الْمَتْلُوَّةِ. وَمِثَالُهُ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى التَّكَلُّمِ لَمْ يَقَعْ فِي الْقُرْآنِ، وَمَثَّلَ لَهُ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِه: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طَه: 72]، ثُمَّ قَالَ: {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا} [طَه: 73]، وَهَذَا الْمِثَالُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الِالْتِفَاتِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ وَاحِدًا. وَمِثَالُهُ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَة: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يُونُسَ: 22]، وَالْأَصْلُ: (بِكُمْ)، وَنُكْتَةُ الْعُدُولِ عَنْ خِطَابِهِمْ إِلَى حِكَايَةِ حَالِهِمْ لِغَيْرِهِمْ، التَّعَجُّبُ مِنْ كُفْرِهِمْ وَفِعْلِهِمْ؛ إِذْ لَوِ اسْتَمَرَّ عَلَى خِطَابِهِمْ لَفَاتَتْ تِلْكَ الْفَائِدَةُ. وَقِيلَ: لِأَنَّ الْخِطَابَ أَوَّلًا كَانَ مَعَ النَّاسِ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ بِدَلِيل: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يُونُسَ: 22]، فَلَوْ كَانَ (وَجَرَيْنَ بِكُمْ) لَلَزِمَ الذَّمُّ لِلْجَمِيعِ، فَالْتَفَتَ عَنِ الْأَوَّلِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى اخْتِصَاصِهِ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ شَأْنُهُمْ مَا ذَكَرَهُ عَنْهُمْ فِي آخِرِ الْآيَةِ، عُدُولًا مِنَ الْخِطَابِ الْعَامِّ إِلَى الْخَاصِّ. قُلْتُ: وَرَأَيْتُ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ فِي تَوْجِيهِهِ عَكْسَ ذَلِكَ؛ وَهُوَ أَنَّ الْخِطَابَ أَوَّلُهُ خَاصٌّ وَآخِرُهُ عَامٌّ. فَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِه: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يُونُسَ: 22]، قَالَ: ذَكَرَ الْحَدِيثَ عَنْهُمْ ثُمَّ حَدَّثَ عَنْ غَيْرِهِمْ، وَلَمْ يَقُلْ: (وَجَرَيْنَ بِكُمْ)؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ أَنْ يَجْمَعَهُمْ وَغَيْرَهُمْ، وَجَرَيْنَ بِهَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْخُلُقِ. هَذِهِ عِبَارَتُهُ، فَلِلَّهِ دَرُّ السَّلَفِ مَا كَانَ أَوْقَفَهُمْ عَلَى الْمَعَانِي اللَّطِيفَةِ الَّتِي يَدْأَبُ الْمُتَأَخِّرُونَ فِيهَا زَمَانًا طَوِيلًا، وَيَفْنُونَ فِيهَا أَعْمَارَهُمْ، ثُمَّ غَايَتُهُمْ أَنْ يَحُومُوا حَوْلَ الْحِمَى. وَمِمَّا ذُكِرَ فِي تَوْجِيهِهِ أَيْضًا أَنَّهُمْ وَقْتَ الرُّكُوبِ حَضَرُوا، إِلَّا أَنَّهُمْ خَافُوا الْهَلَاكَ وَغَلَبَةَ الرِّيَاحِ فَخَاطَبَهُمْ خِطَابَ الْحَاضِرِينَ، ثُمَّ لَمَّا جَرَتِ الرِّيَاحُ بِمَا تَشْتَهِي السُّفُنُ، وَأَمِنُوا الْهَلَاكَ لَمْ يَبْقَ حُضُورُهُمْ كَمَا كَانَ، عَلَى عَادَةِ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ إِذَا أَمِنَ غَابَ قَلْبُهُ عَنْ رَبِّهِ، فَلَمَّا غَابُوا ذَكَّرَهُمُ اللَّهُ بِصِيغَةِ الْغَيْبَةِ، وَهَذِهِ إِشَارَةٌ صُوفِيَّةٌ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ أَيْضًا: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الرُّوم: 39]، {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الْحُجُرَات: 7]، {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ يُطَافُ عَلَيْهِمْ}، وَالْأَصْلُ: (عَلَيْكُمْ)، ثُمَّ قَالَ: {وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزُّخْرُف: 70، 71]، فَكَرَّرَ الِالْتِفَاتَ. وَمِثَالُهُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّم: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ} [فَاطِرٍ: 9]، {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا} [فُصِّلَتْ: 12]، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} إِلَى قَوْلِه: {بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا}، ثُمَّ الْتَفَتَ ثَانِيًا إِلَى الْغَيْبَةِ، فَقَالَ: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الْإِسْرَاء: 1]، وَعَلَى قِرَاءَةِ الْحَسَن: (لِيُرِيَهُ) بِالْغِيبَةِ يَكُونُ الْتِفَاتًا ثَانِيًا مَنْ (بَارَكْنَا)، وَفِي (آيَاتِنَا) الْتِفَاتٌ ثَالِثٌ، وَفِي (إِنَّهُ) الْتِفَاتٌ رَابِعٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفَائِدَتُهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَأَمْثَالِهَا التَّنْبِيهُ عَلَى التَّخْصِيصِ بِالْقُدْرَةِ، وَأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَةِ أَحَدٍ. وَمِثَالُهُ- مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ-: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} [مَرْيَمَ: 88، 89]، {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} [الْأَنْعَام: 6]، {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً} [الْإِنْسَان: 21، 22]، {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ} [الْأَحْزَاب: 50]. وَمِنْ مَحَاسِنِهِ مَا وَقَعَ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَة: فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا ذَكَرَ اللَّهَ وَحْدَهُ ثُمَّ ذَكَرَ صِفَاتَهُ أَلْقَى كُلَّ صِفَةٍ مِنْهَا تَبْعَثُ عَلَى شِدَّةِ الْإِقْبَال1ِ، وَآخِرُهَا: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} الْمُفِيدُ أَنَّهُ مَالِكُ الْأَمْرِ كُلِّهِ فِي يَوْمِ الْجَزَاءِ، يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ حَامِلًا لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ عَلَى خِطَابِ مَنْ هَذِهِ صِفَاتُهُ بِتَخْصِيصِهِ بِغَايَةِ الْخُضُوعِ وَالِاسْتِعَانَةِ فِي الْمُهِمَّاتِ. وَقِيلَ: إِنَّمَا اخْتِيرَ لَفْظُ الْغِيبَةِ لِلْحَمْدِ، وَلِلْعِبَادَةِ الْخِطَابُ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْحَمْدَ دُونَ الْعِبَادَةِ فِي الرُّتْبَةِ؛ لِأَنَّكَ تَحْمَدُ نَظِيرَهُ وَلَا تَعْبُدُهُ، فَاسْتَعْمَلَ لَفْظَ (الْحَمْدِ) مَعَ الْغَيْبَةِ، وَلَفْظَ (الْعِبَادَةِ) مَعَ الْخِطَابِ، لِيَنْسِبَ إِلَى الْعَظِيمِ حَالَ الْمُخَاطَبَةِ وَالْمُوَاجِهَةِ مَا هُوَ أَعْلَى رُتْبَةً، وَذَلِكَ عَلَى طَرِيقَةِ التَّأَدُّبِ. وَعَلَى نَحْوٍ مَنْ ذَلِكَ جَاءَ آخِرُ السُّورَةِ فَقَالَ: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} مُصَرِّحًا بِذِكْرِ الْمُنْعِمِ وَإِسْنَادِ الْإِنْعَامِ إِلَيْهِ لَفْظًا، وَلَمْ يُقَلْ: (صِرَاطَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ)، فَلَمَّا صَارَ إِلَى ذِكْرِ الْغَضَبِ ذَوَى عَنْهُ لَفْظَهُ، فَلَمْ يَنْسِبْهُ إِلَيْهِ لَفْظًا، وَجَاءَ بِاللَّفْظِ مُنْحَرِفًا عَنْ ذِكْرِ الْغَاضِبِ فَلَمْ يَقُلْ: (غَيْرِ الَّذِينَ غَضِبْتَ عَلَيْهِمْ)؛ تَفَادِيًا عَنْ نِسْبَةِ الْغَضَبِ إِلَيْهِ فِي اللَّفْظِ حَالَ الْمُوَاجَهَةِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْحَقِيقَ بِالْحَمْدِ، وَأَجْرَى عَلَيْهِ الصِّفَاتِ الْعَظِيمَةَ مِنْ كَوْنِهِ رَبًّا لِلْعَالِمِينَ وَرَحْمَانًا وَرَحِيمًا وَمَالِكًا لِيَوْمِ الدِّينِ، تَعَلَّقَ الْعِلْمُ بِمَعْلُومٍ عَظِيمِ الشَّأْنِ، حَقِيقٍ بِأَنْ يَكُونَ مَعْبُودًا دُونَ غَيْرِهِ، مُسْتَعَانًا بِهِ، فَخُوطِبَ بِذَلِكَ لِتَمَيُّزِهِ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، حَتَّى كَأَنَّهُ قِيلَ: إِيَّاكَ يَا مَنْ هَذِهِ صِفَاتُهُ نَخُصُّ بِالْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ لَا غَيْرَكَ. قِيلَ: وَمِنْ لِطَائِفِهِ التَّنْبِيهُ عَنْ أَنَّ مُبْتَدَأَ الْخَلْقِ الْغَيْبَةُ مِنْهُمْ عَنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَقُصُورُهُمْ عَنْ مُحَاضَرَتِهِ وَمُخَاطَبَتِهِ، وَقَيَامُ حِجَابِ الْعَظَمَةِ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا عَرَفُوهُ بِمَا هُوَ لَهُمْ، وَتَوَسَّلُوا لِلْقُرْبِ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَأَقَرُّوا بِالْمَحَامِدِ لَهُ، تَعَبَّدُوا لَهُ بِمَا يَلِيقُ بِهِمْ، وَتَأَهَّلُوا لِمُخَاطَبَتِهِ وَمُنَاجَاتِهِ، فَقَالُوا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: شَرْطُ الِالْتِفَافِ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي الْمُنْتَقِلِ إِلَيْهِ عَائِدًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إِلَى الْمُنْتَقِلِ عَنْهُ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ فِي (أَنْتَ صَدِيقِي) الْتِفَاتٌ. الثَّانِي: شَرْطُهُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ فِي جُمْلَتَيْنِ، صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْكَشَّافِ وَغَيْرُهُ، وَإِلَّا يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ نَوْعًا غَرِيبًا. الثَّالِثُ: ذَكَرَ التَّنُوخِيُّ فِي الْأَقْصَى الْقَرِيبُ وَابْنُ الْأَثِيرِ وَغَيْرُهُمَا نَوْعًا غَرِيبًا مِنَ الِالْتِفَاتِ؛ وَهُوَ بِنَاءُ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ بَعْدَ خِطَابِ فَاعِلِهِ أَوْ تَكَلُّمِهِ كَقَوْلِه: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} بَعْدَ {أَنْعَمْتَ}، فَإِنَّ الْمَعْنَى: (غَيْرِ الَّذِينَ غَضِبْتَ عَلَيْهِمْ)، وَتَوَقَّفَ فِيهِ صَاحِبُ عَرُوسُ الْأَفْرَاحِ. الرَّابِعُ: قَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَع: جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الِالْتِفَاتِ قِسْمٌ غَرِيبٌ جِدًّا، لَمْ أَظْفَرْ فِي الشِّعْرِ بِمِثَالِهِ؛ وَهُوَ أَنْ يُقَدِّمَ الْمُتَكَلِّمُ فِي كَلَامِهِ مَذْكُورَيْنِ مُرَتَّبَيْنِ، ثُمَّ يُخْبِرُ عَنِ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا، وَيَنْصَرِفُ عَنِ الْإِخْبَارِ عَنْهُ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنِ الثَّانِي، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنِ الْأَوَّلِ كَقَوْلِه: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} [الْعَادِيَّات: 6، 7]، انْصَرَفَ عَنِ الْإِخْبَارِ عَنِ الْإِنْسَانِ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى، ثُمَّ قَالَ مُنْصَرِفًا عَنِ الْإِخْبَارِ عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى إِلَى الْإِخْبَارِ عَنِ الْإِنْسَان: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [الْعَادِيَّات: 8]، قَالَ: وَهَذَا يَحْسُنُ أَنْ يُسَمَّى الْتِفَاتَ الضَّمَائِرِ. الْخَامِسُ: يَقْرُبُ مِنَ الِالْتِفَاتِ نَقْلُ الْكَلَامِ مِنْ خِطَابِ الْوَاحِدِ أَوِ الِاثْنَيْنِ أَوِ الْجَمْعِ لِخِطَابِ الْآخَرِ، ذَكَرَهُ التَّنُوخِيُّ وَابْنُ الْأَثِيرِ، وَهُوَ سِتَّةُ أَقْسَامٍ أَيْضًا. مِثَالُهُ مِنَ الْوَاحِدِ إِلَى الِاثْنَيْن: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ} [يُونُسَ: 78]، وَإِلَى الْجَمْع: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطَّلَاق: 1]. وَمِنَ الِاثْنَيْنِ إِلَى الْوَاحِد: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طَه: 49]، {فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طَه: 117]. وَإِلَى الْجَمْع: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} [يُونُسَ: 87]. وَمِنَ الْجَمْعِ إِلَى الْوَاحِد: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [يُونُسَ: 87]. وَإِلَى الِاثْنَيْن: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ} إِلَى قَوْلِه: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرَّحْمَن: 33، 34]. السَّادِسُ: وَيَقْرُبُ مِنْهُ أَيْضًا الِانْتِقَالُ مِنَ الْمَاضِي أَوِ الْمُضَارِعِ أَوِ الْأَمْرِ إِلَى آخَرَ. مِثَالُهُ مِنَ الْمَاضِي إِلَى الْمُضَارِع: {أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ} [فَاطِرٍ: 9]، {خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} [الْحَجّ: 31]، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الْحَجّ: 25]. وَإِلَى الْأَمْر: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ} [الْأَعْرَاف: 2]، {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا} [الْحَجّ: 30]. وَمِنَ الْمُضَارِعِ إِلَى الْمَاضِي: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ} [النَّمْل: 87]، {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ} [الْكَهْف: 47]. وَإِلَى الْأَمْر: {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ} [هُودٍ: 54]. وَمِنَ الْأَمْرِ إِلَى الْمَاضِي: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا} [الْبَقَرَة: 125]. وَإِلَى الْمُضَارِع: {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الْأَنْعَام: 72].
هُوَ أَنْ يَذْكُرَ الْمُتَكَلِّمُ أَسْمَاءَ آبَاءِ الْمَمْدُوحِ مُرَتَّبَةً عَلَى حُكْمِ تَرْتِيبِهَا فِي الْوِلَادَةِ. قَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَع: وَمِنْهُ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ يُوسُفَ: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [يُوسُفَ: 38]، قَالَ: وَإِنَّمَا لَمْ يَأْتِ بِهِ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَأْلُوفِ، فَإِنَّ الْعَادَةَ الِابْتِدَاءُ بِالْأَبِ ثُمَّ الْجَدِّ ثُمَّ الْجَدِّ الْأَعْلَى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ هُنَا مُجَرَّدُ ذِكْرِ الْآبَاءِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُمْ لِيَذْكُرَ مِلَّتَهُمُ الَّتِي اتَّبَعَهَا، فَبَدَأَ بِصَاحِبِ الْمِلَّةِ، ثُمَّ بِمَنْ أَخَذَهَا عَنْهُ أَوَّلًا فَأَوَّلًا عَلَى التَّرْتِيبِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُ أَوْلَادِ يَعْقُوبَ: {نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [الْبَقَرَة: 133].
هُوَ أَنَّ كَوْنَ الْكَلَامِ- لِخُلُوِّهِ مِنَ الْعِقَادَةِ- مُتَحَدِّرًا كَتَحَدُّرِ الْمَاءِ الْمُنْسَجِمِ، وَيَكَادُ لِسُهُولَةِ تَرْكِيبِهِ وَعُذُوبَةِ أَلْفَاظِهِ أَنْ يَسْهُلَ رِقَّةً، وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ كَذَلِكَ. قَالَ أَهْلُ الْبَدِيع: وَإِذَا قَوِيَ الِانْسِجَامُ فِي النَّثْرِ جَاءَتْ قِرَاءَتُهُ مَوْزُونَةً بِلَا قَصْدٍ، لِقُوَّةِ انْسِجَامِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ مَوْزُونًا: فَمِنْهُ مِنْ بَحْرِ الطَّوِيل: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الْكَهْف: 29]. وَمِنَ الْمَدِيد: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} [هُودٍ: 37]. وَمِنَ الْبَسِيط: {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الْأَحْقَاف: 25]. وَمِنَ الْوَافِر: {وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التَّوْبَة: 14]. وَمِنَ الْكَامِل: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الْبَقَرَة: 213]. وَمِنَ الْهَزَج: {فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا} [يُوسُفَ: 93]. وَمِنَ الرَّجَز: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} [الْإِنْسَان: 14]. وَمِنَ الرَّمَل: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سَبَإٍ: 13]. وَمِنَ السَّرِيع: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} [الْبَقَرَة: 259]. وَمِنَ الْمُنْسَرِح: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} [الْإِنْسَان: 2]. وَمِنَ الْخَفِيف: {لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النِّسَاء: 78]. وَمِنَ الْمُضَارِع: {يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} [غَافِرٍ: 32، 33]. وَمِنَ الْمُقْتَضَب: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الْبَقَرَة: 10]. وَمِنَ الْمُجْتَثّ: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الْحِجْر: 49]. وَمِنَ الْمُتَقَارِبِ {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الْأَعْرَاف: 183].
قَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَع: هُوَ أَنْ يُدْمِجَ الْمُتَكَلِّمُ غَرَضًا فِي غَرَضٍ أَوْ بَدِيعًا فِي بَدِيعٍ، بِحَيْثُ لَا يَظْهَرُ فِي الْكَلَامِ إِلَّا أَحَدُ الْغَرَضَيْنِ أَوْ أَحَدُ الْبَدِيعَيْنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ} [الْقَصَص: 70]، أُدْمِجَتِ الْمُبَالَغَةُ فِي الْمُطَابَقَةِ؛ لِأَنَّ انْفِرَادَهُ تَعَالَى بِالْحَمْدِ فِي الْآخِرَةِ- وَهِيَ الْوَقْتُ الَّذِي لَا يُحْمَدُ فِيهِ سِوَاهُ- مُبَالَغَةٌ فِي الْوَقْتِ بِالِانْفِرَادِ بِالْحَمْدِ، وَهُوَ وَإِنْ خَرَجَ مَخْرَجَ الْمُبَالَغَةِ فِي الظَّاهِرِ، فَالْأَمْرُ فِيهِ حَقِيقَةٌ فِي الْبَاطِنِ، فَإِنَّهُ رَبُّ الْحَمْدِ وَالْمُنْفَرِدُ بِهِ فِي الدَّارَيْنِ. انْتَهَى. قُلْتُ: وَالْأَوْلَى أَنَّ يُقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَة: إِنَّهَا مِنْ إِدْمَاجِ غَرَضٍ فِي غَرَضٍ، فَإِنَّ الْغَرَضَ مِنْهَا تَفْرُّدُهُ تَعَالَى بِوَصْفِ الْحَمْدِ، وَأَدْمَجَ فِيهِ الْإِشَارَةَ إِلَى الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ.
هُوَ الْإِتْيَانُ فِي كَلَامٍ بِفَنَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْفَخْرِ وَالتَّعْزِيَةِ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرَّحْمَن: 27]، فَإِنَّهُ تَعَالَى عَزَّى جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ وَسَائِرِ أَصْنَافِ مَا هُوَ قَابِلٌ لِلْحَيَاةِ، وَتَمَدَّحَ بِالْبَقَاءِ بَعْدَ فَنَاءٍ الْمَوْجُودَاتِ فِي عَشْرِ لَفْظَاتٍ، مَعَ وَصْفِهِ ذَاتَهُ- بَعْدَ انْفِرَادِهِ بِالْبَقَاءِ- بِالْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَمِنْهُ: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} الْآيَةَ [مَرْيَمَ: 72]، جَمَعَ فِيهَا بَيْنَ هَنَاءٍ وَعَزَاءٍ.
هُوَ أَنْ يُبْرِزَ الْمُتَكَلِّمُ الْمَعْنَى الْوَاحِدَ فِي عِدَّةِ صُوَرٍ اقْتِدَارًا مِنْهُ عَلَى نَظْمِ الْكَلَامِ وَتَرْكِيبِهِ عَلَى صِيَاغَةِ قَوَالِبِ الْمَعَانِي وَالْأَغْرَاضِ، فَتَارَةً يَأْتِي بِهِ فِي لَفْظِ الِاسْتِعَارَةِ، وَتَارَةً فِي صُورَةِ الْإِرْدَافِ، وَحِينًا فِي مَخْرِجِ الْإِيجَازِ، وَمَرَّةً فِي قَالَبِ الْحَقِيقَةِ. قَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَع: وَعَلَى هَذَا أَتَتْ جَمِيعُ قَصَصِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّكَ تَرَى الْقِصَّةَ الْوَاحِدَةَ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ مَعَانِيهَا تَأْتِي فِي صُورَةٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَقَوَالِبَ مِنَ الْأَلْفَاظِ مُتَعَدِّدَةٍ، حَتَّى لَا تَكَادَ تَشْتَبِهُ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْهُ، وَلَا بُدَّ أَنْ تَجِدَ الْفَرْقَ بَيْنَ صُوَرِهَا ظَاهِرًا. ائْتِلَافُ اللَّفْظِ مَعَ اللَّفْظِ وَائْتِلَافُهُ مَعَ الْمَعْنَى: الْأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ الْأَلْفَاظُ يُلَائِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا بِأَنْ يُقَرَّبَ الْغَرِيبُ بِمِثْلِهِ، وَالْمُتَدَاوَلُ بِمِثْلِهِ رِعَايَةً لِحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْمُنَاسَبَةِ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ أَلْفَاظُ الْكَلَامِ مُلَائِمَةً لِلْمَعْنَى الْمُرَادِ، فَإِنْ كَانَ فَخْمًا كَانَتْ أَلْفَاظُهُ فَخْمَةً، أَوْ جَزْلًا فَجَزْلَةً، أَوْ غَرِيبًا فَغَرِيبَةً، أَوْ مُتَدَاوَلًا فَمُتَدَاوَلَةً، أَوْ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْغَرَابَةِ وَالِاسْتِعْمَالِ فَكَذَلِكَ. فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا} [يُوسُفَ: 85]، أَتَى بِأَغْرَبِ أَلْفَاظِ الْقَسَمِ وَهِيَ (التَّاءُ)، فَإِنَّهَا أَقَلُّ اسْتِعْمَالًا وَأَبْعَدُ مِنْ أَفْهَامِ الْعَامَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى (الْبَاءِ) وَ(الْوَاوِ)، وَبِأَغْرَبِ صِيَغِ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَرْفَعُ الْأَسْمَاءَ وَتَنْصِبُ الْأَخْبَارَ، فَإِنَّ (تَزَالُ) أَقْرَبُ إِلَى الْأَفْهَامِ، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا مِنْهَا، وَبِأَغْرَبِ أَلْفَاظِ الْهَلَاكِ وَهُوَ (الْحَرَضُ)، فَاقْتَضَى حُسْنُ الْوَضْعِ فِي النَّظْمِ أَنْ تُجَاوَرَ كُلُّ لَفْظَةٍ بِلَفْظَةٍ مِنْ جِنْسِهَا فِي الْغَرَابَةِ، تَوَخِّيًا لِحُسْنِ الْجِوَارِ، وَرِعَايَةً فِي ائْتِلَافِ الْمَعَانِي بِالْأَلْفَاظِ، وَلِتَتَعَادَلَ الْأَلْفَاظُ فِي الْوَضْعِ وَتَتَنَاسَبُ فِي النَّظْمِ، وَلَمَّا أَرَادَ غَيْرَ ذَلِكَ قَالَ: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الْأَنْعَام: 109]، فَأَتَى بِجَمِيعِ الْأَلْفَاظِ مُتَدَاوَلَةً لَا غَرَابَةَ فِيهَا. وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هُودٍ: 113]، لَمَّا كَانَ الرُّكُونُ إِلَى الظَّالِمِ؛ وَهُوَ الْمَيْلُ إِلَيْهِ وَالِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ دُونَ مُشَارَكَتِهِ فِي الظُّلْمِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعِقَابُ عَلَيْهِ دُونَ الْعِقَابِ عَلَى الظُّلْمِ، فَأَتَى بِلَفْظِ الْمَسِّ الَّذِي هُوَ دُونَ الْإِحْرَاقِ وَالِاصْطِلَاءِ. وَقَوْلُهُ: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا} [الْبَقَرَة: 286]، أَتَى بِلَفْظِ الِاكْتِسَابِ الْمُشْعِرِ بِالْكُلْفَةِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي جَانِبِ السَّيِّئَةِ لِثِقَلِهَا، وَكَذَا قَوْلُهُ: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا} [الشُّعَرَاء: 94]، فَإِنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ (كُبُّوا) لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ مُكَبُّونَ كَبًّا عَنِيفًا فَظِيعًا. {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ} [فَاطِرٍ: 37]، فَإِنَّهُ أَبْلَغُ مِمَّنْ يَصْرُخُونَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ يَصْرُخُونَ صُرَاخًا مُنْكَرًا، خَارِجًا عَنِ الْحَدِّ الْمُعْتَادِ. {أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} [الْقَمَر: 42]، فَإِنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ (قَادِرٍ) لِلْإِشَارَةِ إِلَى زِيَادَةِ التَّمَكُّنِ فِي الْقُدْرَةِ، وَأَنَّهُ لَا رَادَّ لَهُ وَلَا مُعَقِّبَ. وَمِثْلُ ذَلِكَ: {وَاصْطَبِرْ} [مَرْيَمَ: 65]، فَإِنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ (اصْبِرْ). وَ: {الرَّحْمَنِ}، فَإِنَّهُ أَبْلَغُ مِنَ {الرَّحِيمِ}، فَإِنَّهُ يُشْعِرُ بِاللُّطْفِ وَالرِّفْقِ، كَمَا أَنَّ (الرَّحْمَنَ) يُشْعِرُ بِالْفَخَامَةِ وَالْعَظَمَةِ. وَمِنْهُ الْفَرْقُ بَيْنَ (سَقَى) وَ(أَسْقَى)، فَإِنَّ (سَقَى) لِمَا لَا كُلْفَةَ مَعَهُ فِي السُّقْيَا، وَلِهَذَا أَوْرَدَهُ تَعَالَى فِي شَرَابِ الْجَنَّةِ، فَقَالَ: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الْإِنْسَان: 21]، وَ(أَسْقَى) لِمَا فِيهِ كُلْفَةٌ، وَلِهَذَا أَوْرَدَهُ فِي شَرَابِ الدُّنْيَا، فَقَالَ: {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا} [الْمُرْسَلَات: 27]، {لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الْجِنّ: 16]؛ لِأَنَّ السُّقْيَا فِي الدُّنْيَا لَا تَخْلُو مِنَ الْكُلْفَةِ أَبَدًا.
الِاسْتِدْرَاكُ وَالِاسْتِثْنَاءُ شَرْطُ كَوْنِهِمَا مِنَ الْبَدِيعِ أَنْ يَتَضَمَّنَا ضَرْبًا مِنَ الْمَحَاسِنِ زَائِدًا عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ. مِثَالُ الِاسْتِدْرَاك: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الْحُجُرَات: 14]، فَإِنَّهُ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِه: {لَمْ تُؤْمِنُوا} لَكَانَ مُنَفِّرًا لَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ ظَنُّوا الْإِقْرَارَ بِالشَّهَادَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادٍ إِيمَانًا، فَأَوْجَبَتِ الْبَلَاغَةُ ذِكْرَ الِاسْتِدْرَاكِ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْإِيمَانَ مُوَافَقَةُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَإِنَّ انْفِرَادَ اللِّسَانِ بِذَلِكَ يُسَمَّى إِسْلَامًا وَلَا يُسَمَّى إِيمَانًا. وَزَادَ ذَلِكَ إِيضَاحًا بِقَوْلِه: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الْحُجُرَات: 14]، فَلَمَّا تَضَمَّنَ الِاسْتِدْرَاكُ إِيضَاحَ مَا عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْكَلَامِ مِنَ الْإِشْكَالِ عُدَّ مِنَ الْمَحَاسِنِ. وَمِثَالُ الِاسْتِثْنَاء: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [الْعَنْكَبُوت: 14]، فَإِنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ هَذِهِ الْمُدَّةِ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ يُمَهِّدُ عُذْرَ نُوحٍ فِي دُعَائِهِ عَلَى قَوْمِهِ بِدَعْوَةٍ أَهْلَكَتْهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ؛ إِذْ لَوْ قِيلَ: (فَلَبِثَ فِيهِمْ تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ عَامًا) لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنَ التَّهْوِيلِ مَا فِي الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْأَلْفِ مِنَ الْأَوَّلِ أَوَّلُ مَا يَطْرُقُ السَّمْعُ، فَيَنْشَغِلُ بِهَا عَنْ سَمَاعِ بَقِيَّةِ الْكَلَامِ، وَإِذَا جَاءَ الِاسْتِثْنَاءُ لَمْ يَبْقَ لَهُ بَعْدَهَا مَا تَقَدَّمَهُ وَقْعٌ يُزِيلُ مَا حَصَلَ عِنْدَهُ مِنْ ذِكْرِ الْأَلْفِ.
ذَكَرَهُ ابْنُ فَارِسٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ كَلَامٌ فِي سُورَةٍ مُقْتَصًّا مِنْ كَلَامٍ فِي سُورَةٍ أُخْرَى أَوْ فِي تِلْكَ السُّورَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [الْعَنْكَبُوت: 27]، وَالْآخِرَةُ دَارُ ثَوَابٍ لَا عَمَلَ فِيهَا، فَهَذَا مُقْتَصٌّ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا} [طَه: 75]. وَمِنْهُ: {وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصَّافَّات: 57]، مَأْخُوذًا مِنْ قَوْلِه: {أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} [سَبَإٍ: 38]. وَقَوْلُهُ: {وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غَافِرٍ: 51]، مُقْتَصٌّ مِنْ أَرْبَعِ آيَاتٍ؛ لِأَنَّ الْأَشْهَادَ أَرْبَعَةٌ: الْمَلَائِكَةُ فِي قَوْلِه: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق: 21]، وَالْأَنْبِيَاءُ فِي قَوْلِه: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النِّسَاء: 41]، وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ فِي قَوْلِه: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الْبَقَرَة: 143]، وَالْأَعْضَاءُ فِي قَوْلِه: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ} [النُّور: 24]، الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ: {يَوْمَ التَّنَادِ} [غَافِرٍ: 32]، قُرِئَ مُخَفَّفًا وَمُشَدَّدًا، فَالْأَوَّلُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِه: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} [الْأَعْرَاف: 44]، وَالثَّانِي مِنْ قَوْلِه: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} [عَبَسَ: 34].
هُوَ إِقَامَةُ بَعْضِ الْحُرُوفِ مَقَامَ بَعْضٍ. وَجَعَلَ مِنْهُ ابْنُ فَارِسٍ: {فَانْفَلَقَ}: أَي: انْفَرَقَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ} [الشُّعَرَاء: 63]، فَالرَّاءُ وَاللَّامُ مُتَعَاقِبَتَانِ. وَعَنِ الْخَلِيلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ} [الْإِسْرَاء: 5]، أَنَّهُ أُرِيدَ فَحَاسُوا، فَجَاءَتِ الْجِيمُ مَقَامَ الْحَاءِ، وَقَدْ قُرِئَ بِالْحَاءِ أَيْضًا. وَجَعَلَ مِنْهُ الْفَارِسِيُّ: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} [ص: 32]؛ أَي: الْخَيْلَ. وَجَعَلَ مِنْهُ أَبُو عُبَيْدَةَ: {إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الْأَنْفَال: 35]؛ أَيْ: تَصْدِدَةً.
قَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَع: هُوَ فِي غَايَةِ الْعِزَّةِ فِي الْقُرْآنِ. قَالَ: وَلَمْ أَجِدْ مِنْهُ إِلَّا آيَةً وَاحِدَةً، وَهِيَ قَوْلُهُ: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ} الْآيَةَ [الْمَائِدَة: 59]، فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ- بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ الْخَارِجِ مَخْرَجَ التَّوْبِيخِ عَلَى مَا عَابُوا بِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْإِيمَانِ- يُوهِمُ أَنَّ مَا يَأْتِي بَعْدَهُ مِمَّا يُوجِبُ أَنْ يُنْقَمَ عَلَى فَاعِلِهِ مِمَّا يُذَمُّ بِهِ، فَلَمَّا أَتَى بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَا يُوجِبُ مَدْحَ فَاعِلِهِ كَانَ الْكَلَامُ مُتَضَمِّنًا تَأْكِيدَ الْمَدْحِ بِمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ. قُلْتُ: وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ: {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التَّوْبَة: 74]، وَقَوْلُهُ: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الْحَجّ: 40]، فَإِنَّ ظَاهِرَ الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ مَا بَعْدَهُ حَقٌّ يَقْتَضِي الْإِخْرَاجَ فَلَمَّا كَانَ صِفَةَ مَدْحٍ يَقْتَضِي الْإِكْرَامَ لَا الْإِخْرَاجَ كَانَ تَأْكِيدًا لِلْمَدْحِ بِمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ. وَجَعَلَ مِنْهُ التَّنُوخِيُّ فِي الْأَقْصَى الْقَرِيبِ: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} [الِوَاقِعَة: 25- 26]، اسْتَثْنَى (سَلَامًا سَلَامًا) الَّذِي هُوَ ضِدُّ اللَّغْوِ وَالتَّأْثِيمِ فَكَانَ ذَلِكَ مُؤَكِّدًا لِانْتِفَاءِ اللَّغْوِ وَالتَّأْثِيمِ. انْتَهَى.
هُوَ إِتْيَانُ الْمُتَكَلِّمِ بِمَعَانٍ شَتَّى مِنَ الْمَدْحِ وَالْوَصْفِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفُنُونِ، كُلُّ فَنٍّ فِي جُمْلَةٍ مُنْفَصِلَةٍ عَنْ أُخْتِهَا مَعَ تَسَاوِي الْجُمَلِ فِي الزِّنَةِ، وَتَكُونُ فِي الْجُمَلِ الطَّوِيلَةِ وَالْمُتَوَسِّطَةِ وَالْقَصِيرَةِ. فَمِنَ الطَّوِيلَة: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشُّعَرَاء: 78- 81]، وَمِنَ الْمُتَوَسِّطَة: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [آلِ عِمْرَانَ: 27]. قَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَع: وَلَمْ يَأْتِ الْمُرَكَّبُ مِنَ الْقَصِيرَةِ فِي الْقُرْآنِ.
هُوَ اسْتِيفَاءُ أَقْسَامِ الشَّيْءِ الْمَوْجُودَةِ لَا الْمُمْكِنَةِ عَقْلًا، نَحْو: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الرَّعْد: 12]؛ إِذْ لَيْسَ فِي رُؤْيَةِ الْبَرْقِ إِلَّا الْخَوْفُ مِنَ الصَّوَاعِقِ وَالطَّمَعُ فِي الْأَمْطَارِ، وَلَا ثَالِثَ لِهَذَيْنَ الْقِسْمَيْنِ. وَقَوْلُهُ: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فَاطِرٍ: 32]، فَإِنَّ الْعَالَمَ لَا يَخْلُو مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثلَاثَة: إِمَّا عَاصٍ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، وَإِمَّا سَابِقٌ مُبَادِرٌ بِالْخَيْرَاتِ، وَإِمَّا مُتَوَسِّطٌ بَيْنَهُمَا مُقْتَصِدٌ فِيهَا. وَنَظِيرُهَا: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الْوَاقِعَة: 7- 10]، وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} [مَرْيَمَ: 64]، اسْتَوْفَى أَقْسَامَ الزَّمَانِ وَلَا رَابِعَ لَهَا. وَقَوْلُهُ: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} [النُّور: 45]، اسْتَوْفَى أَقْسَامَ الْخَلْقِ فِي الْمَشْيِ. وَقَوْلُهُ: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آلِ عِمْرَانَ: 191]، اسْتَوْفَى جَمِيعَ هَيْئَاتِ الذَّاكِرِ. وَقَوْلُهُ: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} [الشُّورَى: 49، 50]، اسْتَوْفَى جَمِيعَ أَحْوَالِ الْمُتَزَوِّجِينَ، وَلَا خَامِسَ لَهَا.
هُوَ أَنْ يَذْكُرَ الْمُتَكَلِّمَ أَلْوَانًا يَقْصِدُ التَّوْرِيَةَ بِهَا وَالْكِنَايَةَ. قَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَع: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ} [فَاطِرٍ: 27]. قَالَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- الْكِنَايَةُ عَنِ الْمُشْتَبَهِ وَالْوَاضِحِ مِنَ الطُّرُقِ; لِأَنَّ الْجَادَّةَ الْبَيْضَاءَ هِيَ الطَّرِيقُ الَّتِي كَثُرَ السُّلُوكُ عَلَيْهَا جِدًّا، وَهِيَ أَوْضَحُ الطُّرُقِ وَأَبْيَنُهَا. وَدُونَهَا الْحَمْرَاءُ، وَدُونَ الْحَمْرَاءِ السَّوْدَاءُ كَأَنَّهَا فِي الْخَفَاءِ وَالِالْتِبَاسِ ضِدَّ الْبَيْضَاءِ فِي الظُّهُورِ وَالْوُضُوحِ. وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْأَلْوَانُ الثَّلَاثَةُ فِي الظُّهُورِ لِلْعَيْنِ طَرَفَيْنِ وَوَاسِطَةً، فَالطَّرَفُ الْأَعْلَى فِي الظُّهُورِ الْبَيَاضُ، وَالطَّرْفُ الْأَدْنَى فِي الْخَفَاءِ السَّوَادُ، وَالْأَحْمَرُ بَيْنَهُمَا عَلَى وَضْعِ الْأَلْوَانِ فِي التَّرْكِيبِ، وَكَانَتْ أَلْوَانُ الْجِبَالِ لَا تَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْأَلْوَانِ الثَّلَاثَةِ، وَالْهِدَايَةُ بِكُلِّ عَلَمٍ نُصِبَ لِلْهِدَايَةِ مُنْقَسِمَةٌ هَذِهِ الْقِسْمَةَ، أَتَتِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مُنْقَسِمَةً كَذَلِكَ، فَحَصَلَ فِيهَا التَّدْبِيجُ وَصِحَّةُ التَّقْسِيمِ.
هُوَ أَنْ يَقْصِدَ الْمُتَكَلِّمُ إِلَى شَيْءٍ بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهِ، مِمَّا يَسُدُّ مَسَدَّهُ لِأَجْلِ نُكْتَةٍ فِي الْمَذْكُورِ تُرَجِّحُ مَجِيئَهُ عَلَى سِوَاهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى}، خَصَّ الشِّعْرَى بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ النُّجُومِ، وَهُوَ تَعَالَى رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَ ظَهَرَ فِيهِمْ رَجُلٌ يُعْرَفُ بِابْنِ أَبِي كَبْشَةَ عَبَدَ الشِّعْرَى، وَدَعَا خَلْقًا إِلَى عِبَادَتِهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} [النَّجْم: 49]، الَّتِي ادُّعِيَتْ فِيهَا الرُّبُوبِيَّةُ.
هُوَ أَنْ يُنْتَزَعَ مِنْ أَمْرٍ ذِي صِفَةٍ آخَرُ مِثْلُهُ مُبَالَغَةً فِي كَمَالِهَا فِيهِ، نَحْوُ: (لِي مِنْ فُلَانٍ صِدِّيقٍ حَمِيمٍ)، جَرَّدَ مِنَ الرَّجُلِ الصِّدِّيقِ آخَرَ مِثْلَهُ مُتَّصِفًا بِصِفَةِ الصَّدَاقَةِ، نَحْوُ: (وَمَرَرْتُ بِالرَّجُلِ الْكَرِيمِ وَالنَّسَمَةِ الْمُبَارَكَةِ)، جَرَّدُوا مِنَ الرَّجُلِ الْكَرِيمِ آخَرَ مِثْلَهُ مُتَّصِفًا بِصِفَةِ الْبَرَكَةِ، وَعَطَفُوهُ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ غَيْرُهُ، وَهُوَ هُوَ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي الْقُرْآن: {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ} [فُصِّلَتْ: 28]، لَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ الْجَنَّةَ فِيهَا دَارُ خُلْدٍ وَغَيْرُ دَارِ خُلْدٍ، بَلْ هِيَ نَفْسُهَا دَارُ الْخُلْدِ، فَكَأَنَّهُ جَرَّدَ مِنَ الدَّارِ دَارًا. ذَكَرَهُ فِي الْمُحْتَسَبِ. وَجُعِلَ مِنْهُ: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} [الْأَنْعَام: 95]. عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَيِّتِ النُّطْفَةُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: {فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرَّحْمَن: 37]، بِالرَّفْعِ بِمَعْنَى حَصَلَتْ مِنْهَا وَرْدَةٌ. قَالَ: وَهُوَ مِنَ التَّجْرِيدِ. وَقُرِئَ أَيْضًا: (يَرِثُنِي وَارِثٌ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) قَالَ ابْنُ جِنِّي: هَذَا هُوَ التَّجْرِيدُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يُرِيدُ: وَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلْيًّا يَرِثُنِي وَارِثٌ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَهُوَ الْوَارِثُ نَفْسُهُ، فَكَأَنَّهُ جَرَّدَ مِنْهُ وَارِثًا.
هُوَ إِيقَاعُ الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ عَلَى سِيَاقٍ وَاحِدٍ، وَأَكْثَرُ مَا يُوجَدُ فِي الصِّفَاتِ كَقَوْلِه: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [الْحَشْر: 23]، وَقَوْلُهُ: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ} الْآيَةَ [التَّوْبَة: 112]، وَقَوْلُهُ: {مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ} الْآيَةَ [التَّحْرِيم: 5].
هُوَ أَنْ يُورِدَ أَوْصَافَ الْمَوْصُوفِ عَلَى تَرْتِيبِهَا فِي الْخِلْقَةِ الطَّبِيعِيَّةِ، وَلَا يُدْخِلَ فِيهَا وَصْفًا زَائِدًا، وَمَثَّلَهُ عَبْدُ الْبَاقِي الْيَمَنِيُّ بِقَوْلِه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا} [غَافِرٍ: 67]، وَبِقَوْلِه: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} الْآيَةَ [الشَّمْس: 14]. التَّرَقِّي وَالتَّدَلِّي: تَقَدَّمَا فِي نَوْعِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ.
يُطْلَقُ عَلَى أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: إِيقَاعُ لَفْظٍ مَوْقِعَ غَيْرِهِ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَاهُ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْمَجَازِ تَقَدَّمَ فِيهِ. الثَّانِي: حُصُولُ مَعْنًى فِيهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ لَهُ بِاسْمٍ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْهُ، وَهَذَا نَوْعٌ مِنَ الْإِيجَازِ تَقَدَّمَ أَيْضًا. الثَّالِثُ: تَعَلُّقُ مَا بَعْدَ الْفَاصِلَةِ بِهَا، وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي نَوْعِ الْفَوَاصِلِ. الرَّابِعُ: إِدْرَاجُ كَلَامِ الْغَيْرِ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ، لِقَصْدِ تَأْكِيدِ الْمَعْنَى أَوْ تَرْتِيبِ النَّظْمِ. وَهَذَا هُوَ النَّوْعُ الْبَدِيعِيُّ. قَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَع: وَلَمْ أَظْفَرْ فِي الْقُرْآنِ بِشَيْءٍ مِنْهُ إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ تَضَمَّنَا فَصْلَيْنِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيل: قَوْلِه: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الْآيَةَ [الْمَائِدَة: 45]، وَقَوْلِه: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} الْآيَةَ [الْفَتْح: 29]. وَمَثَّلَهُ ابْنُ النَّقِيبِ وَغَيْرُهُ بِإِيدَاعِ حِكَايَاتِ الْمَخْلُوقِينَ فِي الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْمَلَائِكَة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [الْبَقَرَة: 30]، وَعَنِ الْمُنَافِقِينَ: {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} [31: 2]، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ} [الْبَقَرَة: 113]، {وَقَالَتِ النَّصَارَى} [الْبَقَرَة: 113]، قَالَ: وَكَذَلِكَ مَا أَوْدَعَ فِيهِ مِنَ اللُّغَاتِ الْأَعْجَمِيَّةِ.
هُوَ تَشَابُهُ اللَّفْظَيْنِ فِي اللَّفْظِ. قَالَ فِي كَنْزِ الْبَرَاعَةِ: وَفَائِدَتُهُ الْمَيْلُ إِلَى الْإِصْغَاءِ إِلَيْهِ، فَإِنَّ مُنَاسَبَةَ الْأَلْفَاظِ تُحْدِثُ مَيْلًا وَإِصْغَاءً إِلَيْهَا، وَلِأَنَّ اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ إِذَا حُمِلَ عَلَى مَعْنًى ثُمَّ جَاءَ وَالْمُرَادُ بِهِ آخَرُ كَانَ لِلنَّفْسِ تَشَوُّقٌ إِلَيْهِ. وَأَنْوَاعُ الْجِنَاسِ كَثِيرَةٌ. مِنْهَا: التَّامُّ بِأَنْ يَتَّفِقَا بِأَنْوَاعِ الْحُرُوفِ وَأَعْدَادِهَا وَهَيْئَاتِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الرُّوم: 55]، قِيلَ: وَلَمْ يَقَعْ مِنْهُ فِي الْقُرْآنِ سِوَاهُ. وَاسْتَنْبَطَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ حَجَرٍ مَوْضِعًا آخَرَ وَهُوَ: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [النُّور: 43، 44]. وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ كَوْنَ الْآيَةِ الْأُولَى مِنَ الْجِنَاسُ، وَقَالَ: السَّاعَةُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَالتَّجْنِيسُ: أَنْ يَتَّفِقَ الْلَّفْظُ وَيَخْتَلِفَ الْمَعْنَى، وَلَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا حَقِيقَةً وَالْآخِرُ مَجَازًا، بَلْ يَكُونَا حَقِيقَتَيْنِ، وَزَمَانُ الْقِيَامَةِ وَإِنْ طَالَ لَكِنَّهُ عِنْدَ اللَّهِ فِي حُكْمِ السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ، فَإِطْلَاقُ السَّاعَةِ عَلَى الْقِيَامَةِ مَجَازٌ، وَعَلَى الْآخِرَةِ حَقِيقَةٌ، وَبِذَلِكَ يَخْرُجُ الْكَلَامُ عَنِ التَّجْنِيسِ، كَمَا لَوْ قُلْتُ: رَكِبْتُ حِمَارًا وَلَقِيتُ حِمَارًا، تَعْنِي بَلِيدًا. وَمِنْهَا: الْمُصَحَّفُ: وَيُسَمَّى جِنَاسَ الْخَطِّ، بِأَنْ تَخْتَلِفَ الْحُرُوفُ فِي النَّقْطِ كَقَوْلِه: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشُّعَرَاء: 79، 80]. وَمِنْهَا: الْمُحَرَّفُ بِأَنْ يَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الْحَرَكَاتِ كَقَوْلِه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} [الصَّافَّات: 72، 73]، وَقَدِ اجْتَمَعَ التَّصْحِيفُ وَالتَّحْرِيفُ فِي قَوْلِه: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الْكَهْف: 104]. وَمِنْهَا: النَّاقِصُ بِأَنْ يَخْتَلِفَ فِي عَدَدِ الْحُرُوفِ؛ سَوَاءٌ كَانَ الْحَرْفُ الْمَزِيدُ أَوَّلًا أَوْ وَسَطًا أَوْ آخِرًا، كَقَوْلِه: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [الْقِيَامَة: 29، 30]، {ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [النَّحْل: 69]. وَمِنْهَا: الْمُذَيَّلُ بِأَنْ يَزِيدَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مِنْ حَرْفٍ فِي الْآخِرِ أَوِ الْأَوَّلِ، وَسَمَّى بَعْضُهُمُ الثَّانِي بِالْمُتَوَّجِ كَقَوْلِه: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ} [طَه: 97]، {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [الْقَصَص: 45]، {مَنْ آمَنَ بِهِ} [الْأَعْرَاف: 86]، {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ} [الْعَادِيَّات: 11]، {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ} [النِّسَاء: 143]. وَمِنْهَا: الْمُضَارِعُ، وَهُوَ أَنْ يَخْتَلِفَا بِحَرْفٍ مُقَارِبٍ فِي الْمَخْرَجِ؛ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْأُولَى أَوِ الْوَسَطِ أَوِ الْآخِرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} [الْأَنْعَام: 26]. وَمِنْهَا: اللَّاحِقُ بِأَنْ يَخْتَلِفَا بِحَرْفٍ غَيْرِ مُقَارَبٍ فِيهِ كَذَلِكَ، كَقَوْلِه: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الْهُمَزَة: 1]، {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [الْعَادِيَّات: 7، 8]، {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} [غَافِرٍ: 75]، {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ} [النِّسَاء: 83]. وَمِنْهَا: الْمُرْفَقُ: وَهُوَ مَا تَرَكَّبَ مِنْ كَلِمَةٍ وَبَعْضِ أُخْرَى كَقَوْلِه: {جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ} [التَّوْبَة: 105]. وَمِنْهَا: اللَّفْظِيُّ: بِأَنْ يَخْتَلِفَا بِحَرْفٍ مُنَاسِبٍ لِلْآخَرِ مُنَاسِبَةً لَفْظِيَّةً كَالضَّادِ وَالظَّاءِ، كَقَوْلِه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [الْقِيَامَة: 22، 23]. وَمِنْهَا: تَجْنِيسُ الْقَلْب: بِأَنْ يَخْتَلِفَا فِي تَرْتِيبِ الْحُرُوفِ، نَحْو: {فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [94: 20]. وَمِنْهَا: تَجْنِيسُ الِاشْتِقَاق: بِأَنْ يَجْتَمِعَا فِي أَصْلِ الِاشْتِقَاقِ، وَيُسَمَّى الْمُقْتَضَبَ، نَحْو: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} [الْوَاقِعَة: 89]، {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} [الرُّوم: 43]، {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} [الْأَنْعَام: 79]. وَمِنْهَا: تَجْنِيسُ الْإِطْلَاق: بِأَنْ يَجْتَمِعَا فِي الْمُشَابَهَةِ فَقَطْ كَقَوْلِه: {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ} [الرَّحْمَن: 54]، {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ} [الشُّعَرَاء: 168]، {لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي} [الْمَائِدَة: 31]، {وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ} [يُونُسَ: 107]، {اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ} [التَّوْبَة: 38]، {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ} إِلَى قَوْلِه: {فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} [فُصِّلَتْ: 51].
تَنْبِيهٌ: لِكَوْنِ الْجِنَاسِ مِنَ الْمَحَاسِنِ اللَّفْظِيَّةِ لَا الْمَعْنَوِيَّةِ تُرِكَ عِنْدَ قُوَّةِ الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يُوسُفَ: 17]، قِيلَ: مَا الْحِكْمَةُ فِي كَوْنِهِ لَمْ يَقُلْ: (وَمَا أَنْتِ بِمُصَدِّقٍ)، فَإِنَّهُ يُؤَدِّي مَعْنَاهُ مَعَ رِعَايَةِ التَّجْنِيسِ. وَأُجِيبُ: بِأَنَّ فِي: {بِمُؤْمِنٍ لَنَا} مِنَ الْمَعْنَى لَيْسَ فِي (مُصَدِّقٍ)؛ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِكَ: (فُلَانٌ مُصَدِّقٌ لِي) قَالَ لِي: صَدَقْتَ، وَأَمَّا (مُؤْمِنٌ) فَمَعْنَاهُ مَعَ رِعَايَةِ التَّصْدِيقِ إِعْطَاءُ الْأَمْنِ، وَمَقْصُودُهُمُ التَّصْدِيقُ وَزِيَادَةٌ؛ وَهُوَ طَلَبُ الْأَمْنِ، فَلِذَلِكَ عَبَّرَ بِهِ. وَقَدْ زَلَّ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ فَقَالَ فِي قَوْلِه: {أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} [الصَّافَّات: 125]، لَوْ قَالَ: (وَتَدَعُونَ) لَكَانَ فِيهِ مُرَاعَاةُ التَّجْنِيسِ. وَأَجَابَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّين: بِأَنَّ فَصَاحَةَ الْقُرْآنِ لَيْسَتْ لِرِعَايَةِ هَذِهِ التَّكَلُّفَاتِ، بَلْ لِأَجْلِ قُوَّةِ الْمَعَانِي وَجَزَالَةِ الْأَلْفَاظِ. وَأَجَابَ غَيْرُهُ بِأَنَّ مُرَاعَاةَ الْمَعَانِي أَوْلَى مِنْ مُرَاعَاةِ الْأَلْفَاظِ، وَلَوْ قَالَ: (أَتَدْعُونَ)، (وَتَدَعُونَ) لَوَقَعَ الِالْتِبَاسِ عَلَى الْقَارِئِ فَيَجْعَلُهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ تَصْحِيفًا. وَهَذَا الْجَوَابُ غَيْرُ نَاضِجٍ. وَأَجَابَ ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ بِأَنَّ التَّجْنِيسَ تَحْسِينٌ، وَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي مَقَامِ الْوَعْدِ وَالْإِحْسَانِ لَا فِي مَقَامِ التَّهْوِيلِ. وَأَجَابَ الْخُوَيِّيُّ بِأَنَّ (تَدَعُ) أَخَصُّ مِنْ (تَذَرُ)؛ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى تَرْكِ الشَّيْءِ مَعَ اعْتِنَائِهِ بِشَهَادَةِ الِاشْتِقَاقِ، نَحْوَ الْإِيدَاعِ، فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِ الْوَدِيعَةِ مَعَ الِاعْتِنَاءِ بِحَالِهَا، وَلِهَذَا يُخْتَارُ لَهَا مَنْ هُوَ مُؤْتَمَنٌ عَلَيْهَا، وَمِنْ ذَلِكَ الدَّعَةُ بِمَعْنَى الرَّاحَةِ، وَأَمَّا (تَذَرُ) فَمَعْنَاهُ التَّرْكُ مُطْلَقًا أَوِ التُّرْكُ مَعَ الْإِعْرَاضِ وَالرَّفْضِ الْكُلِّيِّ. قَالَ الرَّاغِبُ: يُقَالُ: فَلَانٌ يَذَرُ الشَّيْءَ؛ أَيْ: يَقْذِفُهُ لِقِلَّةِ الِاعْتِدَادِ بِهِ، وَمِنْهُ الْوَذَرَةُ- قِطْعَةٌ مِنَ اللَّحْمِ- لِقِلَّةِ الِاعْتِدَادِ بِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ السِّيَاقَ إِنَّمَا يُنَاسِبُ هَذَا دُونَ الْأَوَّلِ، فَأُرِيدَ هُنَا تَبْشِيعُ حَالِهِمْ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْ رَبِّهِمْ، وَأَنَّهُمْ بَلَغُوا الْغَايَةَ فِي الْإِعْرَاضِ. انْتَهَى.
هُوَ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ أَوْ أَشْيَاءَ مُتَعَدِّدَةٍ فِي حُكْمٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الْكَهْف: 46]، جَمَعَ الْمَالَ وَالْبَنُونَ فِي الزِّينَةِ. وَكَذَا قَوْلُهُ: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرَّحْمَن: 5، 6].
هُوَ أَنْ تُدْخِلَ شَيْئَيْنِ فِي مَعْنًى، وَتُفَرِّقَ بَيْنَ جِهَتَيِ الْإِدْخَالِ، وَجَعَلَ مِنْهُ الطِّيبِيُّ قَوْلَهُ: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} الْآيَةَ [الزُّمَر: 42]، جَمَعَ النَّفْسَيْنِ فِي حُكْمِ التَّوَفِّي، ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَ جِهَتَيِ التَّوَفِّي بِالْحُكْمِ بِالْإِمْسَاكِ وَالْإِرْسَالِ؛ أَي: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ الَّتِي تُقْبَضُ، وَالَّتِي لَمْ تُقْبَضُ، فَيُمْسِكُ الْأُولَى وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى.
وَهُوَ جَمْعُ مُتَعَدِّدٍ تَحْتَ حُكْمٍ، ثُمَّ تَقْسِيمُهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فَاطِرٍ: 32].
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} الْآيَاتِ، فَالْجَمْعُ فِي قَوْلِه: {لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ}؛ لِأَنَّهَا مُتَعَدِّدَةٌ مَعْنًى؛ إِذِ النَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ تَعُمُّ. وَالتَّفْرِيقُ فِي قَوْلِه: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ}، وَالتَّقْسِيمُ فِي قَوْلِه: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا}، {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا}.
هُوَ أَنْ يُرِيدَ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ مَمْدُوحِينَ، فَيَأْتِيَ بِمَعَانٍ مُؤْتَلِفَةٍ فِي مَدْحِهَا، وَيَرُومُ بَعْدَ ذَلِكَ تَرْجِيحَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ بِزِيَادَةِ فَضْلٍ لَا يُنْقِصُ الْآخَرَ فَيَأْتِي لِأَجْلِ ذَلِكَ بِمَعَانٍ تُخَالِفُ مَعْنَى التَّسْوِيَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ} الْآيَةَ [الْأَنْبِيَاء: 78]، سَوَّى فِي الْحُكْمِ وَالْعِلْمِ، وَزَادَ فَضْلُ سُلَيْمَانَ بِالْفَهْمِ.
هُوَ أَنْ يَأْتِيَ الْمُتَكَلِّمَ بِكَلِمَاتٍ مُتَتَالِيَاتٍ مَعْطُوفَاتٍ مُتَلَاحِمَاتٍ تَلَاحُمًا سَلِيمًا مُسْتَحْسَنًا بِحَيْثُ إِذَا أُفْرِدَتْ كُلُّ جُمْلَةٍ مِنْهُ قَامَتْ بِنَفْسِهَا، وَاسْتَقَلَّ مَعْنَاهَا بِلَفْظِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} الْآيَةَ [هُودٍ: 44]، فَإِنَّ جُمَلَهُ مَعْطُوفٌ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ بِوَاوِ النَّسَقِ عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْبَلَاغَةُ مِنَ الِابْتِدَاءِ بِالِاسْمِ الَّذِي هُوَ انْحِسَارُ الْمَاءِ عَنِ الْأَرْضِ الْمُتَوَقِّفُ عَلَيْهِ غَايَةُ مَطْلُوبِ أَهْلِ السَّفِينَةِ مِنَ الْإِطْلَاقِ مَنْ سِجْنِهَا، ثُمَّ انْقِطَاعُ مَادَّةِ السَّمَاءِ الْمُتَوَقِّفِ عَلَيْهِ تَمَامُ ذَلِكَ مِنْ دَفْعِ أَذَاهُ بَعْدَ الْخُرُوجِ. وَمِنْهُ اخْتِلَافُ مَا كَانَ بِالْأَرْضِ ثُمَّ الْإِخْبَارُ بِذَهَابِ الْمَاءِ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْمَادَّتَيْنِ الَّذِي هُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ قَطْعًا، ثُمَّ بِقَضَاءِ الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ هَلَاكُ مَنْ قُدِّرَ هَلَاكُهُ، وَنَجَاةُ مَنْ سَبَقَ نَجَاتُهُ، وَأُخِّرَ عَمَّا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ عِلْمَ ذَلِكَ لِأَهْلِ السَّفِينَةِ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْهَا وَخُرُوجُهُمْ مَوْقُوفٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ أَخْبَرَ بِاسْتِوَاءِ السَّفِينَةِ وَاسْتِقْرَارِهَا الْمُفِيدِ ذَهَابَ الْخَوْفِ وَحُصُولَ الْأَمْنِ مِنَ الِاضْطِرَابِ، ثُمَّ خَتَمَ بِالدُّعَاءِ عَلَى الظَّالِمِينَ، لِإِفَادَةِ أَنَّ الْغَرَقَ وَإِنَّ عَمَّ الْأَرْضَ، فَلَمْ يَشْمَلْ إِلَّا مَنِ اسْتَحَقَّ الْعَذَابَ لِظُلْمِهِ.
مِنْهُ {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي} الْآيَاتِ، وَقَوْلُهُ: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} الْآيَاتِ.
هُوَ أَنْ يُؤْتَى بِكَلَامٍ يُقَدَّمُ فِيهِ جُزْءٌ وَيُؤَخُّرُ آخَرُ ثُمَّ يُقَدَّمُ الْمُؤَخَّرَ وَيُؤَخَّرُ الْمُقَدَّمُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الْأَنْعَام: 52]، {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} [الْحَجّ: 61]، {وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [يُونُسَ: 31]، {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} [الْبَقَرَة: 187]، {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الْمُمْتَحِنَة: 10]. وَقَدْ سُئِلَ عَنِ الْحِكْمَةِ فِي عَكْسِ اللَّفْظُ فِي الْقُرْآنِ هَذَا اللَّفْظِ فَأَجَابَ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ فَائِدَتَهُ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ. وَقَالَ الشَّيْخُ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ الصاحِب: الْحَقُّ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ فِعْلِ الْمُؤْمِنَةِ وَالْكَافِرُ مَنْفِيٌّ عَنْهُ الْحِلُّ، أَمَّا فِعْلُ الْمُؤْمِنَةِ فَيَحْرُمُ لِأَنَّهَا مُخَاطَبَةٌ، وَأَمَّا فِعْلُ الْكَافِرِ فَنُفِيَ عَنْهُ الْحِلُّ بِاعْتِبَارِ أَنَّ هَذَا الْوَطْءَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْمَفْسَدَةِ، فَلَيْسَ الْكُفَّارُ مَوْرِدَ الْخِطَابِ، بَلِ الْأَئِمَّةُ وَمَنْ قَامَ مَقَامَهُمْ مُخَاطَبُونَ بِمَنْعِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَ بِإِخْلَاءِ الْوُجُودِ مِنَ الْمَفَاسِدِ، فَاتَّضَحَ أَنَّ الْمُؤْمِنَةَ نُفِيَ عَنْهَا الْحِلُّ بِاعْتِبَارٍ، وَالْكَافِرُ نُفِيَ عَنْهُ الْحِلُّ بِاعْتِبَارٍ. قَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَع: وَمِنْ غَرِيبِ أُسْلُوبِ هَذَا النَّوْعِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا}، {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [النِّسَاء: 124، 125]، فَإِنَّ نَظْمَ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ عَكْسُ نَظْمِ الْأُولَى، لِتَقْدِيمِ الْعَمَلِ فِي الْأُولَى عَلَى الْإِيمَانِ وَتَأْخِيرِهِ فِي الثَّانِيَةِ عَنِ الْإِسْلَامِ. وَمِنْهُ نَوْعٌ يُسَمَّى الْقَلْبُ وَالْمَقْلُوبُ الْمُسْتَوِي، وَمَا لَا يَسْتَحِيلُ بِالِانْعِكَاسِ، وَهُوَ أَنْ تُقْرَأَ الْكَلِمَةُ مِنْ آخِرِهَا إِلَى أَوَّلِهَا كَمَا تُقْرَأُ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ} [الْأَنْبِيَاء: 33]، {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [الْمُدَّثِّر: 3]، وَلَا ثَالِثَ لَهُمَا فِي الْقُرْآنِ.
قَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَع: هُوَ أَنْ يَأْخُذَ الْمُتَكَلِّمُ فِي غَرَضٍ فَيَأْتِي لِقَصْدِ تَكْمِيلِهِ وَتَأْكِيدِهِ بِأَمْثِلَةٍ فِي أَلْفَاظٍ تَكُونُ عُنْوَانًا لِأَخْبَارٍ مُتَقَدِّمَةٍ وَقِصَصٍ سَالِفَةٍ. وَمِنْهُ نَوْعٌ عَظِيمٌ جِدًّا، وَهُوَ عُنْوَانُ الْعُلُومِ، بِأَنْ يُذْكَرَ فِي الْكَلَامِ أَلْفَاظًا تَكُونُ مَفَاتِيحَ الْعُلُومِ وَمَدَاخِلَ لَهَا. فَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} الْآيَةَ [الْأَعْرَاف: 175]، فَإِنَّهُ عُنْوَانُ قِصَّةِ بَلْعَامَ. وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى: {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ} الْآيَةَ [الْمُرْسَلَات: 30]، فِيهَا عُنْوَانُ عِلْمِ الْهَنْدَسَةِ، فَإِنَّ الشَّكْلَ الْمُثَلَّثَ أَوَّلُ الْأَشْكَالِ، وَإِذَا نُصِبَ فِي الشَّمْسِ عَلَى أَيِّ ضِلْعٍ مِنْ أَضْلَاعِهِ لَا يَكُونُ لَهُ ظِلٌّ، لِتَحْدِيدِ رُءُوسِ زَوَايَاهُ، فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَهْلَ جَهَنَّمَ بِالِانْطِلَاقِ إِلَى ظِلِّ هَذَا الشَّكْلِ تَهَكُّمًا بِهِمْ. وَقَوْلُهُ: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الْأَنْعَام: 75]، الْآيَاتُ، فِيهَا عُنْوَانُ عِلْمِ الْكَلَامِ، وَعِلْمِ الْجَدَلِ، وَعِلْمِ الْهَيْئَةِ.
هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْفَصَاحَةِ دُونَ الْبَلَاغَةِ; لِأَنَّهُ الْإِتْيَانُ بِلَفْظَةٍ تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْفَرِيدَةِ مِنَ الْعِقْدِ- وَهِيَ الْجَوْهَرَةُ الَّتِي لَا نَظِيرَ لَهَا- تَدُلُّ عَلَى عِظَمِ فَصَاحَةِ هَذَا الْكَلَامِ، وَقُوَّةِ عَارِضَتِهِ، وَجَزَالَةِ مَنْطِقِهِ، وَأَصَالَةِ عَرَبِيَّتِهِ، بِحَيْثُ لَوْ أُسْقِطَتْ مِنَ الْكَلَامِ عَزَّتْ عَلَى الْفُصَحَاءِ. وَمِنْهُ لَفْظُ (حَصْحَصَ) فِي قَوْلِه: {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} وَ(الرَّفَثُ) فِي قَوْلِه: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [الْبَقَرَة: 187]، وَلَفْظَةُ (فُزِّعَ) فِي قَوْلِه: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} [سَبَإٍ: 23]، وَ(خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ) فِي قَوْلِه: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} [غَافِرٍ: 19]. وَأَلْفَاظُ قَوْلِه: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا} [يُوسُفَ: 80]، وَقَوْلِه: {فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ} [الصَّافَّات: 177].
هُوَ أَنْ يُرِيدَ الْمُتَكَلِّمُ الْحَلِفَ عَلَى شَيْءٍ، فَيَحْلِفُ بِمَا يَكُونُ فِيهِ فَخْرٌ لَهُ أَوْ تَعْظِيمٌ لِشَأْنِهِ أَوْ تَنْوِيهٌ لِقَدْرِهِ أَوْ ذَمٌّ لِغَيْرِهِ أَوْ جَارِيًا مَجْرَى الْغَزَلِ الرَّقِيقِ أَوْ خَارِجًا مَخْرَجَ الْمَوْعِظَةِ وَالزُّهْدِ كَقَوْلِه: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذَّارِيَات: 23]، أَقْسَمَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِقَسَمٍ، فَوَجَبَ الْفَخْرُ لِتَضَمُّنِهِ التَّمَدُّحَ بِأَعْظَمِ قُدْرَةٍ وَأَجَلِّ عَظَمَةٍ. {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الْحِجْر: 72]، أَقْسَمَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِحَيَاةِ نَبِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ وَتَنْوِيهًا بَقَدْرِهِ. وَسَيَأْتِي فِي نَوْعِ الْأَقْسَامِ أَشْيَاءُ تَتَعَلَّقُ بذَلِكَ.
هُوَ أَنْ يُذْكَرَ شَيْئَانِ أَوْ أَشْيَاءُ، إِمَّا تَفْصِيلًا بِالنَّصِّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ، أَوْ إِجْمَالًا بِأَنْ يُؤْتَى بِلَفْظٍ يَشْتَمِلُ عَلَى مُتَعَدِّدٍ ثُمَّ يُذْكَرَ أَشْيَاءُ عَلَى عَدَدِ ذَلِكَ، كُلُّ وَاحِدٍ يَرْجِعُ إِلَى وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَقَدِّمِ، وَيُفَوِّضُ إِلَى عَقْلِ السَّامِعِ رَدَّ كُلِّ وَاحِدٍ إِلَى مَا يَلِيقُ بِهِ. فَالْإِجْمَالِيُّ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [الْبَقَرَة: 111]؛ أَيْ: وَقَالَتِ الْيَهُودُ: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا الْيَهُودُ، وَقَالَتِ النَّصَارَى: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا النَّصَارَى، وَإِنَّمَا سَوَّغَ الْإِجْمَالَ فِي اللَّفِّ ثُبُوتُ الْعِنَادِ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ بِدُخُولِ الْفَرِيقِ الْآخَرِ الْجَنَّةَ، فَوُثِقَ بِالْعَقْلِ فِي أَنَّهُ يَرُدُّ كُلَّ قَوْلٍ إِلَى فَرِيقِهِ لِأَمْنِ اللَّبْسِ، وَقَائِلُ ذَلِكَ يَهُودُ الْمَدِينَةِ وَنَصَارَى نَجْرَانَ. قُلْتُ: وَقَدْ يَكُونُ الْإِجْمَالُ فِي النَّشْرِ لَا فِي اللَّفِّ، بِأَنْ يُؤْتَى بِمُتَعَدِّدٍ، ثُمَّ بِلَفْظٍ يَشْتَمِلُ عَلَى مُتَعَدِّدٍ يَصْلُحُ لَهُمَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [الْبَقَرَة: 187]، عَلَى قَوْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ: أَنَّ الْخَيْطَ الْأَسْوَدَ أُرِيدَ بِهِ الْفَجْرُ الْكَاذِبُ لَا اللَّيْلُ، وَقَدْ بَيَّنْتُهُ فِي أَسْرَارِ التَّنْزِيلِ اللَّفُّ وَالنَّشْرُ فِي الْقُرْآنِ. وَالتَّفْصِيلِيُّ قِسْمِان: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ عَلَى تَرْتِيبِ اللَّفِّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [الْقَصَص: 73]، فَالسُّكُونُ رَاجِعٌ إِلَى اللَّيْلِ، وَالِابْتِغَاءُ رَاجِعٌ إِلَى النَّهَارِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الْإِسْرَاء: 29]، فَاللَّوْمُ رَاجِعٌ إِلَى الْبُخْلِ وَ(مَحْسُورًا) رَاجِعٌ إِلَى الْإِسْرَافِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ مُنْقَطِعًا لَا شَيْءَ عِنْدَكَ. وَقَوْلِه: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا} الْآيَاتِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِه: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى}، {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِه: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا}، فَإِنَّ الْمُرَادَ السَّائِلُ عَنِ الْعِلْمِ، كَمَا فَسَّرَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ. {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِه: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضُّحَى: 6- 11]، رَأَيْتُ هَذَا الْمِثَالَ فِي شَرْحِ الْوَسِيطِ لِلنَّوَوِيِّ الْمُسَمَّى بِـ التَّنْقِيحِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَى عَكْسِ تَرْتِيبِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} [آلِ عِمْرَانَ: 106]، وجَعَلَ مِنْهُ جَمَاعَةٌ قَوْلَهُ تَعَالَى: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [الْبَقَرَة: 214]، قَالُوا: {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} قَوْلُ الَّذِينَ آمَنُوا. {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} قَوْلُ الرَّسُول: وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ لَهُ قِسْمًا آخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [الرُّوم: 23]، قَالَ: هَذَا مِنْ بَابِ اللَّفِّ، وَتَقْدِيرُهُ: وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، إِلَّا أَنَّهُ فَصَلَ بَيْنَ (مَنَامِكُمْ) و (وَابْتِغَاؤُكُمْ) بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ؛ لِأَنَّهُمَا زَمَانَانِ، وَالزَّمَانُ وَالْوَاقِعُ فِيهِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ مَعَ إِقَامَةِ اللَّفِّ عَلَى الِاتِّحَادِ.
ذِكْرُ الشَّيْءِ بِلَفْظِ غَيْرِهِ لِوُقُوعِهِ فِي صُحْبَتِهِ تَحْقِيقًا أَوْ تَقْدِيرًا، فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [الْمَائِدَة: 116]، {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آلِ عِمْرَانَ: 54]، فَإِنَّ إِطْلَاقَ النَّفْسِ وَالْمَكْرِ فِي جَانِبِ الْبَارِي تَعَالَى لِمُشَاكَلَةِ مَا مَعَهُ. وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشُّورَى: 40]؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ حَقٌّ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ سَيِّئَةٌ. {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} [الْبَقَرَة: 194]، {الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ} [الْجَاثِيَة: 34]، {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} [التَّوْبَة: 79]، {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [الْبَقَرَة: 14، 15]. وَمِثَالُ التَّقْدِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {صِبْغَةَ اللَّهِ} [الْبَقَرَة: 138]؛ أَيْ: تَطْهِيرُ اللَّهِ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ يُطَهِّرُ النُّفُوسَ، وَالْأَصْلُ فِيه: أَنَّ النَّصَارَى كَانُوا يَغْمِسُونَ أَوْلَادَهُمْ فِي مَاءٍ أَصْفَرَ يُسَمُّونَهُ الْمَعْمُودِيَّةَ، وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ تَطْهِيرٌ لَهُمْ، فَعَبَّرَ عَنِ الْإِيمَانِ بِصِبْغَةِ اللَّهِ لِلْمُشَاكَلَةِ بِهَذِهِ الْقَرِينَةِ.
أَنْ يُزَاوَجَ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ فِي الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ أَوْ مَا جَرَى مَجْرَاهُمَا كَقَوْلِه: إِذَا مَا نَهَى النَّاهِي فَلَجَّ بِيَ الْهَوَى *** أَصَاخَتْ إِلَى الْوَاشِي فَلَجَّ بِهَا الْهَجْرُ وَمِنْهُ فِي الْقُرْآن: {آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الْأَعْرَاف: 175].
أَنْ يَذْكُرَ الْمُتَكَلِّمُ وَصْفًا فَيَزِيدُ فِيهِ حَتَّى يَكُونَ أَبْلَغَ فِي الْمَعْنَى الَّذِي قَصَدَهُ، وَهِيَ ضَرْبَان: مُبَالَغَةٌ بِالْوَصْف: بِأَنْ يَخْرُجَ إِلَى حَدِّ الِاسْتِحَالَةِ، وَمِنْهُ: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النُّور: 35]، {وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الْأَعْرَاف: 40]. وَمُبَالَغَةٌ بِالصِّيغَة: وَصِيَغُ الْمُبَالَغَةِ (فَعْلَانُ) كَالرَّحْمَنِ، وَ(فَعِيلٌ) كَالرَّحِيمِ، وَ(فَعَّالٌ) كَالتَّوَّابِ وَالْغَفَّارِ وَالْقَهَّارِ، وَ(فَعُولٌ) كَغَفُورٍ وَشَكُورٍ وَوَدُودٍ، وَ(فَعِلٌ) كَحَذِرٍ وَأَشِرٍ وَفَرِحٍ، وَ(فُعَالٌ) بِالتَّخْفِيفِ كَعُجَابٍ، وَبِالتَّشْدِيدِ كَكُبَّارٍ، وَ(فُعَلٌ) كَلُبَدٍ وَكُبَرٍ، وَ(فُعْلَى) كَالْعُلْيَا وَالْحُسْنَى وَشُورَى وَالسُّوءَى.
فَائِدَةٌ: الْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّ (فَعْلَانَ) أَبْلَغُ مِنْ (فَعِيلٍ)، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ (الرَّحْمَنُ) أَبْلَغُ مِنَ (الرَّحِيمِ). وَنَصَرَهُ السُّهَيْلِيُّ بِأَنَّهُ وَرَدَ عَلَى صِيغَةِ التَّثْنِيَةِ، فِي الْقُرْآنِ وَالتَّثْنِيَةُ تَضْعِيفٌ، فَكَأَنَّ الْبِنَاءَ تَضَاعَفَتْ فِيهِ الصِّفَةُ. وَذَهَبَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ إِلَى أَنَّ الرَّحِيمَ أَبْلَغُ مِنَ الرَّحْمَنِ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ بِتَقْدِيمِ الرَّحْمَنِ عَلَيْهِ، وَبِأَنَّهُ جَاءَ عَلَى صِيغَةِ الْجَمْعِ كَعَبِيدٍ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ صِيغَةِ التَّثْنِيَةِ. وَذَهَبُ قُطْرُبٌ إِلَى أَنَّهُمَا سَوَاءٌ.
فَائِدَةٌ: ذَكَرَ الْبُرْهَانُ الرَّشِيدِيُّ أَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ الَّتِي عَلَى صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ كُلُّهَا مَجَازٌ؛ فِي الْقُرْآنِ لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلْمُبَالَغَةِ، وَلَا مُبَالِغَةَ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْمُبَالَغَةَ أَنْ ثُثْبِتَ أَكْثَرَ مِمَّا لَهُ، وَصِفَاتُهُ تَعَالَى مُتَنَاهِيَةٌ فِي الْكَمَالِ، لَا يُمْكِنُ الْمُبَالَغَةُ فِيهَا، وَأَيْضًا فَالْمُبَالَغَةُ تَكُونُ فِي صِفَاتٍ تَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ، وَصِفَاتُ اللَّهِ مُنَزَّهَةٌ عَنْ ذَلِكَ. وَاسْتَحْسَنَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ. وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْبُرْهَان: التَّحْقِيقُ أَنَّ صِيَغَ الْمُبَالَغَةِ فِي الْقُرْآنِ قِسْمِانِ. أَحَدُهَا: مَا تَحْصُلُ الْمُبَالَغَةُ فِيهِ بِحَسَبِ زِيَادَةِ الْفِعْلِ. وَالثَّانِي: بِحَسَبِ تَعَدُّدِ الْمَفْعُولَاتِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَعَدُّدَهَا لَا يُوجِبُ لِلْفِعْلِ زِيَادَةً؛ إِذِ الْفِعْلُ الْوَاحِدُ قَدْ يَقَعُ عَلَى جَمَاعَةٍ مُتَعَدِّدِينَ، وَعَلَى هَذَا الْقِسْمِ تَنْزِلُ صِفَاتُهُ تَعَالَى وَيَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ فِي (حَكِيمِ): مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ فِيهِ تَكْرَارُ حُكْمِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّرَائِعِ. وَقَالَ فِي الْكَشَّاف: الْمُبَالَغَةُ فِي التَّوَّابِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى كَثْرَةِ مَنْ يَتُوبُ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادِهِ، أَوْ لِأَنَّهُ بَلِيغٌ فِي قَبُولِ التَّوْبَة: نُزِّلَ صَاحِبُهَا مَنْزِلَةَ مَنْ لَمْ يُذْنِبْ قَطُّ لِسَعَةِ كَرَمِهِ. وَقَدْ أَوْرَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ سُؤَالًا عَلَى قَوْلِه: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الْبَقَرَة: 284]، وَهُوَ أَنَّ قَدِيرًا مِنْ صِيَغِ الْمُبَالِغَةِ فَيَسْتَلْزِمُ الزِّيَادَةَ عَلَى مَعْنَى (قَادِرٍ)، وَالزِّيَادَةُ عَلَى مَعْنَى (قَادِرٍ) مُحَالٌ؛ إِذِ الْإِيجَادُ مِنْ وَاحِدٍ لَا يُمْكِنُ فِيهِ التَّفَاضُلُ بِاعْتِبَارِ كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٌ. وَأُجِيبُ: بِأَنَّ الْمُبَالَغَةَ لَمَّا تَعَذَّرَ حَمْلُهَا عَنْ كُلِّ فَرْدٍ وَجَبَ صَرْفُهَا إِلَى مَجْمُوعِ الْأَفْرَادِ الَّتِي دَلَّ السِّيَاقُ عَلَيْهَا، فَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَثْرَةِ الْمُتَعَلَّقِ لَا الْوَصْفِ.
وَتُسَمَّى الطِّبَاقُ: الْجَمْعُ بَيْنَ مُتَضَادَّيْنِ فِي الْجُمْلَةِ. وَهُوَ قِسْمِان: حَقِيقِيٌّ وَمَجَازِيٌ: وَالثَّانِي يُسَمَّى التَّكَافُؤُ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا إِمَّا لَفْظِيٌّ أَوْ مَعْنَوِيٌّ وَإِمَّا طِبَاقُ إِيجَابٍ أَوْ سَلْبٍ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} [التَّوْبَة: 82]، {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} [النَّجْم: 43، 44]، {لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الْحَدِيد: 23]، {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} [الْكَهْف: 18]. وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْمَجَازِيّ: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الْأَنْعَام: 122]؛ أَيْ: ضَالًّا فَهَدَيْنَاهُ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ طِبَاقِ السَّلْب: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [الْمَائِدَة: 166]، {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [الْمَائِدَة: 44]. وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْمَعْنَوِيّ: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} [يس: 15، 16]، مَعْنَاهُ: رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا لَصَادِقُونَ. {جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [الْبَقَرَة: 22]، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: لَمَّا كَانَ الْبِنَاءُ رَفْعًا لِلْمَبْنِي قُوبِلَ بِالْفِرَاشِ الَّذِي هُوَ عَلَى خِلَافِ الْبِنَاءِ. وَمِنْهُ نَوْعٌ يُسَمَّى الطِّبَاقَ الْخَفِيَّ، كَقَوْلِه: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} [نُوحٍ: 25]؛ لِأَنَّ الْغَرَقَ مِنْ صِفَاتِ الْمَاءِ، فَكَأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَاءِ وَالنَّارِ. قَالَ ابْنُ مُنْقِذٍ: وَهِيَ أَخْفَى مُطَابَقَةٍ فِي الْقُرْآنِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُعْتَزّ: مِنْ أَمْلَحِ الطِّبَاقِ وَأَخْفَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [الْبَقَرَة: 179]؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْقِصَاصِ الْقَتْلُ، فَصَارَ الْقَتْلُ سَبَبُ الْحَيَاةِ.
وَمِنْهُ نَوْعٌ يُسَمَّى تَرْصِيعُ الْكَلَامِ، فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ اقْتِرَانُ الشَّيْءِ بِمَا يَجْتَمِعُ مَعَهُ فِي قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ، كَقَوْلِه: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [طَه: 118، 119]، أَتَى بِالْجُوعِ مَعَ الْعُرْيِ، وَبَابُهُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الظَّمَأِ. وَبِالضُّحَى مَعَ الظَّمَأِ، وَبَابُهُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْعُرْيِ، لَكِنَّ الْجُوعَ وَالْعُرْيَ اشْتَرَكَا فِي الْخُلُوِّ؛ فَالْجُوعُ خُلُوُّ الْبَاطِنِ مِنَ الطَّعَامِ، وَالْعُرْيُ خُلُوُّ الظَّاهِرِ مِنَ اللِّبَاسِ. وَالظَّمَأُ وَالضُّحَى اشْتَرَكَا فِي الِاحْتِرَاقِ، فَالظَّمَأُ احْتِرَاقُ الْبَاطِنِ مِنَ الْعَطَشِ، وَالضُّحَى احْتِرَاقُ الظَّاهِرِ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ.
وَمِنْهُ نَوْعٌ يُسَمَّى الْمُقَابَلَةُ وَأَنْوَاعُهَا فِي الْقُرْآن: وَهِيَ أَنْ يُذْكَرَ لَفْظَانِ فَأَكْثَرُ ثُمَّ أَضْدَادُهُمَا عَلَى التَّرْتِيبِ. قَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَع: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الطِّبَاقِ وَالْمُقَابَلَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الطِّبَاقَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ ضِدَّيْنِ فَقَطْ، وَالْمُقَابَلَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بِمَا زَادَ مِنَ الْأَرْبَعَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الطِّبَاقَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِأَضْدَادٍ، وَالْمُقَابَلَةَ بِالْأَضْدَادِ بِغَيْرِهَا. قَالَ السَّكَّاكِيُّ: وَمِنْ خَوَاصِّ الْمُقَابَلَةِ أَنَّهُ إِذَا شُرِطَ فِي الْأَوَّلِ أَمْرٌ شُرِطَ فِي الثَّانِي ضِدُّهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [اللَّيْل: 5]، قَابَلَ بَيْنَ الْإِعْطَاءِ وَالْبُخْلِ، وَالِاتِّقَاءِ وَالِاسْتِغْنَاءِ، وَالتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ، وَالْيُسْرَى وَالْعُسْرَى، وَلَمَّا جُعِلَ التَّيْسِيرُ فِي الْأَوَّلِ مُشْتَرِكًا بَيْنَ الْإِعْطَاءِ وَالِاتِّقَاءِ وَالتَّصْدِيقِ، جُعِلَ ضِدُّهُ- وَهُوَ التَّعْسِيرُ- مُشْتَرِكًا بَيْنَ أَضْدَادِهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُقَابَلَةُ إِمَّا لِوَاحِدٍ بِوَاحِدٍ، وَذَلِكَ قَلِيلٌ جِدًّا كَقَوْلِه: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [الْبَقَرَة: 255]. أَوِ اثْنَيْنِ بِاثْنَيْنِ كَقَوْلِه: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} [التَّوْبَة: 82]. أَوَ ثَلَاثَةٍ بِثَلَاثَةٍ كَقَوْلِه: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الْأَعْرَاف: 157]، {وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [الْبَقَرَة: 152]. وَأَرْبَعَةٍ بِأَرْبَعَةٍ كَقَوْلِه: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى} الْآيَتَيْنِ [اللَّيْل: 5]. وَخَمْسَةٍ بِخَمْسَةٍ كَقَوْلِه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا} [الْبَقَرَة: 26]، الْآيَاتِ، قَابَلَ بَيْنَ: (بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا)، وَبَيْنَ: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) وَ(أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا)، وَبَيْنَ: (يُضِلُّ) وَ(يَهْدِي) وَبَيْنَ (يَنْقُضُونَ) وَ(مِيثَاقِهِ)، وَبَيْنَ (يَقْطَعُونَ) وَ(أَنْ يُوصَلَ). أَوْ سِتَّةٍ بِسِتَّةٍ كَقَوْلِه: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} الْآيَةَ، ثُمَّ قَالَ: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ} الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ: 14، 15]، قَابَلَ: الْجَنَّاتِ، وَالْأَنْهَارَ، وَالْخُلْدَ، وَالْأَزْوَاجَ، وَالتَّطْهِيرَ، وَالرِّضْوَانَ، بِإِزَاء: النِّسَاءِ، وَالْبَنِينَ، وَالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ، وَالْأَنْعَامِ، وَالْحَرْثَ. وَقَسَّمَ آخَرُ: الْمُقَابَلَةَ وَأَقْسَامُهَا فِي الْقُرْآنِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: نَظِيرِيٍّ وَنَقِيضِيٍّ وَخِلَافِيٍّ. مِثَالُ الْأَوَّل: مُقَابَلَةُ السِّنَةِ بِالنَّوْمِ فِي الْآيَةِ الْأَوْلَى، فَإِنَّهُمَا جَمِيعًا مِنْ بَابِ الرُّقَادِ الْمُقَابَلِ بِالْيَقَظَةِ فِي آيَة: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} [الْكَهْف: 18]، وَهَذَا مِثَالُ الثَّانِي، فَإِنَّهُمَا نَقِيضَانِ. وَمِثَالُ الثَّالِث: مُقَابَلَةُ الشَّرِّ بِالرَّشَدِ فِي قَوْلِه: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الْجِنّ: 10]، فَإِنَّهُمَا خِلَافَانِ لَا نَقِيضَانِ، فَإِنَّ نَقِيضَ الشَّرِّ الْخَيْرُ، وَالرُّشْدِ الْغَيُّ.
الْمُوَارَبَةُ- بِرَاءٍ مُهْمِلَةٍ وَبَاءٍ مُوَحَّدَةٍ-: أَنْ يَقُولَ الْمُتَكَلِّمُ قَوْلًا يَتَضَمَّنُ مَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ، فَإِذَا حَصَلَ الْإِنْكَارُ اسْتَحْضَرَ بِحَذَقِهِ وَجْهًا مِنَ الْوُجُوهِ يَتَخَلَّصُ بِهِ، إِمَّا بِتَحْرِيفِ كَلِمَةٍ أَوْ تَصْحِيفِهَا أَوْ زِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ. قَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَع: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ أَكْبَرِ أَوْلَادِ يَعْقُوبَ: {ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ} [يُوسُفَ: 81]، فَإِنَّهُ قُرِئَ: (إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَلَمْ يَسْرِقْ)، فَأَتَى بِالْكَلَامِ عَلَى الصِّحَّةِ بِإِبْدَالِ ضَمَّةٍ مِنْ فَتْحَةٍ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَكَسْرَتِهَا.
قَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَع: هِيَ أَنْ يَحْكِيَ الْمُتَكَلِّمُ مُرَاجَعَةً فِي الْقَوْلِ جَرَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُحَاوِرٍ لَهُ، بِأَوْجَزِ عِبَارَةٍ وَأَعْدَلِ سَبْكٍ، وَأَعْذَبِ أَلْفَاظٍ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [الْبَقَرَة: 124]، جَمَعَتْ هَذِهِ الْقِطْعَةُ- وَهِيَ بَعْضُ آيَةٍ- ثَلَاثَ مُرَاجَعَاتِ فِيهَا مَعَانِي الْكَلَامِ مِنَ الْخَبَرِ وَالِاسْتِخْبَارِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ بِالْمَنْطُوقِ وَالْمَفْهُومِ. قُلْتُ: أَحْسَنُ مِنْ هَذَا أَنْ يُقَالَ: جَمَعَتِ الْخَبَرَ وَالطَّلَبَ، وَالْإِثْبَاتَ وَالنَّفْيَ، وَالتَّأْكِيدَ وَالْحَذْفَ، وَالْبِشَارَةَ وَالنِّذَارَةَ، وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ.
هِيَ خُلُوصُ أَلْفَاظِ الْهَاءِ مِنَ الْفُحْشِ حَتَّى يَكُونَ كَمَا قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْ أَحْسَنِ الْهِجَاء: هُوَ الَّذِي إِذَا أَنْشَدَتْهُ الْعَذْرَاءُ فِي خِدْرِهَا لَا يَقْبُحُ عَلَيْهَا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ}، ثُمَّ قَالَ: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النُّور: 48، 50]، فَإِنَّ أَلْفَاظَ ذَمِّ هَؤُلَاءِ الْمُخْبَرِ عَنْهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ أَتَتْ مُنَزَّهَةً عَمَّا يَقْبُحُ فِي الْهِجَاءِ مِنَ الْفُحْشِ وَسَائِرِ هِجَاءِ الْقُرْآنِ كَذَلِكَ.
الْإِبْدَاعُ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَة: أَنْ يَشْتَمِلَ الْكَلَامُ عَلَى عِدَّةِ ضُرُوبٍ مِنَ الْبَدِيعِ. قَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَع: وَلَمْ أَرَ فِي الْكَلَامِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} [هُودٍ: 44]، فَإِنَّ فِيهَا عِشْرِينَ ضَرْبًا مِنَ الْبَدِيعِ، وَهِيَ سَبْعَ عَشْرَةَ لَفْظَةً، وَذَلِكَ: الْمُنَاسِبَةُ التَّامَّةُ فِي: (ابْلَعِي) وَ(أَقْلِعِي). وَالِاسْتِعَارَةُ فِيهِمَا. وَالطِّبَاقُ بَيْنَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ. وَالْمَجَازُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَيَا سَمَاءُ)، فَإِنَّ الْحَقِيقَةَ: يَا مَطَرَ السَّمَاءِ. وَالْإِشَارَةُ فِي: وَغِيضَ الْمَاءُ، فَإِنَّهُ عَبَّرَ بِهِ عَنْ مَعَانٍ كَثِيرَةٍ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ لَا يَغِيضُ حَتَّى يُقْلِعَ مَطَرُ السَّمَاءِ، وَتَبْلَعَ الْأَرْضُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ عُيُونِ الْمَاءِ، فَيَنْقُصُ الْحَاصِلُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنَ الْمَاءِ. وَالْإِرْدَافُ فِي: (وَاسْتَوَتْ). وَالتَّمْثِيلُ فِي: (وَقُضِيَ الْأَمْرُ). وَالتَّعْلِيلُ؛ فَإِنَّ (غِيضَ الْمَاءُ) عِلَّةُ الِاسْتِوَاءِ. وَصِحَّةُ التَّقْسِيمِ؛ فَإِنَّهُ اسْتَوْعَبَ فِيهِ أَقْسَامَ الْمَاءِ حَالَةَ نَقْصِهِ؛ إِذْ لَيْسَ إِلَّا احْتِبَاسُ مَاءِ السَّمَاءِ، وَالْمَاءِ النَّابِعِ مِنَ الْأَرْضِ، وَغِيضَ الْمَاءُ الَّذِي عَلَى ظَهْرِهَا. وَالِاحْتِرَاسُ فِي الدُّعَاءِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْغَرَقَ لِعُمُومِهِ يَشْمَلُ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْهَلَاكَ، فَإِنَّ عَدْلَهُ تَعَالَى يَمْنَعُ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى غَيْرِ مُسْتَحِقٍّ. وَحُسْنُ النَّسَقِ وَائْتِلَافُ اللَّفْظِ مَعَ الْمَعْنَى. وَالْإِيجَازُ؛ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَصَّ الْقِصَّةَ مُسْتَوْعَبَةً بِأَخْصَرِ عِبَارَةٍ. وَالتَّسْهِيمُ؛ فَإِنَّ أَوَّلَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى آخِرِهَا. وَالتَّهْذِيبُ؛ لِأَنَّ مُفْرَدَاتِهَا مَوْصُوفَةٌ بِصِفَاتِ الْحُسْنِ، كُلُّ لَفْظَةٍ سَهْلَةُ مَخَارِجِ الْحُرُوفِ، عَلَيْهَا رَوْنَقُ الْفَصَاحَةِ مَعَ الْخُلُوِّ مِنَ الْبَشَاعَةِ وَعَقَادَةِ التَّرْكِيبِ، وَحُسْنُ الْبَيَانِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ السَّامِعَ لَا يَتَوَقَّفُ فِي فَهْمِ مَعْنَى الْكَلَامِ، وَلَا يُشْكِلُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ. وَالتَّمْكِينُ؛ لِأَنَّ الْفَاصِلَةَ مُسْتَقِرَّةٌ فِي مَحَلِّهَا، مُطَمْئِنَةٌ فِي مَكَانِهَا، غَيْرُ قَلِقَةٍ وَلَا مُسْتَدْعَاةٍ. وَالِانْسِجَامُ. هَذَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَعِ. قُلْتُ: فِيهَا أَيْضًا الِاعْتِرَاضُ.
الْفَاصِلَةُ: كَلِمَةٌ آخِرَ الْآيَةِ كَقَافِيَةِ الشِّعْرِ وَقَرِينَةِ السَّجْعِ. وَقَالَ الدَّانِيُّ: كَلِمَةٌ آخِرَ الْجُمْلَةِ. قَالَ الْجَعْبَرِيُّ: وَهُوَ خِلَافُ الْمُصْطَلَحِ، وَلَا دَلِيلَ لَهُ فِي تَمْثِيلِ سِيبَوَيْهِ بِـ (يَوْمَ يَأْتِ) [هُودٍ: 105]، وَ(مَا كُنَّا نَبْغِ) [الْكَهْف: 64]، وَلَيْسَا رَأْسَ آيٍ؛ لِأَنَّ مُرَادَهُ الْفَوَاصِلُ تَعْرِيفُهَا اللُّغَوِيَّةُ لَا الصِّنَاعِيَّةُ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: الْفَوَاصِلُ حُرُوفٌ مُتَشَاكِلَةٌ فِي الْمَقَاطِعِ يَقَعُ بِهَا إِفْهَامُ الْمَعَانِي. وَفَرَّقَ الدَّانِيُّ بَيْنَ الْفَوَاصِلِ وَرُءُوسِ الْآيِ، الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: الْفَاصِلَةُ هِيَ الْكَلَامُ الْمُنْفَصِلُ عَمَّا بَعْدَهُ، وَالْكَلَامُ الْمُنْفَصِلُ قَدْ يَكُونُ رَأْسَ آيَةٍ وَغَيْرَ رَأْسٍ، وَكَذَلِكَ الْفَوَاصِلُ يَكُنَّ رُءُوسَ آيٍ وَغَيْرَهَا، وَكُلُّ رَأْسِ آيَةٍ فَاصِلَةٌ وَلَيْسَ كُلُّ فَاصِلَةٍ رَأْسَ آيَةٍ. قَالَ: وَلِأَجْلِ كَوْنِ مَعْنَى الْفَاصِلَةِ هَذَا ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ فِي تَمْثِيلِ الْقَوَافِي: {يَوْمَ يَأْتِ} وَ{مَا كُنَّا نَبْغِ}، وَلَيْسَا رَأْسَ آيَتَيْنِ بِإِجْمَاعٍ، مَعَ: (إِذَا يَسْرِ) [الْفَجْر: 4]، وَهُوَ رَأْسُ آيَةٍ بِاتِّفَاقٍ. وَقَالَ الْجَعْبَرِيُّ: لِمَعْرِفَةِ الْفَوَاصِلِ فِي الْقُرْآنِ طَرِيقَان: تَوْقِيفِيٌّ وَقِيَاسِيٌّ. أَمَّا التَّوْقِيفِيُّ: فَمَا ثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ عَلَيْهِ دَائِمًا تَحَقَّقْنَا أَنَّهُ فَاصِلَةٌ، وَمَا وَصَلَهُ دَائِمًا تَحَقَّقْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِفَاصِلَةٍ، وَمَا وَقَفَ عَلَيْهِ مَرَّةً وَوَصَلَهُ مَرَّةً أُخْرَى احْتَمَلَ الْوَقْفُ أَنْ يَكُونَ لِتَعْرِيفِ الْفَاصِلَةِ، أَوْ لِتَعْرِيفِ الْوَقْفِ التَّامِّ، أَوْ لِلِاسْتِرَاحَةِ، وَالْوَصْلُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ فَاصِلَةٍ أَوْ فَاصِلَةً وَصَلَهَا لِتَقَدُّمِ تَعْرِيفِهَا. وَأَمَّا الْقِيَاسِيُّ: مَا أُلْحِقَ مِنَ الْمُحْتَمَلِ غَيْرِ الْمَنْصُوصِ بِالْمَنْصُوصِ لِمُنَاسِبٍ، وَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا زِيَادَةَ فِيهِ وَلَا نُقْصَانَ، وَإِنَّمَا غَايَتُهُ أَنَّهُ مَحَلُّ فَصْلٍ أَوْ وَصْلٍ وَالْوَقْفُ عَلَى كُلِّ كَلِمَةٍ جَائِزٌ، وَوَصْلُ الْقُرْآنِ كُلِّهِ جَائِزٌ فَاحْتَاجَ الْقِيَاسُ إِلَى طَرِيقٍ تَعْرِفُهُ، فَنَقُولُ: فَاصِلَةُ الْآيَةِ كَقَرِينَةِ السَّجْعَةِ فِي النَّثْرِ وَقَافِيَةِ الْبَيْتِ فِي الشِّعْرِ، وَمَا يُذْكَرُ مِنْ عُيُوبِ الْقَافِيَةِ- مِنَ اخْتِلَافِ الْحَرَكَةِ وَالْإِشْبَاعِ وَالتَّوْجِيهِ- فَلَيْسَ بِعَيْبٍ فِي الْفَاصِلَةِ، وَجَازَ الِانْتِقَالُ فِي الْفَاصِلَةِ وَالْقَرِينَةِ وَقَافِيَةِ الْأُرْجُوزَةِ مِنْ نَوْعٍ إِلَى آخَرَ، بِخِلَافِ قَافِيَةِ الْقَصِيدَةِ. وَمِنْ ثَمَّ تَرَى: (يَرْجِعُونَ) مَعَ: (عَلِيمٌ) [آلِ عِمْرَانَ: 72، 73]، وَ(الْمِيعَادَ) مَعَ (الثَّوَابِ) [آلِ عِمْرَانَ: 194، 195]، وَ(الطَّارِقِ) مَعَ (الثَّاقِبُ) [الطَّارِق: 1، 3]. وَالْأَصْلُ فِي الْفَاصِلَةِ وَالْقَرِينَةِ الْمُتَجَرِّدَةِ فِي الْآيَةِ وَالسَّجْعَةِ الْمُسَاوَاةُ، وَمِنْ ثَمَّ أَجْمَعَ الْعَادُّونَ عَلَى تَرْكِ عَدّ: (وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) [النِّسَاء: 133]، (وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) فِي النِّسَاءِ [172]، (كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) بِـ (سُبْحَانَ) [الْإِسْرَاء: 59]، وَ{لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ} بِمَرْيَمَ [97]، وَ{لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} بِـ (طه) [113]، وَ{مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الطَّلَاق: 11]، {أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} بِالطَّلَاقِ [12]، حَيْثُ لَمْ يُشَاكِلْ طَرَفَيْهِ. وَعَلَى تَرْكِ عَدّ: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} بِآلِ عِمْرَانَ [83]، وَ{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} بِالْمَائِدَةِ [50]، وَعَدُّوا نَظَائِرَهَا لِلْمُنَاسَبَةِ، نَحْوَ: (لِأُولِي الْأَلْبَابِ) بِآلِ عِمْرَانَ [190]، وَ(عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) بِالْكَهْفِ [15]، وَ(السَّلْوَى) بِـ (طه) [80]. وَقَالَ غَيْرُهُ: تَقَعُ الْفَاصِلَةُ عِنْدَ الِاسْتِرَاحَةِ بِالْخِطَابِ لِتَحْسِينِ الْكَلَامِ بِهَا، وَهِيَ الطَّرِيقَةُ الَّتِي يُبَايِنُ الْقُرْآنُ بِهَا سَائِرَ الْكَلَامِ، وَتُسَمَّى فَوَاصِلَ؛ لِأَنَّهُ يَنْفَصِلُ عِنْدَهُ الْكَلَامَانِ، وَذَلِكَ أَنَّ آخِرَ الْآيَةِ فُصِلَ بَيْنِهَا وَبَيْنَ مَا بَعْدَهَا، وَأَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} [فُصِّلَتْ: 3]. وَلَا يَجُوزُ تَسْمِيَتُهَا قَوَافِيَ إِجْمَاعًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا سَلَبَ عَنْهُ اسْمَ الشِّعْرِ وَجَبَ سَلْبُ الْقَافِيَةِ عَنْهُ أَيْضًا لِأَنَّهَا مِنْهُ، وَخَاصَّةً فِي الِاصْطِلَاحِ، وَكَمَا يَمْتَنِعُ اسْتِعْمَالُ الْقَافِيَةِ فَى آيَاتِ الْقُرْآنِ فِيهِ يَمْتَنِعُ اسْتِعْمَالُ الْفَاصِلَةِ فِي الشِّعْرِ؛ لِأَنَّهَا صِفَةٌ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا تَتَعَدَّاهُ. وَهَلْ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ السَّجْعِ فِي الْقُرْآنِ؟ خِلَافٌ؛ الْجُمْهُورُ عَلَى الْمَنْعِ؛ لِأَنَّ أَصْلَهُ مِنْ سَجْعِ الطَّيْرِ، فَشَرُفَ الْقُرْآنُ أَنْ يُسْتَعَارَ لِشَيْءٍ مِنْهُ لَفْظٌ أَصْلُهُ مُهْمَلٌ، وَلِأَجْلِ تَشْرِيفِهِ عَنْ مُشَارَكَةِ غَيْرِهِ مِنَ الْكَلَامِ الْحَادِثِ فِي وَصْفِهِ بِذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى فَلَا يَجُوزُ وَصْفُهُ بِصِفَةٍ لَمْ يَرِدِ الْإِذْنُ بِهَا. قَالَ الرُّمَّانِيُّ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآن: ذَهَبَ الْأَشْعَرِيَّةُ إِلَى امْتِنَاعِ أَنْ يُقَالَ: فِي الْقُرْآنِ سَجْعٌ، وَفَرَّقُوا بِأَنَّ السَّجْعَ هُوَ الَّذِي يُقْصَدُ فِيهِ نَفْسُهُ، ثُمَّ يُحَالُ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَالْفَوَاصِلَ الَّتِي تَتْبَعُ الْمَعَانِيَ، وَلَا تَكُونُ مَقْصُودَةً فِي نَفْسِهَا. قَالَ: وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْفَوَاصِلُ بَلَاغَةً وَالسَّجْعُ عَيْبًا. وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ، وَنَقَلَهُ عَنْ نَصِّ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَأَصْحَابِنَا كُلِّهِمْ. قَالَ: وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ غَيْرِ الْأَشَاعِرَةِ إِلَى إِثْبَاتِ السَّجْعِ فِي الْقُرْآنِ، وَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَبِينُ بِهِ فَضْلُ الْكَلَامِ، وَأَنَّهُ مِنَ الْأَجْنَاسِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا التَّفَاضُلُ فِي الْبَيَانِ وَالْفَصَاحَةِ كَالْجِنَاسِ وَالِالْتِفَاتِ وَنَحْوِهِمَا. قَالَ: وَأَقْوَى مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ مُوسَى أَفْضَلُ مِنْ هَارُونَ، لِمَكَانِ السَّجْعِ قِيلَ فِي مَوْضِع: {هَارُونَ وَمُوسَى} [طه: 70]، وَلَمَّا كَانَتِ الْفَوَاصِلُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ قِيلَ: {مُوسَى وَهَارُونَ} [الشُّعَرَاء: 48]. قَالُوا: وَهَذَا يُفَارِقُ أَمْرَ الشِّعْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ فِي الْخِطَابِ إِلَّا مَقْصُودًا إِلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ غَيْرَ مَقْصُودٍ إِلَيْهِ كَانَ دُونَ الْقَدْرِ الَّذِي نُسَمِّيهِ شِعْرًا، وَذَلِكَ الْقَدْرُ مِمَّا يَتَّفِقُ وُجُودُهُ مِنَ الْمُفْحِمِ، كَمَا يَتَّفِقُ وَجُودُهُ مِنَ الشَّاعِرِ. وَأَمَّا مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ السَّجْعِ فَهُوَ كَثِيرٌ لَا يَصِحُّ أَنْ يَتَّفِقَ غَيْرَ مَقْصُودٍ إِلَيْهِ. وَبَنَوُا الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ عَلَى تَحْدِيدِ مَعْنَى السَّجْعِ فِي الْقُرْآنِ. فَقَالَ أَهْلُ اللُّغَة: هُوَ مُوَالَاةُ الْكَلَامِ عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ. وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: سَجَعَتِ الْحَمَامَةُ مَعْنَاهُ: رَدَّدَتْ صَوْتَهَا. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، وَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ سَجْعًا لَكَانَ غَيْرَ خَارِجٍ عَنْ أَسَالِيبِ كَلَامِهِمْ، وَلَوْ كَانَ دَاخِلًا فِيهَا لَمْ يَقَعْ بِذَلِكَ إِعْجَازٌ. وَلَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ: هُوَ سَجْعٌ مُعْجِزٌ لَجَازَ أَنْ يَقُولُوا: شِعْرٌ مُعْجِزٌ. وَكَيْفَ وَالسَّجْعُ مِمَّا كَانَ تَأْلَفُهُ الْكُهَّانُ مِنَ الْعَرَبِ. وَنَفْيُهُ مِنَ الْقُرْآنِ أَجْدَرُ بِأَنْ يَكُونَ حُجَّةً مِنْ نَفْيِ الشِّعْرِ; لِأَنَّ الْكَهَانَةَ تُنَافِي النُّبُوَّاتِ بِخِلَافِ الشِّعْرِ. وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَسَجْعٌ كَسَجْعِ الْكُهَّانِ» فَجَعَلَهُ مَذْمُومًا. وَقَالَ: وَمَا تَوَهَّمُوا أَنَّهُ سَجْعٌ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ مَجِيئَهُ عَلَى صُورَتِهِ لَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ هُوَ؛ لِأَنَّ السَّجْعَ يَتْبَعُ الْمَعْنَى فِيهِ اللَّفْظَ الَّذِي يُؤَدِّي السَّجْعَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا اتَّفَقَ مِمَّا هُوَ فِي مَعْنَى السَّجْعِ مِنَ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ وَقَعَ فِيهِ تَابِعًا لِلْمَعْنَى. وَفَرْقٌ بَيْنَ أَنْ يَنْتَظِمَ الْكَلَامُ فِي نَفْسِهِ بِأَلْفَاظِهِ الَّتِي تُؤَدِّي الْمَعْنَى الْمَقْصُودَ مِنْهُ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مُنْتَظِمًا دُونَ اللَّفْظِ. وَمَتَى ارْتَبَطَ الْمَعْنَى بِالسَّجْعِ كَانَ إِفَادَةُ السَّجْعِ كَإِفَادَةِ غَيْرِهِ، وَمَتَى انْتَظَمَ فِي الْمَعْنَى بِنَفْسِهِ دُونَ السَّجْعِ كَانَ مُسْتَجْلَبًا لِتَحْسِينِ الْكَلَامِ دُونَ تَصْحِيحِ الْمَعْنَى. قَالَ: وَلِلسَّجْعِ مَنْهَجٌ مَحْفُوظٌ وَطَرِيقٌ مَضْبُوطٌ، مَنْ أَخَلَّ بِهِ وَقَعَ الْخَلَلُ فِي كَلَامِهِ، وَنُسِبَ إِلَى الْخُرُوجِ عَنِ الْفَصَاحَةِ، كَمَا أَنَّ الشَّاعِرَ إِذَا خَرَجَ عَنِ الْوَزْنِ الْمَعْهُودِ كَانَ مُخْطِئًا، وَأَنْتَ تَرَى فَوَاصِلَ الْقُرْآنِ مُتَفَاوِتَةً، بَعْضُهَا مُتَدَانِي الْمَقَاطِعِ، وَبَعْضُهَا يَمْتَدُّ حَتَّى يَتَضَاعَفَ طُولُهُ عَلَيْهِ، وَتَرِدَ الْفَاصِلَةُ فِي ذَلِكَ الْوَزْنِ الْأَوَّلِ بَعْدَ كَلَامٍ كَثِيرٍ، وَهَذَا فِي السَّجْعِ غَيْرُ مَرْضِيٍّ وَلَا مَحْمُودٍ. قَالَ: وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ تَقْدِيمِ مُوسَى عَلَى هَارُونَ فِي مَوْضِعٍ، وَتَأْخِيرِهِ عَنْهُ فِي مَوْضِعٍ لِمَكَانِ السَّجْعِ، وَتَسَاوِي مَقَاطِعِ الْكَلَامِ، فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلِ الْفَائِدَةُ فِيهِ إِعَادَةُ الْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ تُؤَدِّي مَعْنًى وَاحِدًا، وَذَلِكَ مِنَ الْأَمْرِ الصَّعْبِ الَّذِي تَظْهَرُ فِيهِ الْفَصَاحَةُ وَتَتَبَيَّنُ فِيهِ الْبَلَاغَةُ، وَلِهَذَا أُعِيدَتْ كَثِيرٌ مِنَ الْقِصَصِ عَلَى تَرْتِيبَاتٍ مُتَفَاوِتَةٍ، تَنْبِيهًا بِذَلِكَ عَلَى عَجْزِهِمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ مُبْتَدَأً بِهِ وَمُتَكَرِّرًا، وَلَوْ أَمْكَنَهُمُ الْمُعَارَضَةُ لَقَصَدُوا تِلْكَ الْقِصَّةَ، وَعَبَّرُوا عَنْهَا بِأَلْفَاظٍ لَهُمْ تُؤَدِّي إِلَى تِلْكَ الْمَعَانِي وَنَحْوِهَا، فَعَلَى هَذَا الْقَصْدِ- بِتَقْدِيمِ بَعْضِ الْكَلِمَاتِ عَلَى بَعْضٍ وَتَأْخِيرِهَا- إِظْهَارُ الْإِعْجَازِ دُونَ السَّجْعِ إِلَى أَنْ قَالَ: فَبَانَ بِذَلِكَ أَنَّ الْحُرُوفَ الْوَاقِعَةَ فِي الْفَوَاصِلِ مُتَنَاسِبَةٌ مَوْقِعَ النَّظَائِرِ الَّتِي تَقَعُ فِي الْأَسْجَاعِ لَا تُخْرِجُهَا عَنْ حَدِّهَا، وَلَا تُدْخِلُهَا فِي بَابِ السَّجْعِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمْ يَذُمُّونَ كُلَّ سَجْعٍ خَرَجَ عَنِ اعْتِدَالِ الْأَجْزَاءِ، فَكَانَ بَعْضُ مَصَارِيعِهِ كَلِمَتَيْنِ وَبَعْضُهَا أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ، وَلَا يَرَوْنَ ذَلِكَ فَصَاحَةً، بَلْ يَرَوْنَهُ عَجْزًا، فَلَوْ فَهِمُوا اشْتِمَالَ الْقُرْآنِ عَلَى السَّجْعِ لَقَالُوا: نَحْنُ نُعَارِضُهُ بِسَجْعٍ مُعْتَدِلٍ يَزِيدُ فِي الْفَصَاحَةِ عَلَى طَرِيقَةِ الْقُرْآنِ. انْتَهَى كَلَامُ الْقَاضِي فِي كِتَابِ الْإِعْجَازِ. وَنَقَلَ صَاحِبُ عَرُوسِ الْأَفْرَاحِ عَنْهُ أَنَّهُ ذَهَبَ فِي الِانْتِصَارِ إِلَى جَوَازِ تَسْمِيَةِ الْفَوَاصِلِ سَجْعًا السَّجْعُ فِي الْقُرْآنِ. وَقَالَ الْخَفَاجِيُّ فِي سِرِّ الْفَصَاحَة: قَوْلُ الرُّمَّانِيّ: إِنَّ السَّجْعَ عَيْبٌ وَالْفَوَاصِلَ بَلَاغَةٌ غَلَطٌ، فَإِنَّهُ إِنْ أَرَادَ بِالسَّجْعِ مَا يَتْبَعُ الْمَعْنَى وَهُوَ غَيْرُ مَقْصُودٍ مُتَكَلَّفٌ فَذَلِكَ بَلَاغَةٌ وَالْفَوَاصِلُ مِثْلُهُ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ مَا تَقَعُ الْمَعَانِي تَابِعَةً لَهُ وَهُوَ مَقْصُودٌ مُتَكَلَّفٌ فَذَلِكَ عَيْبٌ، وَالْفَوَاصِلُ مِثْلُهُ، وَأَظُنُّ الَّذِي دَعَاهُمْ إِلَى تَسْمِيَةِ جُلِّ مَا فِي الْقُرْآنِ فَوَاصَلَ، وَلَمْ يُسَمُّوا مَا تَمَاثَلَتْ حُرُوفُهُ سَجْعًا رَغْبَتَهُمْ فِي تَنْزِيهِ الْقُرْآنِ عَنِ الْوَصْفِ اللَّاحِقِ بِغَيْرِهِ مِنَ الْكَلَامِ الْمَرْوِيِّ عَنِ الْكَهَنَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَهَذَا غَرَضٌ فِي التَّسْمِيَةِ قَرِيبٌ، وَالْحَقِيقَةُ مَا قُلْنَاهُ. قَالَ: وَالتَّحْرِيرُ أَنَّ الْأَسْجَاعَ حُرُوفٌ مُتَمَاثِلَةٌ فِي مَقَاطِعِ الْفَوَاصِلِ. قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ عِنْدَكُمْ أَنَّ السَّجْعَ مَحْمُودٌ فَهَلَّا وَرَدَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ مَسْجُوعًا؟ وَمَا الْوَجْهُ فِي وُرُودِ بَعْضِهِ مَسْجُوعًا وَبَعْضِهِ غَيْرَ مَسْجُوعٍ؟ قُلْنَا: إِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ وَعَلَى عُرْفِهِمْ وَعَادَاتِهِمْ، وَكَانَ الْفَصِيحُ مِنْهُمْ لَا يَكُونُ كَلَامُهُ كُلُّهُ مَسْجُوعًا لِمَا فِيهِ مِنْ أَمَارَاتِ التَّكَلُّفِ وَالِاسْتِكْرَاهِ، لَا سِيَّمَا مَعَ طُولِ الْكَلَامِ، فَلَمْ يَرِدْ كُلُّهُ مَسْجُوعًا جَرْيًا مِنْهُ عَلَى عُرْفِهِمْ فِي اللَّطَافَةِ الْغَالِبَةِ أَوِ الطَّبَقَةِ الْعَالِيَةِ مِنْ كَلَامِهِمْ، وَلَمْ يَخْلُ مِنَ السَّجْعِ لِأَنَّهُ يَحْسُنُ فِي بَعْضِ الْكَلَامِ عَلَى الصِّفَةِ السَّابِقَةِ. وَقَالَ ابْنُ النَّفِيس: يَكْفِي فِي حُسْنِ السَّجْعِ وُرُودُ الْقُرْآنِ بِهِ، قَالَ: وَلَا يَقْدَحُ فِي ذَلِكَ خُلُوُّهُ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ؛ لِأَنَّ الْحَسَنَ قَدْ يَقْتَضِي الْمَقَامُ الِانْتِقَالَ إِلَى أَحْسَنَ مِنْهُ. وَقَالَ حَازِمٌ: مِنَ النَّاسِ مَنْ يَكْرَهُ تَقْطِيعَ الْكَلَامِ إِلَى مَقَادِيرَ مُتَنَاسِبَةِ الْأَطْرَافِ غَيْرِ مُتَقَارِبَةٍ فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ إِلَّا مَا يَقَعُ إِلْمَامٌ بِهِ فِي النَّادِرِ مِنَ الْكَلَامِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ التَّنَاسُبَ الْوَاقِعَ بِإِفْرَاغِ الْكَلَامِ فِي قَالَبِ التَّفْقِيهِ وَتَحْلِيَتِهَا بِمُنَاسَبَاتِ الْمَقَاطِعِ أَكِيدٌ جِدًّا. وَمِنْهُمْ- وَهُوَ الْوَسَطُ- مَنْ يَرَى أَنَّ السَّجْعَ وَإِنْ كَانَ زِينَةً لِلْكَلَامِ فَقَدْ يَدْعُو إِلَى التَّكَلُّفِ، فَرَأَى أَلَّا يُسْتَعْمَلَ فِي جُمْلَةِ الْكَلَامِ، وَأَلَّا يَخْلُوَ الْكَلَامُ مِنْهُ جُمْلَةً، وَأَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ مَا اجْتَلَبَهُ الْخَاطِرُ عَفْوًا بِلَا تَكَلُّفٍ. قَالَ: وَكَيْفَ يُعَابُ السَّجْعُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِنَّمَا نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى أَسَالِيبِ الْفَصِيحِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، فَوَرَدَتِ الْفَوَاصِلُ فِيهِ بِإِزَاءِ وُرُودِ الْأَسْجَاعِ فِي كَلَامِهِمْ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجِئْ عَلَى أُسْلُوبٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ لَا يَحْسُنُ فِي الْكَلَامِ جَمِيعًا أَنْ يَكُونَ مُسْتَمِرًّا عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ، وَلِمَا فِي الطَّبْعِ مِنَ الْمَلَلِ، وَلِأَنَّ الِافْتِنَانَ فِي ضُرُوبِ الْفَصَاحَةِ أَعْلَى مِنَ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى ضَرْبٍ وَاحِدٍ، فَلِهَذَا وَرَدَتْ بَعْضُ آيِ الْقُرْآنِ مُتَمَاثِلَةَ الْمَقَاطِعِ، وَبَعْضُهَا غَيْرَ مُتَمَاثِلٍ.
أَلَّفَ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ الصَّائِغِ الْحَنَفِيُّ كِتَابًا سَمَّاهُ إِحْكَامُ الرَّأْيِ فِي أَحْكَامِ الْآيِ فِي الْقُرْآنِ قَالَ فِيه: اعْلَمْ أَنَّ الْمُنَاسَبَةَ أَمْرٌ مَطْلُوبٌ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، يُرْتَكَبُ لَهَا أُمُورٌ مِنْ مُخَالَفَةِ الْأُصُولِ. قَالَ: وَقَدْ تَتَبَّعْتُ الْأَحْكَامَ الَّتِي وَقَعَتْ فِي آخِرِ الْآيِ مُرَاعَاةً لِلْمُنَاسَبَةِ، فَعَثَرْتُ مِنْهَا عَلَى نَيِّفٍ عَنِ الْأَرْبَعِينَ حُكْمًا. أَحَدُهَا: تَقْدِيمُ الْمَعْمُول: إِمَّا عَلَى الْعَامِلِ، نَحْو: {أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سَبَإٍ: 40]، قِيلَ: وَمِنْهُ: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الْفَاتِحَة: 5]، أَوْ عَلَى مَعْمُولٍ آخَرَ أَصْلُهُ التَّقْدِيمُ، نَحْو: {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} [طه: 23]، إِذَا أَعْرَبْنَا (الْكُبْرَى) مَفْعُولَ (نُرِيَ)، أَوْ عَلَى الْفَاعِلِ، نَحْو: {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ} [الْقَمَر: 41]، وَمِنْهُ تَقْدِيمُ خَبَرِ كَانَ عَلَى اسْمِهَا، نَحْو: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الْإِخْلَاص: 4]. الثَّانِي: تَقْدِيمُ مَا هُوَ مُتَأَخِّرٌ فِي الزَّمَانِ، نَحْو: {فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى} [النَّجْم: 25]، وَلَوْلَا مُرَاعَاةُ الْفَوَاصِلِ لَقُدِّمَتِ الْأُولَى كَقَوْلِه: {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ} [الْقَصَص: 70]. الثَّالِثُ: تَقْدِيمُ الْفَاضِلِ عَلَى الْأَفْضَلِ، نَحْو: {بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه: 7]، وَتَقَدَّمَ مَا فِيهِ. الرَّابِعُ: تَقْدِيمُ الضَّمِيرِ عَلَى مَا يُفَسِّرُهُ، نَحْو: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه: 67]. الْخَامِسُ: تَقْدِيمُ الصِّفَةِ الْمُجْمَلَةِ عَلَى الصِّفَةِ الْمُفْرَدَةِ، نَحْو: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} [الْإِسْرَاء: 13]. السَّادِسُ: حَذْفُ يَاءِ الْمَنْقُوصِ الْمُعَرَّفِ، نَحْو: {الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرَّعْد: 9]، {يَوْمَ التَّنَادِ} [غَافِرٍ: 32]. السَّابِعُ: حَذْفُ يَاءِ الْفِعْلِ غَيْرِ الْمَجْزُومِ، نَحْو: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} [الْفَجْر: 4]. الثَّامِنُ: حَذْفُ يَاءِ الْإِضَافَةِ، نَحْو: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [الْقَمَر: 16]، {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [الرَّعْد: 32]. التَّاسِعُ: زِيَادَةُ حَرْفِ الْمَدِّ، نَحْوُ: (الظَّنُونَا) [الْأَحْزَاب: 10]، وَ(الرَّسُولَا) [الْأَحْزَاب: 66]، وَ(السَّبِيلَا) [الْأَحْزَاب: 67]. وَمِنْهُ إِبْقَاؤُهُ مَعَ الْجَازِمِ، نَحْو: {لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} [طه: 77]، {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} [الْأَعْلَى: 6]، عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ نَهْيٌ. الْعَاشِرُ: صَرْفُ مَا لَا يَنْصَرِفُ، نَحْو: {قَوَارِيرَا قَوَارِيرَا} [الْإِنْسَان: 15، 16]. الْحَادِي عَشَرَ: إِيثَارُ تَذْكِيرِ اسْمِ الْجِنْسِ كَقَوْلِه: {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [الْقَمَر: 20]. الثَّانِي عَشَرَ: إِيثَارُ تَأْنِيثِهِ، نَحْو: {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الْحَاقَّة: 7]، وَنَظِيرُ هَذَيْنِ قَوْلُهُ فِي الْقَمَرِ [5]: {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} وَفِي الْكَهْفِ [49]: {لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا}. الثَّالِثَ عَشَرَ: الِاقْتِصَارُ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ الْجَائِزَيْنِ اللَّذَيْنِ قُرِئَ بِهِمَا فِي السَّبْعِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} [الْجِنّ: 14]، وَلَمْ يَجِئْ (رَشْدًا) فِي السَّبْعِ، وَكَذَا: {وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الْكَهْف: 10]؛ لِأَنَّ الْفَوَاصِلَ فِي السُّورَتَيْنِ مُحَرَّكَةُ الْوَسَطِ، وَقَدْ جَاءَ فِي: {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ} [الْأَعْرَاف: 146]، وَبِهَذَا يَبْطُلُ تَرْجِيحُ الْفَارِسِيِّ قِرَاءَةَ التَّحْرِيكِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ قِرَاءَةُ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [الْمَسَد: 1]، بِفَتْحِ الْهَاءِ وَسُكُونِهَا، وَلَمْ يُقْرَأْ: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} [الْمَسَد: 3]. إِلَّا بِالْفَتْحِ لِمُرَاعَاةِ الْفَاصِلَةِ. الرَّابِعَ عَشَرَ: إِيرَادُ الْجُمْلَةِ الَّتِي رَدَّ بِهَا مَا قَبْلَهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْمُطَابَقَةِ فِي الِاسْمِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [الْبَقَرَة: 8]. وَلَمْ يُطَابِقْ بَيْنَ قَوْلِهِمْ: آمَنَّا وَبَيْنَ مَا رَدَّ بِهِ فَيَقُولُ (وَلَمْ يُؤْمِنُوا) أَوْ(مَا آمَنُوا) لِذَلِكَ. الْخَامِسَ عَشَرَ: إِيرَادُ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ غَيْرَ مُطَابِقٍ لِلْآخَرِ كَذَلِكَ نَحْوَ: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [الْعَنْكَبُوت: 3]. وَلَمْ يَقُل: الَّذِينَ كَذَبُوا. السَّادِسَ عَشَرَ: إِيرَادُ أَحَدِ جُزْأَيِ الْجُمْلَتَيْنِ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي أَوْرَدَ نَظِيرَهَا مِنَ الْجُمْلَةِ الْأُخْرَى نَحْوَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الْبَقَرَة: 177]. السَّابِعَ عَشَرَ: إِيثَارُ أَغْرَبِ اللَّفْظَتَيْنِ نَحْوَ: {قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النَّجْم: 22]. وَلَمْ يَقُلْ: جَائِرَةٌ {لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ} وَلَمْ يَقُلْ جَهَنَّمَ أَوِ النَّارِ. وَقَالَ فِي الْمُدَّثِّرِ [26]. {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} وَفِي سَأَلَ [15]. {إِنَّهَا لَظَى} وَفِي الْقَارِعَةِ [9]. {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} لِمُرَاعَاةِ فَوَاصِلِ كُلِّ سُورَةٍ. الثَّامِنَ عَشَرَ: اخْتِصَاصُ كُلٍّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِمَوْضِعٍ نَحْوَ: {وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [إِبْرَاهِيمَ: 52]. وَفِي سُورَةِ طه [128]. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى}. التَّاسِعَ عَشَرَ: حَذْفُ الْمَفْعُولِ نَحْوَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [اللَّيْل: 5]. {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} وَمِنْهُ حَذْفُ مُتَعَلِّقِ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ نَحْوَ: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7]. {خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الْأَعْلَى: 17]. الْعِشْرُونَ: الِاسْتِغْنَاءُ بِالْإِفْرَادِ عَنِ التَّثْنِيَةِ نَحْوَ: {فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه: 117]. الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: الِاسْتِغْنَاءُ بِهِ عَنِ الْجَمْعِ نَحْوَ: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الْفُرْقَان: 74]. وَلَمْ يَقُلْ: أَئِمَّةً كَمَا قَالَ: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ} [الْأَنْبِيَاء: 73]. {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} [الْقَمَر: 54]. أَيْ: أَنْهَارٍ. الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: الِاسْتِغْنَاءُ بِالتَّثْنِيَةِ عَنِ الْإِفْرَادِ نَحْوَ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرَّحْمَن: 46]. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَرَادَ جَنَّةً، كَقَوْلِه: {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النَّازِعَات: 41]. فَثَنَّى لِأَجْلِ الْفَاصِلَةِ، قَالَ: وَالْقَوَافِي تَحْتَمِلُ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ مَا لَا يَحْتَمِلُ سَائِرُ الْكَلَامِ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} [الشَّمْس: 12]. فَإِنَّهُمَا رَجُلَان: قِدَارٌ وَآخَرُ مَعَهُ، وَلَمْ يَقُلْ: أَشْقَيَاهَا لِلْفَاصِلَةِ وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَأَغْلَظَ فِيهِ، وَقَالَ: إِنَّمَا يَجُوزُ فِي رُؤُوسِ الْآيِ زِيَادَةُ هَا السَّكْتِ أَوِ الْأَلِفِ أَوْ حَذْفُ هَمْزٍ أَوْ حَرْفٍ، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَعَدَ بِجَنَّتَيْنِ فَنَجْعَلُهُمَا جَنَّةً وَاحِدَةً لِأَجْلِ رُؤُوسِ الْآيِ مَعَاذَ اللَّهِ، وَكَيْفَ هَذَا وَهُوَ يَصِفُهَا بِصِفَاتِ الِاثْنَيْنِ قَالَ: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} ثُمَّ قَالَ: {فِيهِمَا} [الرَّحْمَن: 48، 50]. وَأَمَّا ابْنُ الصَّائِغ: فَإِنَّهُ نَقَلَ عَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّهُ أَرَادَ جَنَّاتٍ فَأَطْلَقَ الِاثْنَيْنِ عَلَى الْجَمْعِ لِأَجْلِ الْفَاصِلَةِ ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا غَيْرُ بَعِيدٍ قَالَ: وَإِنَّمَا عَادَ الضَّمِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ مُرَاعَاةً لِلَّفْظِ وَهَذَا هُوَ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ. الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: الِاسْتِغْنَاءُ بِالْجَمْعِ عَنِ الْإِفْرَادِ نَحْوَ: {لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ} أَيْ: وَلَا خُلَّةٌ كَمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَجَمَعَ مُرَاعَاةً لِلْفَاصِلَةِ. الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: إِجْرَاءُ غَيْرِ الْعَاقِلِ مَجْرَى الْعَاقِلِ نَحْوَ: {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يُوسُفَ: 4]. {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الْأَنْبِيَاء: 33]. السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: إِمَالَةُ مَا لَا يُمَالُ كَآيِ طه وَالنَّجْمِ. السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: الْإِتْيَانُ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَة: كَقَدِيرٍ وَعَلِيمٍ مَعَ تَرْكِ ذَلِكَ فِي نَحْو: {هُوَ الْقَادِرُ} [الْأَنْعَام: 65]. وَ{عَالِمُ الْغَيْبِ} [الْأَنْعَام: 73]. وَمِنْهُ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مَرْيَمَ: 64]. الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: إِيثَارُ بَعْضِ أَوْصَافِ الْمُبَالِغَةِ عَلَى بَعْضٍ نَحْوَ: {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5]. أُوثِرَ عَلَى عَجِيبٍ لِذَلِكَ. التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: الْفَصْلُ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ نَحْوَ: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} [طه: 129]. الثَّلَاثُونَ: إِيقَاعُ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ نَحْوَ: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الْأَعْرَاف: 170]. وَكَذَا آيَةُ الْكَهْفِ. الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ: وُقُوعُ (مَفْعُولٍ) مَوْقِعَ (فَاعِلٍ) كَقَوْلِه: {حِجَابًا مَسْتُورًا} [الْإِسْرَاء: 45]. {كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} [مَرْيَمَ: 61]. أَيْ: سَائِرًا وَآتِيًا. الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: وُقُوعُ فَاعِلٍ مَوْقِعَ مَفْعُولٍ نَحْوَ: {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الْحَاقَّة: 21]. {مَاءٍ دَافِقٍ} [الطَّارِق: 6]. الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمَوْصُوفِ وَالصِّفَةِ نَحْوَ: {أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} [الْأَعْلَى: 4، 5]. إِنْ أَعْرَبَ أَحْوَى صِفَةَ الْمَرْعَى أَيْ: حَالًا. الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: إِيقَاعُ حَرْفٍ مَكَانَ غَيْرِهِ نَحْوَ: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزَّلْزَلَة: 5]. وَالْأَصْلُ إِلَيْهَا. الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ: تَأْخِيرُ الْوَصْفِ الْأَبْلَغِ عَنْ الْأَبْلَغِ مِنْهُ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} {رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التَّوْبَة: 128]. لِأَنَّ الرَّأْفَةَ أَبْلَغُ مِنَ الرَّحْمَةِ. السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ: حَذْفُ الْفَاعِلِ وَنِيَابَةُ الْمَفْعُولِ نَحْوَ: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} [اللَّيْل: 19]. السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: إِثْبَاتُ هَاءِ السَّكْتِ نَحْوَ: مَالِيَهْ [الْحَاقَّة: 28]. سُلْطَانِيَهْ [الْحَاقَّة: 29]. مَا هِيَهْ [الْقَارِعَة: 10]. الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ: الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَجْرُورَاتِ نَحْوَ: {ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} [الْإِسْرَاء: 69]. فَإِنَّ الْأَحْسَنَ الْفَصْلُ بَيْنَهَا، إِلَّا أَنَّ مُرَاعَاةَ الْفَاصِلَةِ اقْتَضَتْ عَدَمَهُ وَتَأْخِيرَ تَبِيعًا التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ: الْعُدُولُ عَنْ صِيغَةِ الْمُضِيِّ إِلَى صِيغَةِ الِاسْتِقْبَالِ نَحْوَ: {فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [الْبَقَرَة: 87]. وَالْأَصْلُ قَتَلْتُمْ. الْأَرْبَعُونَ: تَغْيِيرُ بِنْيَةِ الْكَلِمَةِ نَحْوَ: {طُورِ سِينِينَ} [التِّين: 2]. وَالْأَصْلُ سِينَا. تَنْبِيهٌ: قَالَ ابْنُ الصَّائِغ: لَا يَمْتَنِعُ فِي تَوْجِيهِ الْخُرُوجِ عَنِ الْأَصْلِ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ أُمُورٌ أُخْرَى مَعَ وَجْهِ الْمُنَاسَبَةِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَر: «لَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ».
قَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَع: لَا تَخْرُجُ فَوَاصِلُ الْقُرْآنِ وَأَقْسَامُهَا عَنْ أَحَدِ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: التَّمْكِينِ، وَالتَّصْدِيرِ، وَالتَّوْشِيحِ، وَالْإِيغَالِ.
فَالتَّمْكِينُ وَيُسَمَّى ائْتِلَافُ الْقَافِيَة: أَنْ يُمَهِّدَ النَّاثِرُ لِلْقَرِينَةِ أَوِ الشَّاعِرُ لِلْقَافِيَةِ تَمْهِيدًا تَأْتِي بِهِ الْقَافِيَةُ أَوِ الْقَرِينَةُ مُتَمَكِّنَةً فِي مَكَانِهَا، مُسْتَقِرَّةً فِي قَرَارِهَا مُطْمَئِنَةً فِي مَوَاضِعِهَا غَيْرَ نَافِرَةٍ وَلَا قَلِقَةٍ، مُتَعَلِّقًا مَعْنَاهَا بِمَعْنَى الْكَلَامِ كُلِّهِ تَعَلُّقًا تَامًّا، بِحَيْثُ لَوْ طُرِحَتْ لَاخْتَلَّ الْمَعْنَى وَاضْطَرَبَ الْفَهْمُ، وَبِحَيْثُ لَوْ سُكِتَ عَنْهَا كَمَّلَهُ السَّامِعُ بِطَبْعِهِ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ {يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ} الْآيَةَ [هُودٍ: 87] فَإِنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ الْعِبَادَةِ وَتَلَاهُ ذِكْرُ التَّصَرُّفِ فِي الْأَمْوَالِ، اقْتَضَى ذَلِكَ ذِكْرَ الْحِلْمِ وَالرُّشْدِ عَلَى التَّرْتِيبِ; لِأَنَّ الْحِلْمَ يُنَاسِبُ الْعِبَادَاتِ، وَالرُّشْدَ يُنَاسِبُ الْأَمْوَالَ. وَقَوْلُهُ: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ} [السَّجْدَة: 26]. {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ} إِلَى قَوْلِه: {أَفَلَا يُبْصِرُونَ} [السَّجْدَة: 27]. فَأَتَى فِي الْآيَةِ الْأُولَى بِـ {يَهْدِ لَهُمْ} وَخَتَمَهَا بِـ يَسْمَعُونَ لِأَنَّ الْمَوْعِظَةَ فِيهَا مَسْمُوعَةٌ وَهِيَ أَخْبَارُ الْقُرُونِ. وَفِي الثَّانِيَةِ بِـ يَرَوْا وَخَتَمَهَا بِـ يُبْصِرُونَ لِأَنَّهَا مَرْئِيَّةٌ. وَقوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الْأَنْعَام: 103]. فَإِنَّ اللَّطِيفَ يُنَاسِبُ مَا لَا يُدْرَكُ بِالْبَصَرِ، وَالْخَبِيرَ يُنَاسِبُ مَا يُدْرِكُهُ. وَقَوْلُهُ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} إِلَى قَوْلِه: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 12- 14]. فَإِنَّ فِي هَذِهِ الْفَاصِلَةِ التَّمْكِينَ التَّامَّ مِنْ فَوَاصِلِ الْقُرْآنِ الْمُنَاسِبَ لِمَا قَبْلَهَا، وَقَدْ بَادَرَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ حِينَ نَزَلَ أَوَّلُ الْآيَةِ إِلَى خَتْمِهَا بِهَا، قَبْلَ أَنْ يَسْمَعَ آخِرَهَا، فَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: «أَمْلَى عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} إِلَى قوله: {خَلْقًا آخَرَ} قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ: مِمَّ ضَحِكْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: بِهَا خُتِمَتْ». وَحُكِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَمِعَ قَارِئًا يَقْرَأُ: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ} [الْبَقَرَة: 209].) فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (وَلَمْ يَكُنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَقَالَ: إِنْ كَانَ هَذَا كَلَامَ اللَّهِ، فَلَا يَقُولُ كَذَا، الْحَكِيمُ لَا يَذْكُرُ الْغُفْرَانَ عِنْدَ الزَّلَلِ، لِأَنَّهُ إِغْرَاءٌ عَلَيْهِ.
تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: قَدْ تَجْتَمِعُ فَوَاصِلُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَيُخَالَفُ بَيْنَهَا فِي آيَاتِ الْقُرْآن: كَأَوَائِلِ النَّحْلِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى بَدَأَ بِذِكْرِ الْأَفْلَاكِ فَقَالَ: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} [النَّحْل: 3]. ثُمَّ ذَكَرَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ خَلْقَ الْأَنْعَامِ ثُمَّ عَجَائِبَ النَّبَاتِ فَقَالَ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النَّحْل: 10، 11]. فَجَعَلَ مَقْطَعَ هَذِهِ الْآيَةِ التَّفَكُّرَ لِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِحُدُوثِ الْأَنْوَاعِ الْمُخْتَلِفَةِ مِنَ النَّبَاتِ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ، وَلَمَّا كَانَ هُنَا مَظِنَّةُ سُؤَالٍ وَهُوَ أَنَّهُ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَثِّرُ فِيهِ طَبَائِعُ الْفُصُولِ وَحَرَكَاتُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَكَانَ الدَّلِيلُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْجَوَابِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ، كَانَ مَجَالُ التَّفَكُّرِ وَالنَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ بَاقِيًا فَأَجَابَ تَعَالَى عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَغَيُّرَاتِ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ مَرْبُوطَةٌ بِأَحْوَالِ الْأَفْلَاكِ فَتِلْكَ الْحَرَكَاتُ كَيْفَ حَصَلَتْ فَإِنْ كَانَ حُصُولُهَا بِسَبَبِ أَفْلَاكٍ أُخْرَى لَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْخَالِقِ الْحَكِيمِ فَذَاكَ إِقْرَارٌ بِوُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقوله: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النَّحْل: 12]. فَجَعَلَ مَقْطَعَ هَذِهِ الْآيَةِ الْعَقْلَ وَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ كُنْتَ عَاقِلًا فَاعْلَمْ أَنَّ التَّسَلْسُلَ بَاطِلٌ، فَوَجَبَ انْتِهَاءُ الْحَرَكَاتِ إِلَى حَرَكَةٍ يَكُونُ مُوجِدُهَا غَيْرَ مُتَحَرِّكٍ وَهُوَ الْإِلَهُ الْقَادِرُ الْمُخْتَارُ. وَالثَّانِي: أَنَّ نِسْبَةَ الْكَوَاكِبِ وَالطَّبَائِعِ إِلَى جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْوَرَقَةِ الْوَاحِدَةِ وَالْحَبَّةِ الْوَاحِدَةِ وَاحِدَةٌ، ثُمَّ إِنَّا نَرَى الْوَرَقَةَ الْوَاحِدَةَ مِنَ الْوَرْدِ أَحَدَ وَجْهَيْهَا فِي غَايَةِ الْحُمْرَةِ وَالْآخَرَ فِي غَايَةِ السَّوَادِ، فَلَوْ كَانَ الْمُؤَثِّرُ مُوجَبًا بِالذَّاتِ لَامْتَنَعَ حُصُولُ هَذَا التَّفَاوُتِ فِي الْآثَارِ فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُؤَثِّرَ قَادِرٌ مُخْتَارٌ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قوله: {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} [النَّحْل: 13]. كَأَنَّهُ قِيلَ اذْكُرْ مَا تَرَسَّخَ فِي عَقْلِكَ أَنَّ الْوَاجِبَ بِالذَّاتِ وَالطَّبْعِ لَا يَخْتَلِفُ تَأْثِيرُهُ، فَإِذَا نَظَرْتَ حُصُولَ هَذَا الِاخْتِلَافِ عَلِمْتَ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ لَيْسَ هُوَ الطَّبَائِعَ، بَلِ الْفَاعِلَ الْمُخْتَارَ فَلِهَذَا جَعَلَ مَقْطَعَ الْآيَةِ التَّذَكُّرَ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} الْآيَاتِ، فَإِنَّ الْأُولَى خُتِمَتْ بِقَوْلِه: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وَالثَّانِيَةَ بِقَوْلِه: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} وَالثَّالِثَةَ بِقَوْلِه: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. لِأَنَّ الْوَصَايَا الَّتِي فِي الْآيَةِ الْأُولَى إِنَّمَا يَحْمِلُ عَلَى تَرْكِهَا عَدَمُ الْعَقْلِ الْغَالِبِ عَلَى الْهَوَى، لِأَنَّ الْإِشْرَاكَ بِاللَّهِ لِعَدَمِ اسْتِكْمَالِ الْعَقْلِ الدَّالِّ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَعَظَمَتِهِ، وَكَذَلِكَ عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ لِسَبْقِ إِحْسَانِهِمَا إِلَى الْوَلَدِ بِكُلِّ طَرِيقٍ، وَكَذَلِكَ قَتْلُ الْأَوْلَادِ بِالْوَأْدِ مِنَ الْإِمْلَاقِ مَعَ وُجُودِ الرَّازِقِ الْحَيِّ الْكَرِيمِ، وَكَذَلِكَ إِتْيَانُ الْفَوَاحِشِ لَا يَقْتَضِيهِ عَقْلٌ، وَكَذَا قَتْلُ النَّفْسِ لِغَيْظٍ أَوْ غَضَبٍ فِي الْقَاتِلِ، فَحَسُنَ بَعْدَ ذَلِكَ (يَعْقِلُونَ). وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَتَعَلُّقُهَا بِالْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ وَالْقَوْلِيَّةِ، فَإِنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ لَهُ أَيْتَامًا يَخْلُفُهُمْ مِنْ بَعْدِهِ لَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يُعَامِلَ أَيْتَامَ غَيْرِهِ إِلَّا بِمَا يُحِبُّ أَنْ يُعَامَلَ بِهِ أَيْتَامُهُ. وَمَنْ يَكِيلُ أَوْ يَزِنُ أَوْ يَشْهَدُ لِغَيْرِهِ، لَوْ كَانَ ذَلِكَ الْأَمْرُ لَهُ لَمْ يُحِبَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِ خِيَانَةٌ، وَلَا بَخْسٌ، وَكَذَا مَنْ وَعَدَ لَوْ وُعِدَ لَمْ يُحِبَّ أَنْ يُخْلَفَ، وَمَنْ أَحَبَّ ذَلِكَ عَامَلَ النَّاسَ لِيُعَامِلُوهُ بِمِثْلِهِ، فَتَرْكُ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ لِغَفْلَةٍ عَنْ تَدَبُّرِ ذَلِكَ وَتَأَمُّلِهِ، فَذَلِكَ نَاسَبَ الْخَتْمَ بِقوله: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}. وَأَمَّا الثَّالِثَةُ: لِأَنَّ تَرْكَ اتِّبَاعِ شَرَائِعِ اللَّهِ الدِّينِيَّةِ مُؤَدٍّ إِلَى غَضَبِهِ وَإِلَى عِقَابِهِ فَحَسُنَ {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أَيْ: عِقَابَ اللَّهِ بِسَبَبِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْأَنْعَامِ أَيْضًا {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ} الْآيَاتِ، فَإِنَّهُ خَتَمَ الْأُولَى بِقوله: {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} وَالثَّانِيَةَ بِقوله: {لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} وَالثَّالِثَةَ بِقوله: {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} وَذَلِكَ لِأَنَّ حِسَابَ النُّجُومِ وَالِاهْتِدَاءَ بِهَا يَخْتَصُّ بِالْعُلَمَاءِ بِذَلِكَ فَنَاسَبَ خَتْمَهُ بِـ يَعْلَمُونَ، وَإِنْشَاءَ الْخَلَائِقِ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَنَقْلَهُمْ مِنْ صُلْبٍ إِلَى رَحِمٍ ثُمَّ إِلَى الدُّنْيَا، ثُمَّ إِلَى حَيَاةٍ وَمَوْتٍ، وَالنَّظَرُ فِي ذَلِكَ وَالْفِكْرُ فِيهِ أَدَقُّ فَنَاسَبَ خَتْمَهُ بِـ يَفْقَهُونَ لِأَنَّ الْفِقْهَ فَهْمُ الْأَشْيَاءِ الدَّقِيقَةِ. وَلَمَّا ذَكَرَ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ سَعَةِ الْأَرْزَاقِ وَالْأَقْوَاتِ وَالثِّمَارِ وَأَنْوَاعِ ذَلِكَ، نَاسَبَ خَتْمَهُ بِالْإِيمَانِ الدَّاعِي إِلَى شُكْرِهِ تَعَالَى عَلَى نِعَمِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الْحَاقَّة: 41، 42]. حَيْثُ خَتَمَ الْأُولَى بِتُؤْمِنُونَ وَالثَّانِيَةَ بِتَذَكَّرُونَ. وَوَجْهُهُ: أَنَّ مُخَالَفَةَ الْقُرْآنِ لِنَظْمِ الشِّعْرِ ظَاهِرَةٌ وَاضِحَةٌ لَا تَخْفَى عَلَى أَحَدٍ فَقَوْلُ مَنْ قَالَ: شِعْرٌ، كُفْرٌ وَعِنَادٌ مَحْضٌ، فَنَاسَبَ خَتْمَهُ بِقَوْلِه: {قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} وَأَمَّا مُخَالَفَتُهُ لِنَظْمِ الْكُهَّانِ وَأَلْفَاظِ السَّجْعِ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ فَتَحْتَاجُ إِلَى تَذَكُّرٍ وَتَدَبُّرٍ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا نَثْرٌ فَلَيْسَتْ مُخَالَفَتُهُ لَهُ فِي وُضُوحِهَا لِكُلِّ أَحَدٍ كَمُخَالَفَتِهِ الشِّعْرَ، وَإِنَّمَا تَظْهَرُ بِتَدَبُّرِ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ وَالْبَدَائِعِ وَالْمَعَانِي الْأَنِيقَةِ، فَحَسُنَ خَتْمُهُ بِقَوْلِه: {قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ}. وَمِنْ بَدِيعِ هَذَا النَّوْعِ اخْتِلَافُ الْفَاصِلَتَيْنِ فِي مَوْضِعَيْنِ، وَالْمُحَدَّثُ عَنْهُ وَاحِدٌ، فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ لِنُكْتَةٍ لَطِيفَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ [34]: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} ثُمَّ قَالَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [18]: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} قَالَ ابْنُ الْمُنِير: كَأَنَّهُ يَقُولُ إِذَا حَصَلَتِ النِّعَمُ الْكَثِيرَةُ فَأَنْتَ آخِذُهَا وَأَنَا مُعْطِيهَا، فَحَصَلَ لَكَ عِنْدَ أَخْذِهَا وَصْفَان: كَوْنُكَ ظَلُومًا وَكَوْنُكَ كَفَّارًا: يَعْنِي لِعَدَمِ وَفَائِكَ بِشُكْرِهَا، وَلِي عِنْدَ إِعْطَائِهَا وَصْفَان: وَهُمَا أَنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ، أُقَابِلُ ظُلْمَكَ بِغُفْرَانِي، وَكُفْرَكَ بِرَحْمَتِي، فَلَا أُقَابِلُ تَقْصِيرَكَ إِلَّا بِالتَّوْقِيرِ، وَلَا أُجَازِي جَفَاكَ إِلَّا بِالْوَفَاءِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّمَا خَصَّ سُورَةَ إِبْرَاهِيمَ بِوَصْفِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ، وَسُورَةَ النَّحْلِ بِوَصْفِ الْمُنْعِمِ، لِأَنَّهُ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ فِي مَسَاقِ وَصْفِ الْإِنْسَانِ، وَفِي سُورَةِ النَّحْلِ فِي مَسَاقِ صِفَاتِ اللَّهِ وَإِثْبَاتِ أُلُوهِيَّتِهِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْجَاثِيَةِ [15]: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} وَفِي فُصِّلَتْ [46] خَتَمَ بِقَوْلِه: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} وَنُكْتَةُ ذَلِكَ أَنَّ قَبْلَ الْآيَةِ الْأُولَى {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الْجَاثِيَة: 14]. فَنَاسَبَ الْخِتَامَ بِفَاصِلَةِ الْبَعْثِ، لِأَنَّ قَبْلَهُ وَصْفَهُمْ بِإِنْكَارِهِ. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَالْخِتَامُ بِمَا فِيهَا مُنَاسِبٌ أَنَّهُ لَا يُضِيعُ عَمَلًا صَالِحًا، وَلَا يَزِيدُ عَلَى مَنْ عَمِلَ سَيِّئًا. وَقَالَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [48]. {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} ثُمَّ أَعَادَهَا وَخَتَمَ بِقوله: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النِّسَاء: 116]. وَنُكْتَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْأُولَى نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، وَهُمُ الَّذِينَ افْتَرَوْا عَلَى اللَّهِ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِهِ، وَالثَّانِيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ، وَلَا كِتَابَ لَهُمْ وَضَلَالُهُمْ أَشَدُّ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ فِي الْمَائِدَةِ [44]: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ثُمَّ أَعَادَهَا فَقَالَ: {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الْمَائِدَة: 75]. ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَة: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الْمَائِدَة: 74]. وَنُكْتَتُهُ أَنَّ الْأُولَى نَزَلَتْ فِي أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ، وَالثَّانِيَةَ فِي الْيَهُودِ، وَالثَّالِثَةَ فِي النَّصَارَى. وَقِيلَ: الْأُولَى فِيمَنْ جَحَدَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَالثَّانِيَةُ فِيمَنْ خَالَفَ مَعَ عِلْمِهِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ، وَالثَّالِثَةُ فِيمَنْ خَالَفَهُ جَاهِلًا. وَقِيلَ: الْكَافِرُ وَالظَّالِمُ وَالْفَاسِقُ كُلُّهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ الْكُفْرُ عَبَّرَ عَنْهُ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ لِزِيَادَةِ الْفَائِدَةِ، وَاجْتِنَابِ صُورَةِ التَّكْرَارِ. وَعَكْسُ هَذَا اتِّفَاقُ الْفَاصِلَتَيْنِ وَالْمُحَدَّثُ عَنْهُ مُخْتَلِفٌ، فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ النُّورِ [58]: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} إِلَى قوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ثُمَّ قَالَ: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النُّور: 59]. التَّنْبِيهُ الثَّانِي: مِنْ مُشْكِلَاتِ الْفَوَاصِلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الْمَائِدَة: 118]. فَإِنَّ قوله: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ} يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْفَاصِلَةُ الْغَفُورَ الرَّحِيمَ وَكَذَا نُقِلَتْ عَنْ مُصْحَفِ أُبَيٍّ، وَبِهَا قَرَأَ ابْنُ شَنْبُوذَ. وَذُكِرَ فِي حِكْمَتِهِ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ لِمَنْ اسْتَحَقَّ الْعَذَابَ إِلَّا مَنْ لَيْسَ فَوْقَهُ أَحَدٌ يَرُدُّ عَلَيْهِ حُكْمَهُ فَهُوَ الْعَزِيزُ: أَي: الْغَالِبُ وَالْحَكِيمُ هُوَ الَّذِي يَضَعُ الشَّيْءَ فِي مَحَلِّهِ، وَقَدْ يَخْفَى وَجْهُ الْحِكْمَةِ عَلَى بَعْضِ الضُّعَفَاءِ فِي بَعْضِ الْأَفْعَالِ فَيَتَوَهَّمُ أَنَّهُ خَارِجٌ عَنْهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَكَانَ فِي الْوَصْفِ بِالْحَكِيمِ احْتِرَاسٌ حَسَنٌ أَيْ: وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ مَعَ اسْتِحْقَاقِهِمُ الْعَذَابَ فَلَا مُعْتَرَضَ عَلَيْكَ لِأَحَدٍ فِي ذَلِكَ، وَالْحِكْمَةُ فِيمَا فَعَلْتَهُ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ [71]. {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وَفِي سُورَةِ الْمُمْتَحَنَةِ [5]. {وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وَفِي غَافِرٍ [8]. {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ} إِلَى قَوْلِه: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وَفِي النُّورِ [10]. {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} فَإِنَّ بَادِئَ الرَّأْيِ يَقْتَضِي: تَوَّابٌ رَحِيمٌ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ مُنَاسِبَةٌ لِلتَّوْبَة: لَكِنْ عَبَّرَ بِهِ إِشَارَةً إِلَى فَائِدَةِ مَشْرُوعِيَّةِ اللِّعَانِ وَحِكْمَتِهِ، وَهِيَ السِّتْرُ عَنْ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ الْعَظِيمَةِ. وَمِنْ خَفِيِّ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَة: [29]. {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وَفِي آلِ عِمْرَانَ [29]. {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فَإِنَّ الْمُتَبَادِرَ إِلَى الذِّهْنِ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ الْخَتْمُ بِالْقُدْرَةِ وَفِي آيَةِ آلِ عِمْرَانَ الْخَتْمُ بِالْعِلْمِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ آيَةَ الْبَقَرَةِ لَمَّا تَضَمَّنَتِ الْإِخْبَارَ عَنْ خَلْقِ الْأَرْضِ وَمَا فِيهَا عَلَى حَسَبِ حَاجَاتِ أَهْلِهَا وَمَنَافِعِهِمْ وَمَصَالِحِهِمْ وَخَلْقِ السَّمَاوَاتِ خَلْقًا مُسْتَوِيًّا مُحْكَمًا مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ وَالْخَالِقُ عَلَى الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَا فَعَلَهُ كُلِّيًّا وَجُزْئِيًّا، مُجْمَلًا وَمُفَصَّلًا، نَاسَبَ خَتْمَهَا بِصِفَةِ الْعِلْمِ، وَآيَةَ آلِ عِمْرَانَ لَمَّا كَانَتْ فِي سِيَاقِ الْوَعِيدِ عَلَى مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ، وَكَانَ التَّعْبِيرُ بِالْعِلْمِ فِيهَا كِنَايَةً عَنِ الْمُجَازَاةِ بِالْعِقَابِ وَالثَّوَابِ نَاسَبَ خَتْمَهَا بِصِفَةِ الْقُدْرَةِ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الْإِسْرَاء: 44]. فَالْخَتْمُ بِالْحِلْمِ وَالْمَغْفِرَةِ عَقِبَ تَسَابِيحِ الْأَشْيَاءِ غَيْرُ ظَاهِرٍ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ وَذُكِرَ فِي حِكْمَتِهِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا تُسَبِّحُ وَلَا عِصْيَانَ فِي حَقِّهَا وَأَنْتُمْ تَعْصُونَ، خَتَمَ بِهِ مُرَاعَاةً لِلْمُقَدَّرِ فِي الْآيَةِ وَهُوَ الْعِصْيَانُ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيث: «لَوْلَا بَهَائِمُ رُتَّعٌ، وَشُيُوخٌ رُكَّعٌ، وَأَطْفَالٌ رُضَّعٌ، لَصُبَّ عَلَيْكُمُ الْعَذَابُ صَبًّا، وَلَرُصَّ رَصًّا». وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ حَلِيمًا عَنْ تَفْرِيطِ الْمُسَبِّحِينَ غَفُورًا لِذُنُوبِهِمْ. وَقِيلَ: حَلِيمًا عَنِ الْمُخَاطَبِينَ الَّذِينَ لَا يَفْقَهُونَ التَّسْبِيحَ، بِإِهْمَالِهِمُ النَّظَرَ فِي الْآيَاتِ وَالْعِبَرِ، لِيَعْرِفُوا حَقَّهُ بِالتَّأَمُّلِ فِيمَا أَوْدَعَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ مِمَّا يُوجِبُ تَنْزِيهَهُ. التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ فِي الْفَوَاصِلِ مَا لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ عَقِبَ الْأَمْرِ بِالْغَضِّ فِي سُورَةِ النُّورِ {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} وَقَوْلِهِ عَقِبَ الْأَمْرِ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِجَابَةِ {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [الْبَقَرَة: 186]. وَقِيلَ: فِيهِ تَعْرِيضٌ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، حَيْثُ ذَكَرَ ذَلِكَ عَقِبَ ذِكْرِ رَمَضَانَ: أَيْ: لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ إِلَى مَعْرِفَتِهَا. وَأَمَّا التَّصْدِيرُ فَهُوَ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ اللَّفْظَةُ بِعَيْنِهَا تَقَدَّمَتْ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ وَتُسَمَّى أَيْضًا رَدَّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ. وَقَالَ ابْنُ الْمُعْتَزّ: هُوَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ. الْأَوَّلُ: أَنْ يُوَافِقَ آخِرَ الْفَاصِلَةِ وَآخِرَ كَلِمَةٍ فِي الصَّدْرِ نَحْوَ: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النِّسَاء: 166]. وَالثَّانِي: أَنْ يُوَافِقَ أَوَّلَ كَلِمَةٍ مِنْهُ نَحْوَ: {وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آلِ عِمْرَانَ: 8]. {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ} [الشُّعَرَاء: 168]. الثَّالِثُ: أَنْ يُوَافِقَ بَعْضَ كَلِمَاتِهِ نَحْوَ: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الْأَنْعَام: 10]. {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الْإِسْرَاء: 21]. {قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [طه: 61]. إِلَى قَوْلِه: {وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} [طه: 61]. {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نُوحٍ: 15].
وَأَمَّا التَّوْشِيحُ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ مَا يَسْتَلْزِمُ الْقَافِيَةَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّصْدِيرِ أَنَّ هَذَا دَلَالَتُهُ مَعْنَوِيَّةٌ وَذَاكَ لَفْظِيَّةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ} الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ: 33] فَإِنَّ {اصْطَفَى} لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَاصِلَةَ {الْعَالَمِينَ} بِاللَّفْظِ لِأَنَّ لَفْظَ {الْعَالَمِينَ} غَيْرُ لَفْظِ اصْطَفَى، وَلَكِنْ بِالْمَعْنَى; لِأَنَّهُ يُعْلَمُ أَنَّ مِنْ لَوَازِمِ اصْطَفَى أَنْ يَكُونَ مُخْتَارًا عَلَى جِنْسِهِ، وَجِنْسُ هَؤُلَاءِ الْمُصْطَفَيْنَ الْعَالَمُونَ. وَكَقَوْلِه: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ} الْآيَةَ [يس: 37]، قَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَع: فَإِنَّ مَنْ كَانَ حَافِظًا لِهَذِهِ السُّورَةِ مُتَفَطِّنًا إِلَى أَنَّ مَقَاطِعَ آيِهَا النُّونُ الْمُرْدَفَةُ، وَسَمِعَ فِي صَدْرِ الْآيَةِ انْسِلَاخَ النَّهَارِ مِنَ اللَّيْلِ، عَلِمَ أَنَّ الْفَاصِلَةَ {مُظْلِمُونَ} لِأَنَّ مَنْ أَسْلَخَ النَّهَارَ عَنْ لَيْلِهِ أَظْلَمَ: أَيْ: دَخَلَ فِي الظُّلْمَةِ وَلِذَلِكَ سُمِّيَ تَوْشِيحًا لِأَنَّ الْكَلَامَ لَمَّا دَلَّ أَوَّلُهُ عَلَى آخِرِهِ نُزِّلَ الْمَعْنَى مَنْزِلَةَ الْوِشَاحِ، وَنُزِّلَ أَوَّلُ الْكَلَامِ وَآخِرُهُ مَنْزِلَةَ الْعَاتِقِ وَالْكَشْحِ اللَّذَيْنِ يُحَوَّلُ عَلَيْهِمَا الْوِشَاحُ. وَأَمَّا الْإِيغَالُ فَتَقَدَّمَ فِي نَوْعِ الْإِطْنَابِ.
قَسَّمَ الْبَدِيعِيُّونَ السَّجْعَ وَمِثْلَهُ الْفَوَاصِلَ إِلَى أَقْسَامٍ الْقُرْآنُ: مُطَرَّفٍ، وَمُتَوَازٍ، وَمُرَصَّعٍ، وَمُتَوَازِنٍ، وَمُتَمَاثِلٍ. فَالْمُطَرَّفُ: أَنْ تَخْتَلِفَ الْفَاصِلَتَانِ فِي الْوَزْنِ وَتَتَّفِقَا فِي حُرُوفِ السَّجْعِ نَحْوَ: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نُوحٍ: 13، 14]. وَالْمُتَوَازِي: أَنْ يَتَّفِقَا وَزْنًا وَتَقْفِيَةً، وَلَمْ يَكُنْ مَا فِي الْأُولَى مُقَابِلًا لِمَا فِي الثَّانِيَةِ فِي الْوَزْنِ وَالتَّقْفِيَةِ نَحْوَ: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} [الْغَاشِيَة: 13، 14]. وَالْمُتَوَازِنُ: أَنْ يَتَّفِقَا فِي الْوَزْنِ دُونَ التَّقْفِيَةِ نَحْوَ: {وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} [الْغَاشِيَة: 15، 16]. وَالْمُرَصَّعُ: أَنْ يَتَّفِقَا وَزْنًا وَتَقْفِيَةً، وَيَكُونَ مَا فِي الْأُولَى مُقَابِلًا لِمَا فِي الثَّانِيَةِ كَذَلِكَ نَحْوَ: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الْغَاشِيَة: 25، 26]. {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الِانْفِطَار: 13، 14]. وَالْمُتَمَاثِلُ: أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي الْوَزْنِ دُونَ التَّقْفِيَةِ وَتَكُونَ أَفْرَادُ الْأُولَى مُقَابِلَةً لِمَا فِي الثَّانِيَةِ، فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُرَصَّعِ كَالْمُتَوَازِنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُتَوَازِي نَحْوَ: {وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الصَّافَّات: 117، 118]. فَالْكِتَابُ وَالصِّرَاطُ يَتَوَازَنَانِ، وَكَذَا الْمُسْتَبِينُ وَالْمُسْتَقِيمُ وَاخْتَلَفَا فِي الْحَرْفِ الْأَخِيرِ.
بَقِيَ نَوْعَانِ مُتَعَلِّقَانِ بِالْفَوَاصِلِ الْقُرْآنُ. أَحَدُهُمَا: التَّشْرِيعُ، وَسَمَّاهُ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَع: التَّوْءَمَ، وَأَصْلُهُ أَنْ يَبْنِيَ الشَّاعِرُ بَيْتَهُ عَلَى وَزْنَيْنِ مِنْ أَوْزَانِ الْعَرُوضِ، فَإِذَا أَسْقَطَ مِنْهَا جُزْءًا أَوْ جُزْأَيْنِ صَارَ الْبَاقِي بَيْتًا مِنْ وَزْنٍ آخَرَ، ثُمَّ زَعَمَ قَوْمٌ اخْتِصَاصَهُ بِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ يَكُونُ فِي النَّثْرِ بِأَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى سَجْعَتَيْنِ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الْأُولَى مِنْهُمَا كَانَ الْكَلَامُ تَامًّا مُفِيدًا، وَإِنْ أُلْحِقَتْ بِهِ السَّجْعَةُ الثَّانِيَةُ كَانَ فِي التَّمَامِ وَالْإِفَادَةِ عَلَى حَالِهِ مَعَ زِيَادَةِ مَعْنَى مَا زَادَ مِنَ اللَّفْظِ. قَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَع: وَقَدْ جَاءَ مِنْ هَذَا الْبَابِ مُعْظَمُ سُورَةِ الرَّحْمَنِ، فَإِنَّ آيَاتِهَا لَوِ اقْتُصِرَ فِيهَا عَلَى أَوَّلِ الْفَاصِلَتَيْنِ دُونَ: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرَّحْمَن: 18]. لَكَانَ تَامًّا مُفِيدًا، وَقَدْ كَمُلَ بِالثَّانِيَةِ فَأَفَادَ مَعْنًى زَائِدًا مِنَ التَّقْرِيرِ وَالتَّوْبِيخِ. قُلْتُ: التَّمْثِيلُ غَيْرُ مُطَابِقٍ وَالْأَوْلَى أَنْ يُمَثِّلَ بِالْآيَاتِ الَّتِي فِي إِثْبَاتِهَا مَا يَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ فَاصِلَةً، كَقَوْلِه: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطَّلَاق: 12]. وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. الثَّانِي: الِالْتِزَامُ وَيُسَمَّى لُزُومَ مَا لَا يَلْزَمُ، وَهُوَ أَنْ يُلْتَزَمَ فِي الشِّعْرِ أَوِ النَّثْرِ حَرْفٌ أَوْ حَرْفَانِ فَصَاعِدًا قَبْلَ الرَّوِيِّ بِشَرْطِ عَدَمِ الْكُلْفَةِ. مِثَالُ الْتِزَامِ حَرْفٍ {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} [الضُّحَى: 9، 10]. الْتَزَمَ الْهَاءَ قَبْلَ الرَّاءِ وَمِثْلُهُ: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشَّرْح: 1]. الْآيَاتِ الْتَزَمَ فِيهَا الرَّاءَ قَبْلَ الْكَافِ {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِي الْكُنَّسِ} [التَّكْوِير: 15، 16] الْتَزَمَ فِيهَا النُّونَ الْمُشَدَّدَةَ قَبْلَ السِّينِ {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} [الِانْشِقَاق: 17، 18]. وَمِثَالُ الْتِزَامِ حَرْفَيْن: {وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطُّور: 1، 2]. {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} [الْقَلَم: 2، 3]. {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} [الْقِيَامَة: 26، 27]. وَمِثَالُ الْتِزَامِ ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ: {تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} [الْأَعْرَاف: 201، 202].
تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ قَالَ أَهْلُ الْبَدِيع: أَحْسَنُ السَّجْعِ فِي الْقُرْآنِ وَنَحْوِهِ مَا تَسَاوَتْ قَرَائِنُهُ نَحْوَ: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الْوَاقِعَة: 28- 30]. وَيَلِيهِ مَا طَالَتْ قَرِينَتُهُ الثَّانِيَةُ نَحْوَ: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النَّجْم: 1، 2]. أَوِ الثَّالِثَةُ نَحْوَ: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ} الْآيَةَ [الْحَاقَّة: 30- 32]. وَقَالَ ابْنُ الْأَثِير: الْأَحْسَنُ فِي الثَّانِيَةِ الْمُسَاوَاةُ، وَإِلَّا فَأَطْوَلُ قَلِيلًا. وَفِي الثَّالِثَةِ أَنْ تَكُونَ أَطْوَلَ. وَقَالَ الْخَفَاجِيُّ: لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الثَّانِيَةُ أَقْصَرَ مِنَ الْأُولَى. الثَّانِي: قَالُوا أَحْسَنُ السَّجْعِ مَا كَانَ قَصِيرًا لِدَلَالَتِهِ عَلَى قُوَّةِ الْمُنْشِئِ، وَأَقَلُّهُ كَلِمَتَانِ نَحْوَ: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} [الْمُدَّثِّر: 1، 2]. الْآيَاتِ {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} [الْمُرْسَلَات: 1]. الْآيَاتِ {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} [الذَّارِيَات: 1]. الْآيَاتِ {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} [الْعَادِيَات: 1] الْآيَاتِ. الثَّالِثُ: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي كَشَّافِهِ الْقَدِيم: لَا تَحْسُنُ الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْفَوَاصِلِ لِمُجَرَّدِهَا إِلَّا مَعَ بَقَاءِ الْمَعَانِي عَلَى سَرْدِهَا عَلَى الْمَنْهَجِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ حُسْنُ النَّظْمِ وَالْتِآمُهُ، فَأَمَّا أَنْ تُهْمَلَ الْمَعَانِي وَيُهْتَمَّ بِتَحْسِينِ اللَّفْظِ وَحْدَهُ، غَيْرَ مَنْظُورٍ فِيهِ إِلَى مُؤَدَّاهُ فَلَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْبَلَاغَةِ، وَبَنَى عَلَى ذَلِكَ أَنَّ التَّقْدِيمَ فِي {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [الْبَقَرَة: 4]. لَيْسَ لِمُجَرَّدِ الْفَاصِلَةِ بَلْ لِرِعَايَةِ الِاخْتِصَاصِ. الرَّابِعُ: مَبْنَى الْفَوَاصِلِ عَلَى الْوَقْفِ، وَلِهَذَا سَاغَ مُقَابَلَةُ الْمَرْفُوعِ بِالْمَجْرُورِ وَبِالْعَكْسِ، كَقَوْلِه: {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ} مَعَ قوله: {عَذَابٌ وَاصِبٌ} وَ{شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصَّافَّات: 9- 11]. وَقَوْلُهُ: {بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} مَعَ قوله: {قَدْ قُدِرَ}، {وَدُسُرٍ}، {مُسْتَمِرٌّ} [الْقَمَر: 11، 12، 13، 19]. وَقَوْلُهُ: {وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} مَعَ قوله: {وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} [الرَّعْد: 11، 12]. الْخَامِسُ: كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ خَتْمُ الْفَوَاصِلِ بِحُرُوفِ الْمَدِّ وَاللِّينِ وَإِلْحَاقُ النُّونِ، وَحِكْمَتُهُ وُجُودُ التَّمَكُّنِ مِنَ التَّطْرِيبِ بِذَلِكَ كَمَا قَالَ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُمْ إِذَا تَرَنَّمُوا يُلْحِقُونَ الْأَلِفَ وَالْيَاءَ وَالنُّونَ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا مَدَّ الصَّوْتَ وَيَتْرُكُونَ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَتَرَنَّمُوا، وَجَاءَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى أَسْهَلِ مَوْقِفٍ وَأَعْذَبِ مَقْطَعٍ. السَّادِسُ حُرُوفُ الْفَوَاصِلِ إِمَّا مُتَمَاثِلَةٌ وَإِمَّا مُتَقَارِبَةٌ الْقُرْآنُ. فَالْأُولَى: مِثْلُ: {وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} [الطُّور: 1- 4]. وَالثَّانِي مِثْلُ {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الْفَاتِحَة: 3، 4]. {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} [ق: 1، 2]. قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَغَيْرُهُ: وَفَوَاصِلُ الْقُرْآنِ لَا تَخْرُجُ عَنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ بَلْ تَنْحَصِرُ فِي الْمُتَمَاثِلَةِ وَالْمُتَقَارِبَةِ. قَالَ: وَبِهَذَا يَتَرَجَّحُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي عَدِّ الْفَاتِحَةِ سَبْعَ آيَاتٍ مَعَ الْبَسْمَلَةِ، وَجَعْلِ {صِرَاطَ الَّذِينَ} إِلَى آخِرِهَا آيَةً فَإِنَّ مَنْ جَعَلَ الْآيَةَ السَّادِسَةَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مَرْدُودٌ بِأَنَّهُ لَا يُشَابِهُ فَوَاصِلَ سَائِرِ آيَاتِ السُّورَةِ، لَا بِالْمُمَاثَلَةِ وَلَا بِالْمُقَارَبَةِ، وَرِعَايَةُ التَّشَابُهِ فِي الْفَوَاصِلِ لَازِمَةٌ. السَّابِعُ: كَثُرَ فِي الْفَوَاصِلِ التَّضْمِينُ وَالْإِيطَاءُ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِعَيْبَيْنِ فِي النَّثْرِ وَإِنْ كَانَا عَيْبَيْنِ فِي النَّظْمِ، فَالتَّضْمِينُ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَ الْفَاصِلَةِ مُتَعَلِّقًا بِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ} [الصَّافَّات: 137، 138]. وَالْإِيطَاءُ تَكَرُّرُ الْفَاصِلَةِ بِلَفْظِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْإِسْرَاءِ: {هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} وَخَتَمَ بِذَلِكَ الْآيَتَيْنِ بَعْدَهَا.
|