الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء **
وذلك أن أبا عبد الله الحسين بن أحمد بن محمد بن زكريا الشعيي سار إلى أبي القاسم رستم بن الحسن بن فرج بن حوشب بن ذاذان الكوفي باليمن وصحبه وصار من كبار أصحابه وكان له علم وفهم ودهاء ومكر فلما ورد على ابن حوشب موت الحلواني ورفيقه بالمغرب قال لأبي عبد الله الشعيي: إن أرض كتامة من المغرب قد حرثها الحلواني وأبو سفيان وقد ماتا وليس لها غيرك فبادر فإنها موطأة ممهدة لك. فخرج أبو عبد الله إلى مكة وقد أعطاه ابن حوشب مالاً فلما قدم سأل عن حجاج كتامة فأرشد إليهم واجتمع بهم ولم يعرفهم قصده وذلك أنه جلس قريبا منهم فسمعهم يتحدثون بفضائل آل البيت فاستحسن ذلك وحدثهم في معناه فلما أراد القيام سألوه أن يأذن لهم في زيارته فأذن لهم وسألوه أين مقصده فقال: مصر ففرحوا بصحبته فرحلوا وهو لا يخبرهم بغرضه وأظهر العبادة والزهد فازدادوا فيه رغبة وخدموه. وكان يسألهم عن بلادهم وأحوالهم وقبائلهم وعن طاعتهم لسلطان إفريقية فقالوا: ماله علينا طاعة وبيننا وبينه عشرة أيام. قال: أتحلمون السلاح قالوا: ولم يزل يتعرف أحوالهم حتى وصلوا إلى مصر فلما أراد وداعهم قالوا له: أي شيء تطلب بمصر قال: أطلب التعليم بها قالوا: إذا كنت تقصد هذا فبلادنا أنفع لك ونحن أعرف بحقك ولم يزالوا به حتى أجابهم إلى المسير معهم. فلما قاربوا بلادهم رجال من الشيعة فأخبروهم بخبره فرغبوا في نزوله عندهم وأقرعوا فيمن يضيفه منهم. ثم ارتحلوا حتى وصلوا إلى أرض كتامة منتصف ربيع الأول سنة ثمان وثمانين ومائتين فسأله قوم أن ينزل عندهم حتى يقاتلوا دونه فقال لهم: أين يكون فج الأخيار فعجبوا من ذلك ولم يكونوا ذكروه له فقالوا له: عند بني سليمان. إليه نقصد ثم نأتي كل قوم منكم في ديارهم ونزورهم في بيوتهم فأرضى بذلك الجميع. وسار إلى جبل يقال له إيكجان وفيه فج الأخيار فقال: هذا فج الأخيار وما سمى إلا بكم ولقد جاء في الآثار: للمهدي هجرة تنبو عن الأوطان ينصره فيها الأخيار من أهل ذلك الزمان قوم اسمهم مشتق من الكتمان وبخروجكم في هذا الفج سمى فج الأخيار. فتسامعت القبائل وأتاه البرابر من كل مكان فعظم أمره إلى أن تقاتلت كتامة عليه مع قبائل البربر وهو لا يذكر في ذلك اسم المهدي فاجتمع أهل العلم على مناظرته وقتله فمنعه الكتاميون من المناظرة وكان اسمه عندهم أبا عبد الله المشرقي. وبلغ خبره إلى إبراهيم بن أحمد بن الأغلب أمير إفريقية فأرسل إلى عامله على مدينة ميلة ليسأله عن أمره فصغره عنده وذكر أنه يلبس الخشن ويأمر بالخير والعبادة فسكت عنه. ثم إن أبا عبد الله قال للكتاميين. أنا صاحب البذر الذي ذكر لكم أبو سفيان والحلواني. فازدادت محبتهم له وتعظيمهم لأمره فلما ظهر لأهل المغرب علمه وفضله قال أحد الأولياء لولا واحدة كان الحلواني يقولها ما تخالجني الشك في أن هذا الرجل هو الذي كان الحلواني يبشر به. قالوا: وما هي قال: كان إذا وصفه قال: في فيه إصبع فبلغ ذلك أبا عبد الله فتبسم وقال: هذا لا يكون فلما أخذ العهد بعد ذلك على من سمع هذا القول واشترط عليهم الكتمان وضع إصبعه على فيه وقال: هذا هو الإصبع الذي كان يقوله الحلواني أمركم بالصمت والكتمان فأما أن يكون في فم رجل إصبع فلا فقالوا كذلك والله هو وتفرقت البرابر وكتامة بسببه وأراد بعضهم قتله فاختفى ووقع بينهم قتال شديد واتصل الخبر بالحسن بن هرون من أكابر كتامة فأخذ أبا عبد الله إليه ودافع عنه ومضى به إلى مدينة تاصروت فأتته القبائل من كل مكان وعظم شأنه وصارت الرئاسة للحسن بن هرون وسلم إليه أبو عبد الله أعنة الخيل وظهر من الاستتار وشهد الحروب فكان الظفر له وغنم الأموال وخندق على مدينة تاصروت وقد زحفت إليه قبائل المغرب فاقتتلوا عدة مرار كان له فيها الظفر وصار إليه أموالهم فاستقام له أمر البربر وعامة كتامة وزحف إلى مدينة ميلة وقاتل أهلها قتالا شديدا وأخذ الأرباض ثم ملك البلد بأمان فبعث إليه إبراهيم بن الأغلب ابنه الأحول في إثنى عشر ألفا وأتبعه بمثلهم فالتقى مع أبي عبد الله فانهزم أبو عبد الله وقتل كثير من أصحابه وتبعه الأحول فحال بينهما الثلج ولحق أبو عبد الله بجبل إيكجان وملك الأحول مدينة تاصروت وأحرقها وأحرق مدينة ميلة فبنى أبو عبد الله دار هجرة بإيكجان وقصده أصحابه وعاد الأحول إلى إفريقية فمات إبراهيم بن الأغلب وقتل ابنه أبو العباس وولى زيادة الله بن الأغلب واشتغل باللهو واللعب فاشتد سرور أبي عبد الله. ثم إن أبا مضر زيادة الله قتل الأحول فانتشرت حينئذ جنود أبي عبد الله في البلاد وصار يقول: المهدي يخرج في هذه الأيام ويملك الأرض فيا طوبى لمن هاجر إلي وأطاعني. وأخذ يغري الناس بزيادة الله ويعيبه وكان أكثر من عند زيادة الله من الوزراء شيعة فلم يكن يسوءهم ظفر أبي عبد الله خصوصا وقد كان يذكر لهم من كرامات المهدي وأنه يحيي الموتى ويرد الشمس من مغربها ويملك الأرض بأسرها وهو مع ذلك يبعث إلى الوزراء ويعدهم وبعث أبو عبد الله برجال. وكان من خبر ذلك أن أبا عبد الله سير إلى عبيد الله رجالا من كتامة يخبرونه بما فتح الله عليه وأنهم ينتظرونه فوافوه بسلمية من أرض حمص قد كان اشتهر خبر عبيد الله عند الناس فطلبه المكتفي ففر من سلمية ومعه ابنه أبو القاسم نزار الذي قام بالأمر من بعده وخرج معهما خاصته ومواليه. فلما انتهى إلى مصر أقام مستتراً بزي التجار فأتت الكتب إلى عيسى التوشري أمير مصر من المعتضد بالله العباسي بصفة عبيد الله وحليته وأنه يأخذ عليه الطرق ويقبضه وكل من يشبهه فلما قرئت الكتب كان في المجلس ابن المدير الكاتب فبلغ ذلك عبيد الله فسار من مصر مع أصحابه ومعه أموال كثيرة فأوسع في النفقة على من صحبه وفرق النوشري الأعوان في طلب عبيد الله وخرج بنفسه فلما رآه لم يشك فيه وقبض عليه ووكل به وقد نزل في بستان ثم استدعاه ليأكل معه فأعلمه أنه صائم فرق له وقال: أعلمني حقيقة أمرك حتى أطلقك. فخوفه الله تعالى وأنكر حاله وما زال يتلطف به حتى أطلقه وخلى سبيله وأراد أن يرسل معه من يوصله إلى رفقته فقال: لا حاجة إلى ذلك ودعا له. وقيل إنه أعطاه مالاً في الباطن حتى أطلقه فرجع بعض أصحاب النوشري عليه باللوم فندم على إطلاقه وأراد أن يبعث الجيش وراءه ليرده. وكان عبيد الله قد لحق بأصحابه فإذا ابنه أبو القاسم قد ضيع كلباً كان يصيد به وهو يبكي عليه فعرفه عبيده أنهم تركوه في البستان الذي كانوا فيه فرجع عبيد الله بسبب الكلب حتى دخل البستان ومعه عبيده فلما رآه النوشري سأل عن خبره فقيل إنه عاد بسبب كلب لولده فقال النوشري لأصحابه: قبحكم الله أردتم أن تحملوني على هذا الرجل حتى آخذه فلو كان يطلب ما يقال أو لو كان مريباً لكان يطوى المراحل ويخفى نفسه ولا كان يرجع في طلب كلب وتركه ولم يعرض له. فسار عبيد الله وخرج عليه عدة من اللصوص بموضع يقال له: الطاحونة فأخذوا بعض متاعه منه كتب وملاحم كانت لآبائه فعظم أمرها عليه فيقال إنه لما خرج ابنه أبو القاسم في المرة الأولى إلى الديار المصرية أخذها من ذلك المكان. ثم إن عبيد الله انتهى هو وولده إلى مدينة طرابلس ففارق التجار وكان في صحبته أبو العباس أخو أبي عبد الله فقدمه عبيد الله إلى القيروان فسار إليها فوجد خبر عبيد الله قد سبق إلى زيادة الله بن الأغلب فقبض على أبي العباس وقرره فأنكر وقال: أنا رجل تاجر صحبت رجلا في القفل فحبس. وبلغ الخبر إلى عبيد الله فسار إلى قسنطينة. ووصل كتاب زيادة الله إلى ناظر طرابلس بأخذ عبيد الله فلم يدركه ووافى عبيد الله قسطنطينة فلم يقصد أبا عبد الله لأن أخاه أبا العباس كان قد أخذ وسار إلى سجلماسة فوافت الرسل في طلبه وقد سار فلم يوجد ووصل إلى سجلماسة فأقام بها وقد أقيمت له المراصد بالطرقات. وكان على سجلماسة اليسع بن مدرار فأهدى إليه عبيد الله وواصله فقربه اليسع وأحيه فأتاه كتاب زيادة الله يعرفه أن الرجل الذي يدعو إليه أبو عبد الله الشيعي عنده فلم يجد بداً من القبض على عبيد الله وحبسه. وأخذ زيادة الله في جمع العساكر فقدم إبراهيم بن حنيش من أقاربه على أربعين ألفا وسلم إليه الأموال والعدد وسار وقد انضاف إليه مثل جيشه فنزل مدينة قسنطينية وأتاه كثير من كتامة الذين لم يطيعوا أبا عبد الله وقتل في طريقه خلقا كثيرا من أصحاب أبي عبد الله هذا وأبو عبد الله متحصن بالجبل فأقام إبراهيم بقسنطينية ستة أشهر فلما رأى أن أبا عبد الله لا يتقدم إليه زحف بعساكره فأخرج إليه أبو عبد الله خيلا فلما رآها إبراهيم قصد إليها بنفسه والأثقال على ظهور الدواب لم تحط فقاتلهم قتالا كثيرا وأدركهم أبو عبد الله فانهزم إبراهيم بمن معه وجرح فغنم أبو عبد الله جميع ما معهم وقتل منهم خلقا كثيرا فسار إبراهيم إلى القيروان وعظم أمر أبي عبد الله واستقرت دولته. وكتب كتاباً إلى عبيد الله وهو بسجن سجلماسة يبشره وسير الكتاب مع بعض ثقاته فدخل عليه السجن في زي قصاب يبيع اللحم فاجتمع به وعرفه. ونازل أبو عبد الله عدة مدائن فأخذها بالسيف وضايق زيادة الله فحشد وجمع عساكره وبعث إليه هرون الطيبي في خلق كثير فقتل هرون في خلائق لا تحصى. فاشتد الأمر على زيادة الله وخرج بنفسه فوصل إلى الأربس في سنة خمس وتسعين ومائتين وسير جيشاً مع ابن عمه إبراهيم بن الأغلب. واشتغل زيادة الله بلهوه ولعبه وأبو عبد الله يأخذ المدائن شيئاً بعد شيء عنوة وصلحا فأخذ مجانة وتيفاش ومسكيانة وتبسة وسار إلى إبراهيم فقتل من أصحابه وعاد إلى جبل إيكجان. فلما دخل فصل الربيع وطاب الزمان جمع أبو عبد الله عسكره فبلغت مائة ألف فارس وراجل وجمع زيادة الله ما لا يحصى وسار أول جمادى الآخرة سنة ست وتسعين ومائتين فالتقوا مع أبي عبد الله واقتتلوا أشد قتال وطال زمنه وظهر أصحاب زيادة الله ثم إن أبا عبد الله كادهم بخيل بعثها من خلفهم فانهزم أصحاب زيادة الله وأوقع فيهم القتل وغنم أموالهم وكان ذلك في آخر جمادى الآخرة ففر زيادة الله إلى ديار مصر فدخل إبراهيم بن الأغلب إلى القيروان فقصد قصر الإمارة ونادى بالأمان وتسكين الناس وذكر زيادة الله وذمه وصغر أمر أبي عبد الله ووعد الناس بقتاله وطلب منهم الأموال فقالوا: إنما نحن فقهاء وعامة التجار وما في أموالنا ما يبلغ غرضك ثم إنهم ثارا به ورجموه فخرج عنهم. ودخل أبو عبد الله إلى مدينة رقادة فأمن الناس ومنع من النهب وخرج الفقهاء ووجوه أهل القيروان إلى لقاء أبي عبد الله وسلموا عليه وهنوه بالفتح فرد عليهم ردا حسنا وأمنهم وقد ما كان إلا قوياً وله منعة ودولة شامخة وما قصر في مدافعته ولكن أمر الله لا يعاند ولا يدافع. فامسكوا عن الكلام. وكان دخول أبي عبد الله رقادة يوم السبت مستهل رجب سنة ست وتسعين ومائتين فنزل ببعض قصورها وفرق دورها على كتامة ونادى بالأمان فرجع الناس إلى أوطانهم وأخرج العمال إلى البلاد وطلب أهل الشر فقتلهم وأمر بجمع ما كان لزيادة الله من الأموال والسلاح وغيره فاجتمع منه كثير وكان له دعة من الجواري لهن حظ من الجمال فلم ينظر إلى واحدة منهن وأمر لهن بما يصلحهن. فلما كان يوم الجمعة أمر الخطباء بالقيروان ورقادة فخطبوا ولم يذكروا أحدا وأمر بضرب السكة وألا يتسم عليها اسم وجعل في الوجه الواحد: بلغت حجة الله وفي الآخر: تفرق أعداء الله. ونقش على السلاح: عدة في سبيل الله. ووسم الخيل على أفخاذها: الملك لله. وأقام على ما كان عليه من لباس الخشن الدون والقليل من الطعام الغليظ. ولما استقرت الأمور لأبي عبد الله في رقادة وسائر بلاد إفريقية أتاه أخوه أبو العباس أحمد. وذلك أن أبا عبد الله الشيعي لما دخل شهر رمضان سنة ست وتسعين ومائتين سار من رقادة وقد استخلف أخاه أبا العباس على إفريقية في جيوش عظيمة فاهتز المغرب لخروجه وخافته زناتة وزالت القبائل عن طريقه وأتته رسلهم فدخلوا في طاعته فلما قرب من سجلماسة بعث اليسع بن مدرار صاحبها إلى عبيد الله وهو في جيشه يسأله عن نسبه وحاله وهل أبو عبد الله قصد إليه فحلف به أنه ما رأى أبا عبد الله وإنما أنا رجل تاجر فأفرده معتقلا بدار وحده وأفرد ابنه أيضا فجعل عليهما الحرس وقرر ولده فما حال عن كلام أبيه وقرر رجالا كانوا معه وضربهم فلم يقروا بشيء. وبلغ ذلك أبا عبد الله فشق عليه وأرسل إلى اليسع يتلطف به وأنه لم يقصده للحرب وإنما له حاجة مهمة عنده فرمى الكتب وقتل الرسل فعاوده بالملاطفة خوفا على عبيد الله ولم يذكره فقتل الرسول ثانيا فأسرع أبو عبد الله في السير ونزل عليه فخرج إليه اليسع وقاتله يومه كله فلما جنه الليل فرق أصحابه من أهله وبني عمه وبات أبو عبد الله في غم عظيم خوفا على عبيد الله. فلما أصبح خرج إليه أهل البلد وأعلموه بهرب اليسع فدخل هو وأصحابه البلد وأتوا مكان عبيد الله وأخرجوه وأخرجوا ابنه في يوم الأحد لسبع خلون من ذي الحجة سنة ست وتسعين ومائتين وقد انتشر في الناس سرور عظيم كادت تذهب منه عقولهم فأركبهما أبو عبد الله ومشى هو ورؤساء القبائل بين أيديهما وأبو عبد الله يقول للناس: هذا مولاكم وهو يبكي من شدة الفرح حتى وصل إلى فسطاط ضربه له فنزل فيه وبعث الخيل في طلب اليسع فأدرك وأخذ فضرب بالسياط وقتل. وأقام عبيد الله المهدي بسجلماسة أربعين يوما ثم سار إلى إفريقية وأحضر الأموال من إيكجان فجعلها أحالا وصار بها إلى رقادة في العشر الأخير من ربيع الآخر سنة سبع وتسعين ومائتين. وزال مالك بني الأغلب من إفريقية وملك بني مدرار من سجلماسة وملك بني رستم من تاهرت. وملك المهدي جميع ذلك فلما قرب من رقادة تلقاه أهلها وأهل القيروان وأبو عبد الله ورؤساء كتامة مشاة بين يديه وابنه خلفه فسلموا عليه فرد عليهم رداً جميلا وأمرهم بالانصراف ونزل بقصر من قصور رقادة. وأمر يوم الجمعة أن يذكر اسمه في الخطبة ويلقب بالمهدي أمير المؤمنين في جميع البلاد فما كان بعد صلاة الجمعة جلس رجل يعرف بالشريف ومعه الدعاة وأحضروا الناس ودعوهم إلى مذهبهم وقتل من لم يوافق. وعرض المهدي جواري زيادة الله فاختار منهن لنفسه ولولده وفرق ما بقي على وجوه كتامة وقسم عليهم أعمال إفريقية ودون الدواوين وجبا الأموال واستقرت قدمه ودانت له أهل البلاد واستعمل العمال عليها: ذكر قتل أبي عبد الله الشيعي وكان سبب قتله أن المهدي لما استقامت له البلاد باشر الأمور بنفسه وكف يد أبي عبد الله ويد أخيه أبي العباس فداخل أبا العباس الحسد وعظم عليه الفطام عن الأمر والنهي والأخذ والعطاء فأقبل يزري على المهدي في مجلس أخيه ويتكلم فيه وأخوه ينهاه ولا يزيده ذلك إلا لجاجا ولام أخاه وقال له: ملكت أمراً فجئت بمن أزالك عنه وكان الواجب عليه أن لا يسقط حقك. وما زال به حتى أثر في قلب أبي عبد الله وقال للمهدي: لو كنت تجلس في قصرك وتتركني مع كتامة آمرهم وأنهاهم لأني عارف بعاداتهم لكان ذلك أهيب لك في أعين الناس. وكان قد بلغ المهدي ما يجهر به أبو العباس فرد ردا لطيفا وأسر ذلك في نفسه. وأخذ أبو العباس يسر إلى المقدمين بما في نفسه ويقول. ما جازاكم على ما فعلتم بل أخذ هو الأموال من إيكجان ولم يقسمها فيكم. وكل ذلك يبلغ المهدي وهو يتغافل فزاد أبو العباس في القول حتى قال: إن هذا ليس بالذي كنا نعتقد طاعته وندعو إليه لأن المهدي يأتي بالآيات الباهرة. فأثر ذلك في قلوب كثير من الناس حتى إن بعضهم من كتامة واجه المهدي بذلك وقال: إن كنت المهدي فأظهر لنا آية فقد شككنا فيك. فقتله المهدي. وخافه أبو عبد الله وعلم أن المهدي قد تغير عليه فاتفق مع أخيه بجماعة من كتامة على المهدي ودخلوا عليه مراراً فلم يجسروا على قتله ونقل ذلك إلى المهدي من رجل كان يوافقهم على ما هم فيه ثم يأتي المهدي فيخبره فأخذ المهدي في تفريق القوم في البلاد وكان كبيرهم أبو زاكي تمام بن معارك الإيكجاني فسيره واليا على طرابلس وكتب إلى عاملها سرا بقتله عند وصوله فلما وصل أبو زاكي قتله العامل وأرسل برأسه إلى المهدي فأمر حينئذ بقتل جماعة وأعد رجالاً لأبي عبد الله وأخيه أبي العباس فلما وصلا إلى قرب القصر حمل القوم على أبي عبد الله فقال: لا تفعلوا فقالوا له: إن الذي أمرتنا بطاعته أمرنا بقتلك فقتل هو وأخوه في اليوم الذي قتل فيه أبو زاكي وذلك يوم الاثنين للنصف من جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين ومائتين بمدينة رقادة وصلى عليه المهدي وقال: رحمك الله أبا عبد الله وجزاك خيرا بجميل سعيك. وثارت فتنة بسبب قتلهما وجرد أصحابها السيوف فركب المهدي وأمن الناس فسكنوا ثم تتبعهم حتى قتلهم. وثارت فتنة ثانية بين كتامة وأهل القيروان قتل فيها خلق كثير فخرج المهدي وسكن الفتنة وكف الدعاة عن طلب التشيع من العامة. وكان أبو عبد الله من الرجال الدهاة الخبيرين بما يصنعون أحد رجالات العالم القائمين بنقض الدول وإقامة الممالك العظيمة من غير مال ولا رجال. ولما قتل أبو عبد الله واستقام أمر المهدي عهد إلى ولده أبي القاسم بالخلافة ورجعت كتامة إلى بلادهم فأقاموا طفلا وقالوا: هذا هو المهدي ثم زعموا أنه يوحى إليه وزعموا أن أبا عبد الله لم يمت فبعث إليهم المهدي ابنه أبا القاسم فقاتلهم حتى هزمهم واتبعهم إلى البحر وقتل منهم خلقا كثيرا وقتل الطفل الذي أقاموه. ثم إن أهل صقلية خالفوا على المهدي فأنفذ إليها وقتل من أهلها. وخالف عليه أهل تاهرت فغزاها وقتل أهل الخلاف وتتبع بني الأغلب فقتل منهم جماعة برقادة. فلما كان سنة إحدى وثلاثمائة جهز المهدي العساكر من إفريقية مع ولده أبي القاسم إلى مصر فساروا إلى برقة واستولوا عليها في ذي الحجة وساروا إلى الاسكندرية والفيوم فضيق على أهلهما وبعث المقتدر بالله مؤنساً الخادم في جيش كثيف فحاربهم وأجلاهم عن مصر إلى المغرب. وكان سبب تحرك أبي القاسم بن المهدي إلى حرب أهل مصر أنه وجه إلى بغداد قصيدة يفخر فيها بنسبه وبما فتح من البلاد فأجابه الصولي بقصيدة على وزنها ورويها فمنها: فلو كانت الدنيا مثالاً لطائرٍ لكان لكم منها بما حزتم الذّنب فحرك همته هذا البيت وقال: والله لا أزال حتى أملك صدر الطائر ورأسه إن قدرت وإلا أهلك دونه. وكابد على ديار مصر من الحروب أهوالا ومات ولم يظفر بها وأوصى ابنه المنصور بما كان في عزمه فشغلته الفتن وكان الظافر بها المعز. فلما كان في سنة اثنتين وثلاثمائة أنفذ المهدي جيشا مع قائد من قواده يقال له حباسة في البحر فغلب على الاسكندرية ثم سار منها يريد مصر فأرسل المقتدر بالله مؤنساً في عسكر إلى مصر وأمده بالسلاح والأموال فالتقى بحباسة في جمادى الأولى فكانت بينهما حروب كثيرة قتل فيها من الفريقين جمع عظيم وانهزم حباسة في سلخ جمادى الآخرة ويقال إنه قتل في هذه الواقعة سبعة آلاف ولما صار حباسة إلى المغرب قتله المهدي. وفيها خالف عليه عروبة بن سيف الكتامي بالقيروان واجتمع عليه خلق كثير من كتامة والبرابر فأخرج إليهم المهدي موالاه غالبا فاقتتلوا فقتل غالب في عالم لا يحصى وجيء بعدة رءوس إلى المهدي في قفة فقال: ما أعجب أمور الدنيا قد جمعت هذه القفة رؤوس هؤلاء وقد كان يضيق بهم فضاء المغرب. ثم إن المهدي خرج بنفسه يرتاج موضعاً على ساحل البحر يتخذ فيه مدينة وكان يجد في الكتب خروج أبي يزيد النكاري على دولته فلم يجد موضعاً أحسن ولا أحصن من موضع المهدية وهي جزيرة متصلة بالبر كهيئة كف متصلة بزند فبناها وجعلها دار ملكه وجعل لها سوراً محكماً وأبوابا عظيمة زنة كل مصراع مائة قنطار. وكان ابتداء بنائها في يوم السبت لخمس خلون من ذي القعدة سنة ثلاث وثلاثمائة فلما ارتفع السور أمر راميا بالقوس يرمى سهما إلى ناحية المغرب فرمى بسهم فانتهى موضع المصلى فقال: إلى موضع هذا يصل صاحب الحمار يعني أبا يزيد الخارجي فإنه كان يركب حمارا. وكان يأمر الصناع بما يعملون وأمر أن تنقر دار صناعة في الجبل تسع مائة شينى وعليها باب مغلق ونقر في أرضها أهراء للطعام ومصانع للماء وبنى فيها القصور والدور فلما فرغ منها قال: اليوم آمنت على الفاطميات يعني بناته وارتحل عنها. ولما رأى إعجاب الناس بها وبحصانتها قال: هذه بنيتها لتعتصم بها الفواطم ساعة من نهار فكان كذلك لأن أبا يزيد وصل إلى موضع السهم ووقف فيه ساعة وعاد ولم يظفر. فلما كان في سنة ست وثلاثمائة جهز المهدي جيشا كثيفا مع ابنه أبي القاسم إلى مصر وهي المرة الثانية فوصل الاسكندرية في ربيع الآخر ودخلها القاسم ثم سار منها وملك الأشمونين وكثيرا من الصعيد وكتب إلى أهل مكة يدعوهم إلى طاعته فلم يقبلوا منه فبعث المقتدر مؤنسا الخادم في شعبان فوصل إلى مصر وكانت بينه وبين القائم عدة وقعات.
ووصل من إفريقية ثمانون مركباً نجدةً للقائم من أبيه فأرست بالاسكندرية وعليها سليمان الخادم ويعقوب الكتامي وكانا شجاعين. فأمر المقتدر أن تسير مراكب طرسوس فسار إليهم خمس وعشرون مركبا فيها النفط والعدد فالتقت المراكب على رشيد فظفرت مراكب المقتدر وأحرقوا كثيرا من مراكب إفريقية وأهلك أكثر أهلها وأسر منها كثير فيهم سليمان ويعقوب فمات سليمان بمصر في الحبس وحمل يعقوب إلى بغداد فهرب منها وعاد إلى إفريقية. وغلب مؤنس عساكر القائم ووقع فيهم الغلاء والوباء فمات كثير منهم ورجع من بقي إلى إفريقية وفيهم القائم وتلقب مؤنس الخادم من حينئذ بالمظفر لغلبته عساكر المغرب غير مرة. فلما كانت سنة خمس عشرة وثلاثمائة سير المهدي ابنه أبا القاسم من المهدية إلى المغرب في جيش كثير في صفر بسبب خارجي خرج عليه وقتل خلقا فوصل إلى ما وراء تاهرت. وعاد فخط برمحه في الأرض صفة مدينة سماها المحمدية وكانت خطة لبني كملان فأخرجهم منها إلى فحص القيروان كالمتوقع منهم أمراً فلذلك أحب أن يكونوا قريبا منه وهم كانوا أصحاب أبي يزيد الخارجي. وكان المهدي يشبه في خلفاء بني العباس بالسفاح فإن السفاح خرج من الحميمة بالشام يطلب الخلافة والسيف يقطر دما والطلب مراصد وأبو سلمة الخلال يؤسس له الأمر ويبث دعوته وعبيد الله خرج من سلمية في الشام وقد أذكيت العيون عليه وأبو عبد الله الشيعي ساع في تمهيد دولته وكلاهما تم له الأمر وقتل من قام بدعوته. وانتقل كثير من الناس إلى المحمدية وأمر عاملها أن يكثر من الطعام ويخزنه ويحتفظ به ففعل ذلك فلم يزل مخزونا حتى خرج أبو يزيد ولقيه المنصور بن القائم بن المهدي ومن المحمدية كان يمتار ما يريد إذ ليس بالموضع مدينة سواها. فلما كان يوم الاثنين الرابع عشر وقيل وقت صلاة المغرب ليلة الثلاثاء النصف من ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة توفي أبو محمد عبيد الله المهدي بالمهدية وأخفى ابنه أبو القاسم موته سنةً لتدبير كان له فإنه كان يخاف الناس إذا علموا بموت المهدي. وكان عمر المهدي لما توفى ثلاثا وستين سنة لم تكمل . وكانت ولايته منذ دخل رقادة ودعى له بالإقامة إلى أن توفي أربعا وعشرين سنة وعشرة أشهر وعشرين يوماً. وقيل: كانت ولادته بسلمية من أرض الشام في سنة تسع وخمسين وقيل سنة ستين ومائتين وقيل: ولد بالكوفة. ودعى له على منابر رقادة والقيروان يوم الجمعة لسبع بقين من ربيع الآخر سنة سبع وتسعين ومائتين. وتوفي ليلة الثلاثاء منتصف ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة. ونقش خاتمة: بنصر الإله الممجد ينتصر الإمام أبو محمد. وقال فيه سعدون الورجيلي: كفّي عن التثبيط إنّي زائرٌ من أهل بيت الوحي خير مزور هذا أمير المؤمنين تضعضعت لقدومه أركان كلّ أمير هذا الإمام الفاطميّ ومن به أمنت مغاربها من المحذور والشرق ليس لشامه وعراقه من مهربٍ من جيشه المنصور حتى يفوز من الخلافة بالغ ويفاز منه بعدله المنشور. أبو القاسم محمد وقيل عبد الرحمن بن المهدي عبيد الله ولد بسلمية في المحرم سنة ثمانين وقيل سبع وسبعين ومائتين ورحل مع أبيه إلى المغرب وعهد فلما مات أبوه وفرغ من جميع ما يريده وتمكن أظهر موت أبيه وتبع سنة أبيه وثار عليه جماعة فتمكن منهم. وخرج عليه ابن طالوت في ناحية طرابلس فبعث إليه وقتله وجهز جيشا كثيرا إلى المغرب فهزم خارجياً هناك. وسير جيشا في البحر إلى بلد الروم فسبى وغنم في بلد جنوه. وسير جيشا بالغ في النفقة عليهم إلى مصر فدخلوا الاسكندرية فبعث الأخشيد فهزمهم. وذلك أنه لما كان سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة خرج أبو يزيد بن كيداد النكاري الخارجي بإفريقية واشتدت شوكته وكثرت أتباعه وهزم الجيوش. وكان ابتداء أمره أنه من زناة من مدينة توزر وكان أبوه يختلف إلى بلاد السودان للتجارة فولد بها أبو يزيد من جارية صفراء هوارية فأتى به إلى توزر فنشأ بها وتعلم القرآن وخالط جماعة من النكارية فمالت نفسه إلى مذهبهم ثم سافر إلى تاهرت فأقام بها يعلم الصبيان إلى أن خرج أبو عبد الله الشيعي إلى سجلماسة في طلب عبيد الله المهدي فانتقل إلى تقيوس واشترى ضيعة وأقام يعلم الناس فيها. وكان مذهبه تكفير أهل الملة واستباحة الأموال والدماء والخروج على السلطان فابتدأ يحتسب على الناس في أفعالهم وصار له جماعة يعظمونه وذلك في أيام المهدي سنة ست عشرة وثلاثمائة. وتزايدت شوكته وكثرت أتباعه في أيام القائم وحاصر باغاية وهزم الجيوش الكثيرة ثم حاصر قسطيلية سنة ثلاث وثلاثين وفتح تبسة ومجانة وهدم سورها ودخل مدينة مرمجنة فلقيه رجل من أهلها وأهدى له حمارا أشهب مليح الصورة فركبه من ذلك اليوم وصار يعرف براكب الحمار وكان قصيرا أعرج يلبس جبة صوف قصيرة وكان قبيح الصورة. ثم إنه هزم كتامة وافتتح سبتية وصلب عاملها وفتح مدينة الأربس وأحرقها ونهبها والتجأ الناس إلى الجامع فقتلهم فيه وبلغ ذلك أهل المهدية فاستعظموه وقالوا للقائم: الأربس باب إفريقية ولما أخذت زالت دولة بني الأغلب فقال: لا بد أن يبلغ أبو يزيد المصلى وهي أقصى غايته. وأخرج القائم الجيوش لضبط البلاد وجمع العساكر وبعث جيشا مع فتاه ميسور وجيشا مع فتاه بشرى فسار أبو يزيد وواقع بشرى على باجة فانهزم أبو يزيد وصار في أربعمائة فمال إلى خيام بشرى وانتهبها فانهزم بشرى إلى تونس وقتل كثير من عسكره وملك أبو يزيد باجة وحرقها ونهبها وقتل الأطفال وأخذ النساء وكتب إلى القبائل يدعوهم إلى نفسه فأتوه وعمل الأخبية والبنود وآلات الحرب. وجمع بشرى جيشا وأنفذه إلى أبي يزيد فسير إليهم أبو يزيد جيشا والتقوا وانهزم أصحاب أبي يزيد. وكانت فتنة بتونس وهرب عاملها وكاتبوا أبا يزيد فأمنهم وولى عليهم رجلا منهم فخافه الناس وانتقلوا إلى القيروان وأتاه كثير منهم ثم لقيه بشرى فانهزم عسكر أبي يزيد وقتل منهم أربعة آلاف وأسر خمسمائة وبعث بهم إلى المهدية في السلاسل فقتلهم العامة. فغضب لذلك أبو يزيد وجمع الجموع. وسار إلى قتال الكتاميين فتلاقى مع طلائعهم فانهزمت الطلائع وتبعهم البربر إلى رقادة فنزل أبو يزيد بالقرب من القيروان في مائة ألف مقاتل وقاتل أهل رقادة فقتل من أهل القيروان خلقا كثيرا ودخل القيروان عسكره في أواخر صفر فانتهبوا البلد وقتلوا وأخذ عامل القيروان فحمل إلى أبي يزيد فقتله. وخرج شيوخ القيروان إلى أبي يزيد وهو برقادة فطلبوا الأمان فماطلهم وأصحابه يقتلون وينهبون فعادوا إلى الشكوى وقالوا: خربت المدينة. فقال: وما تكون خربت مكة والبيت المقدس! ثم قدم ميسور في عساكر عظيمة فالتقى بأبي يزيد واشتد القتال بينهما وقتل ميسور وحمل رأسه إلى أبي يزيد فانهزم عامة عسكره. وسير أبو يزيد الكتب إلى عامة البلاد يخبر بهذا الظفر فخاف القائم ومن معه بالمدينة وانتقل الناس من أرباضها فاحتموا بالسور فمنعهم القائم ووعدهم الظفر فعادوا إلى زويلة واستعدوا وأقام أبو يزيد شهرين وثمانية أيام في خيم ميسور وهو يبعث السرايا إلى كل ناحية فيغنمون ويعودون وفتح سوسة بالسيف وقتل الرجال وسبى النساء وأحرق البلد وشق أصحابه فروج النساء وبقروا البطون حتى لم يبق موضع في إفريقية معمور ولا سقف مرفوع ومضى جميع من بقى إلى القيروان حفاة عراة فمات أكثرهم جوعا وعطشا. وفي أواخر ربيع الآخر سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة حفر القائم الخنادق حول أرباض المهدية وكتب إلى زيرى بن مناد سيد صنهاجة وإلى سادات كتامة والقبائل بحثهم على الاجتماع ورحل أبو يزيد نحو المهدية فنزل على خمسة عشر ميلا منها وبث سراياه فانتهبوا ما وجدوا وقتلوا من أصابوا. فلما كان يوم الخميس لثمان بقين من جمادى الأولى من السنة خرجت كتامة وأصحاب القائم إلى أبي يزيد فالتقوا على ستة أميال من المهدية واقتتلوا مع أصحاب أبي يزيد وأدركهم أبو يزيد وقد انهزم أصحابه وقتل كثير منهم فلما رآه الكتاميون انهزموا من غير قتال وأبو يزيد في أثرهم إلى باب الفتح. واقتحم قوم من البربر باب الفتح وأشرف أبو يزيد على المهدية ثم رجع إلى منزله وعاد إلى المهدية ووقف على الخندق المحدث وقاتل عليه حتى وصل إلى باب المهدية عند المصلى الذي للعيد وبينه وبين المهدية رمية سهم وتفرق أصحابه في زويلة ينهبون ويقتلون وهم لا يعلمون ما صنع أبو يزيد في ذلك الجانب فحمل الكتاميون على البربر وهزموهم وقتلوا منهم. ووصل زيرى بن مناد فعظم القتال وتحير أبو يزيد وقد مالوا عليه ليقتلوه فتخلص إلى منزله بعد المغرب ورحل إلى ترنوطة وحفر على عسكره خندقا واجتمع إليه خلق عظيم من إفريقية والبربر ونفوسة والزاب وأقاصي المغرب فحصر المهدية حصاراً شديداً ومنع الناس من الدخول إليها والخروج منها. ثم زحف إليها لسبع بقين من جمادى الآخرة فجرى قتال عظيم قتل فيه جماعة من وجوه عسكر القائم واقتحم أبو يزيد بنفسه حتى وصل قرب الباب فعرفه بعض العبيد فقبض على لجامه وصاح: هذا أبو يزيد فاقتلوه. فأتاه بعض أصحابه وقطع يد العبد وخلص أبو يزيد وكتب إلى عامل القيروان بإرسال مقاتلة أهلها إليه ففعل ذلك وزحف بهم آخر رجب فجرى قتال شديد وانهزم أبو يزيد هزيمة منكرة وقتل جماعة من أصحابه وأكثر أهل القيروان.
ثم زحف الزحفة الرابعة في العشر الآخر من شوال فجرى قتال عظيم وانصرف إلى منزله وكثر خروج الناس إليه من الجوع والغلاء ففتح عند ذلك القائم الأهراء التي عملها أبوه المهدي وفرق ما فيها على رجاله وعظم البلاء على الرعية حتى أكلوا الدواب الميتة وخرج من المهدية أكثر السوقة والتجار ولم يبق بها سوى الجند فكان البربر يأخذون من خرج ويشقون بطونهم طلباً للذهب. ثم وصلت كتامة فنزلت بقسطنطينة فخاف أبو يزيد وكان البربر يأتون إلى أبي يزيد من كل ناحية فينهبون ويرجعون إلى منازلهم حتى أفنوا ما كان في إفريقية فلما لم يبق مع أبي يزيد سوى أهل أوراس وبني كملان أخرج عسكره فكان بينهم قتال شديد لست خلون من ذي القعدة ثم صبحوهم من الغد فلم يخرج إليهم أحد. ثم زحفت عساكر القائم إليه فخرج من خندقه واشتد بينهم القتال ثم عادوا إلى القتال فانهزم عسكر القائم وعاد الحصار على ما كان عليه وهرب كثير من أهل المهدية إلى جزيرة صقلية وطرابلس ومصر وبلد الروم. فلما كان آخر ذي القعدة اجتمع لأبي يزيد جمع عظيم وتقدم إلى المهدية فقاتل عليها وكاد أن يؤخذ ثم خلص سنة أربع وثلاثين وهو مقيم على المهدية وفي المحرم منها ظهر بإفريقية رجل يدعو إلى نفسه فأجابه كثير من الناس وادعى أنه رجل عباسي ورد من بغداد ومعه أعلام سود فظفر به أصحاب أبي يزيد وساقوه إليه فقتله. وفر بعض أصحاب أبي يزيد إلى المهدية وخرجوا مع أصحاب القائم فقاتلوا أبا يزيد فظفروا وتفرق عند ذلك أصحاب أبي يزيد ولم يبق معه غير هوارة وبني كملان وكان اعتماده عليهم. ورحل بقية أصحابه إلى القيروان ولم يشاوروا أبا يزيد فرحل مسرعا في طائفة وترك جميع أثقاله وذلك في سادس صفر فنزل مصلى القيروان فخرج أهل المهدية إلى أثقاله فغنموا طعاما كثيرا وخياما فحسنت حالهم ورخصت الأسعار وبعث القائم إلى البلاد عمالا يطردون عمال أبي يزيد. ثم إن أبا يزيد بعث عسكرا إلى تونس فدخلوها بالسيف في العشرين من صفر فنهبوا جميع ما فيها وسبوا النساء والأطفال وقتلوا الرجال وهدموا المساجد والتجأ كثير من الناس إلى البحر فغرقوا. فسير القائم عسكرا لقتال أصحاب أبي يزيد في تونس فانهزم عسكر القائم وتبعهم أصحاب أبي يزيد فكر عليهم عسكر القائم وصبروا فانهزم أصحاب أبي يزيد وقتل منهم خلق كثير. ودخلوا إلى تونس خامس ربيع الأول فأخرجوا من فيها من أصحاب أبي يزيد فبعث أبو يزيد ابنه فقتل أهل البلد وأحرق ما بقي فيه وتوجه إلى باجة فقتل من بها من أصحاب القائم ودخلها بالسيف وأحرقها وكان في هذه المدة من القتل والسبي والتخريب ما لا يوصف. وهم جماعة من أصحاب أبي يزيد بقتله وكاتبوا القائم بذلك فظفر بهم أبو يزيد فقتلهم وكثر النهب والسبي في القيروان. وكان القائم قد بعث يجمع العساكر من المسيلة وغيرها فاجتمع له خلق كثير فطرقهم أيوب بن أبي يزيد على حين غفلة فقتل منهم وغنم أثقالهم وسير جريدة إلى تونس فأوقعوا بعسكر القائم وتكررت الحرب بينهم فانهزم أصحاب أبي يزيد وقتلوا قتلا ذريعا وأخذت أثقالهم وانهزم أيوب إلى القيروان في ربيع الأول فعظم على أبي يزيد وجمع على ابنه أيوب فسار وتوالت بينه وبين أصحاب القائم الحروب إلى أن هزمت أصحاب القائم من عسكر أبي يزيد ثم تجمعت عسكر القائم وواقعت أصحاب أبي يزيد على قسنطينة فانهزمت أصحاب أبي يزيد. فجد حينئذ أبو يزيد في أمره وجمع العساكر وسار إلى سوسة سادس جمادى الآخرة وبها جيش القائم فحصرها حصرا شديدا وعمل عليها الدبابات والمنجنيقات وقتل من أهلها خلق كثير. فلما كان في شهر رمضان مات القائم وقام من بعده ابنه المنصور فكتم موت أبيه خوفا من أي يزيد وعمل المراكب وشحنها بالرجال وسيرها إلى سوسة وسار بنفسه إليها ثم عاد وقدمت المراكب فواقعت أبا يزيد حتى انهزم هو وأصحابه وأحرقوا خيامه فدخل أبو يزيد إلى القيروان وفر البربر على وجوههم فمات أكثرهم جوعا وعطشا. ومنع أهل القيروان أبا يزيد من دخول البلد وحصروا عامله بها فالتحق به وأخذ أبو يزيد امرأته أم أيوب وتبعه أصحابه بعيالاتهم على سبيبة وهي على يومين من القيروان فنزلوها. وسار المنصور إلى مدينة سوسة لسبع بقين من شوال وبعث فنادى في الناس بالأمان ورحل إلى القيروان لست بقين من شوال فخرج إليه الناس فأمنهم ووجد بالقيروان حرما وأولاد لأبي يزيد فحملهم إلى المهدية وأجرى عليهم الأرزاق. وجمع أبو زيد العساكر وبعث سرية يتخبرون له فأرسل إليهم المنصور سرية فالتقوا واقتتلوا وهزموا أصحاب المنصور وبلغ الناس ذلك فتسرعوا إلى أبي يزيد وكثر جمعه وزحف إلى القيروان فواقعه المنصور حتى ظفر وباشر بنفسه القتال وجعل يحمل يمينا وشمالا والمظلة على رأسه كالعلم ومعه نحو خمسمائة فارس وأبو يزيد في قدر ثلاثين ألفا فانهزم أصحاب المنصور هزيمة عظيمة حتى دخلوا الخندق وبقي المنصور في نحو عشرين فارسا وقصده أبو يزيد فلما رآه شهر سيفه وثبت مكانه وحمل بنفسه على أبي يزيد حتى كاد يقتله فولى أبو يزيد هارباً وقتل المنصور من أدرك منهم وتلاحقت به العساكر فقتل من أصحاب أبي يزيد خلقاً كثيراً. وكان يوماً من الأيام المشهودة التي لم يكن فيما مضى من الأيام مثله وعاين الناس من شجاعة ورحل أبو يزيد عن القيروان أواخر ذي القعدة ثم عاد إليها غير مرة فلم يخرج إليه أحد ونادى المنصور: من أتى برأس أبي يزيد فله عشرة آلاف دينار.
وأذن للناس في قتال أبي زيد فجرى قتال شديد انهزم فيه أصحاب المنصور حتى دخلوا الخندق ثم عادوا فهزموا أصحاب أبي يزيد وافترقوا وقد انتصف بعضهم من بعض وكثرت القتلى من الفريقين وعادت الحرب بينهما غير مرة وأبو يزيد يبعث السرايا فيقطع الطريق بين المهدية والقيروان وسوسة. ثم إنه بعث إلى المنصور يسأل حرمه وعياله الذين خلفهم بالقيروان وأخذهم المنصور ليدخل في طاعته على أن يؤمنه وأصحابه وحلف على ذلك بأغلظ الأيمان فسير إليه المنصور عياله مكرمين بعد أن وصلهم وكساهم فلما وصلوا إليه نكث وقال: إنما وجههم خوفا مني. وانقضت سنة أربع وثلاثين وهم على حالهم. ففي خامس المحرم سنة خمس وثلاثين زحف أبو يزيد وركب المنصور وكان بينهما قتال ما سمع بمثله وحملت البربر على المنصور وحمل عليها وجعل يضرب فيهم فانهزموا بعد أن قتل فلما انتصف المحرم عبى المنصور عسكره فجعل على ميمنته أهل إفريقية وعلى ميسرته كتامة وركب في القلب ومعه عبيده وخاصته فوقع بين الفريقين قتال شديد وحمل أبو يزيد على ميمنة المنصور فهزمها ثم حمل على القلب فوقع إليه المنصور وقال: هذا يوم الفتح إن شاء الله تعالى. وحمل فيمن معه حملة رجل واحد فانهزم أبو يزيد وأخذت السيوف أصحابه فولوا منهزمين وأسلموا أثقالهم وفر أبو يزيد على وجهه وقد قتل من أصحابه ما لا يحصى كثرة حتى أن الذي أخذه أطفال أهل القيروان خاصة من رؤوس القتلى عشرة آلاف رأس. وأقام المنصور يتجهز ثم رحل أواخر ربيع الأول فأدرك أبا يزيد ففر منه فتبعه وصار كلما قصد أبو يزيد موضعا يتحصن فيه يسبقه المنصور إليه واستأمن بعض أصحابه فأمنه المنصور واستمر الهرب بأبي يزيد حتى وصل إلى جبل البربر وأهله على مذهبه وسلك الرمال فاجتمع معه خلق كثير وواقع عسكره المنصور فهزم الميمنة وحمل عليه المنصور بنفسه فانهزم وتبعه المنصور إلى جبال وعرة وأودية عميقة خشنة الأرض فمنعت الأدلاء المنصور من سلوك تلك الأرض وقالوا إنه لم يسلكها جيش قط. واشتد الأمر على عسكر المنصور فبلغ عليق كل دابة دينارا ونصفا وبلغت قربة الماء دينارا إن أبا يزيد اختار الموت جوعا وعطشا على القتل بالسيف. فلما سمع المنصور ذلك رجع إلى بلاد صنهاجة فاتصل به الأمير زيرى بن مناد الصنهاجي بعساكر صنهاجة فأكرمه المنصور وأتته الأخبار بموضع أبي يزيد من الرمال. ونزل بالمنصور مرض شديد أشفى منه فلما أفاق من مرضه رحل إلى المسيلة ثاني رجب فإذا أبو يزيد قد سبقه إليها لما سمع بمرض المنصور وهو يحاصرها فلما علم بالمنصور هرب منه يريد بلاد السودان فخدعه بنو كملان هم وهوارة ومنعوه من ذلك وأصعدوه إلى جبال كتامة وغيرهم فتحصن بها واجتمع إليه أهلها وصاروا ينزلون ويتخطفون الناس فسار المنصور عاشر شعبان إليه فلم ينزل أبو يزيد فلما أخذ المنصور في العود نزل أبو يزيد إلى ساقة العسكر فرجع المنصور ووقعت الحرب فانهزم أبو يزيد وأسلم أصحابه وأولاده وأدركه فارسان فعقرا فرسه فسقط عنه فأركبه بعض أصحابه وأدركه الأمير زيرى فطعنه وألقاه وكثر عليه القتال حتى خلصه أصحابه وخلصوا به وتبعهم المنصور فقتل منهم ما يزيد على عشرة آلاف. وسار المنصور في أثره أول رمضان فاقتتلوا أشد قتال ولم يقدر أحد الفريقين على الهزيمة لضيق المكان وخشونته ثم انهزم أبو يزيد وطلع أصحابه على رؤوس الجبال يرمون بالصخر والتجأ أبو يزيد إلى قلعة كتامة وهي منيعة فاحتمى بها وأقبلت هواره وأكثر من مع أبي يزيد يطلبون الأمان فأمنهم المنصور وسار فحصر القلعة وفرق جنده حولها فناشبه أبو يزيد القتال وزحف إليها المنصور غير مرة حتى ملك بعض أصحابه مكانا من القلعة وألقوا فيها النيران فانهزم أصحاب أبي يزيد وقتلوا قتيلا ذريعا وامتنع أبو يزيد وأولاده في قصر بالقلعة ومعه أعيان أصحابه فاجتمع أصحاب المنصور وأحرقوا شعارى الجبل حتى لا يهرب أبو يزيد فصار الليل كالنهار. فلما كان آخر الليل خرج أصحاب أبي يزيد وهم يحملونه على أيديهم وحملوا على الناس حملة منكرة فأفرجوا له ونجوا به ونزل من القلعة خلق كثير فأخذوا وأخبروا بخروج أبي يزيد فأمر المنصور بطلبه وقال: ما أظنه إلا قريبا منا. فبينما هم كذلك إذ جاء الخبر أن ثلاثة من أصحاب أبي يزيد حملوه من المعركة لقبح عرجه فذهب لينزل من الوعر فسقط في مكان صعب فأخذ وحمل إلى المنصور يوم الأحد لخمس بقين من المحرم وبه جراحات فلما رآه سجد شكراً لله. وقدم به والناس يكبرون حوله فأقام عنده إلى سلخ المحرم من سنة ست وثلاثين وثلاثمائة فمات من جراح كانت به فأمر المنصور بادخاله في قفص عمل له وجعل معه قردين يلعبان عليه وأمر بسلخ جلده وحشاه تبنا وكتب إلى سائر البلاد بالبشارة.
وخرج عليه بعد أبي يزيد عدة خوارج فظفر بهم المنصور. ثم عاد المنصور إلى المهديلة في شهر رمضان سنة ست وثلاثين. وكانت وفاة القائم بأمر الله أبو القاسم محمد بن عبيد الله المهدي لثلاث عشرة خلت من شوال سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة. وقام بالأمر من بعده ابنه أبو طاهر إسماعيل المنصور بنصر الله وكتم موته خوفاً أن يعلم أبو يزيد فإنه كان على سوسة قريبا منه فأبقى الأمور على حالها ولم يتسم بالخليفة ولا غير السكة ولا الخطبة ولا البنود وبقى كذلك حتى فرغ من أمر أبي يزيد فلما فرغ منه أظهر موت أبيه وتسمى بالخلافة وعمل آلات الحرب. ويقال إن القائم لم يرق سريرا ولا ركب دابة صيد منذ أفضى إليه الأمر حتى مات وإنه صلى مرة على جنازة وصلى مرة العيد بالناس. وكانت مدة خلافته اثنتى عشرة سنة وسبعة أشهر واثنى عشر يوما. وعمره ثمانيا وخمسين سنة وقيل أربعا وخمسين سنة وتسعة أشهر وستة أيام.
أبو الطاهر إسماعيل. وأبو عبد الله جعفر ومات في أيام المعز وحمزة وعدنان وأبو كنانة قبضوا بالمغرب ويوسف مات ببرقة سنة اثنتين وستين وثلاثمائة وعبد الجبار توفي بمصر سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة وأربع بنات. وترك سبع سرارى. وكانت قضاته: إسحاق بن أبي المنهال ثم مات فولى أحمد بن يحيى وقتله أبو يزيد لما فتح إفريقية في صفر سنة ثلاث وثلاثين ثم أحمد بن الوليد. ونقش خاتمه: بنصر الدائم ينتصر الإمام أبو القاسم. وقال فيه أيوب بن إبراهيم: يا ابن الإمام المرتضى وابن الو - - صي المصطفى وابن النبيّ المرسل الله أعطاك الخلافة واهباً ورآك للإسلام أمنع معقل فمنعت حوزتها وحطت حريمها بالمشرفيّة والوشيج الذّبّل وقال خليل بن إسحاق لما بعثه لقتال أبي يزيد: وما ودّعت خير الخلق طرّاً ** ولا فارقته عن طيب نفس ولكنّي طلب به رضاه ** وعفو اللّه يوم حلول رمس فعاش مملّكاً ما لاح نجمٌ ** على الثّقلين من جنٍّ وإنس أبو الطاهر إسماعيل ابن محمد القائم بن عبيد الله المهدي ولد بالمهدية في أول ليلة من جمادى الآخرة سنة ثلاث وثلاثمائة وقيل ولد بالقيروان في سنة اثنتين وثلاثمائة وقيل بل في سنة إحدى وثلاثمائة. وبويع له في شوال سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة. وتوفي يوم الأحد الثالث وعشرين من شوال وقيل يوم الجمعة مع الظهر سلخ شوال سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة وسترت وفاته إلى يوم الأحد سابع ذي الحجة منها. وكان له من العمر إحدى وأربعين سنة وخمسة أشهر. وكانت ولايته الخلافة بعد أبيه ثماني سنين وقيل: سبع سنين وعشرة أيام وقيل: كان عمره تسعا وثلاثين سنة. وكان فصيحا بليغا خطيبا حاد الذهن حاضر الجواب بعيد الغور جيد الحدس يخترع الخطبة لوقته وأحواله التي تقدم ذكرها مع أبي يزيد وغيره تدل على شجاعته وعقله. قال أبو جعفر أحمد بن محمد المرورذي: كنت مع المنصور في اليوم الذي أظهره الله بمخلد بن كيداد أبي يزيد وهزمه فتقدمت إليه وسلمت عليه وقبلت يده ودعوت له بالنصر والظفر فأمرني بالركوب وقد جمع عليه سلاحه وآلة حربه وتقلد سيف جده ذا الفقار وأخذ بيده رمحين فحدثته ساعة فجال به الفرس ورد أحدهما إلى يده اليسرى فسقط إحدى الرمحين من يده إلى الأرض فتفاءلت له بالظفر ونزلت مسرعا فرفعت الرمح من الأرض ومسحته بكمي فرفعته إليه وقبلت يده وقلت: فألقت عصاها واستقرّ بها النوى كما قرّ عيناً بالإياب المسافر فأخذ المنصور الرمح من يدي وقال: هلا قلت ما هو خير من هذا وأصدق. قال قلت: وما هو. قال: قال الله عز وجل: " قال: فقلت: يا مولانا: أنت ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإمام الأمة عليكم نزل القرآن ومن بيتكم درجت الحكم فقلت أنت بما عندك من نور النبوة وقال عبدك بما بلغه من علمه ومعرفته بكلام العرب وأهل الشعر. وكان الأمر كما قال فما هو إلا أن أشرف على عسكر أبي يزيد حتى ضرب الله في وجوههم فقتلوا وأحرق عسكرهم وخيامهم بالنار وولى أبو يزيد في بقية أصحابه خائبين إلى داخل المغرب. ولما صارت الخلافة إلى المنصور في الشهر الذي توفى أبوه فيه لم يغير السكة ولا البنود وأقام على ذلك إلى سنة ست وثلاثين وثلاثمائة فأظهر موت أبيه بعد أن ظفر بأبي يزيد. وكان سبب موته: أنه خرج إلى سفاقس وتونس ثم إلى قابس وبعث يدعو أهل جربة إلى الطاعة فأجابوه وأخذ منهم رجالا وعاد وكانت سفرته شهرا. وعهد إلى ابنه معد وجعله ولى عهده. فلما كان شهر رمضان سنة إحدى وأربعين خرج متنزها إلى مدينة جلولاء وهو موضع كثير الثمار وفيه من الأترج ما لا يحمل الجمل منه غير أربع أترجات لعظمه فحمل منه إلى قصره وكانت له حظية يحبها فلما رأت الأترج استحسنته وأحبت أن تراه في أغصانه فأجابها إلى ذلك ورحل بها في خاصته وأقام بها أياما ثم عاد إلى المنصورية فأصابه في الطريق ريح شديد وبرد ومطر أقام أياما وكثر الثلج فمات جماعة ممن معه. واعتل المنصور علة شديدة ووصل المنصورية فأراد عبور الحمام فنهاه طبيبه إسحاق ابن سليمان الإسرائيلي عن ذلك فلم يقبل ودخل الحمام ففنيت الحرارة الغريزية منه ولازمه السهر فأخذ طبيبه يعالج المرض دون السهر فاشتد ذلك على المنصور وقال لبعض خواصه: أما في القيروان طبيب غير إسحاق فأحضر إليه شاب من الأطباء يقال له: أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن أبي خالد بن الجزار فجمع له أشياءً مخدرة وكلفه شمها فنام وخرج وهو مسرور بما فعله فجاء إسحاق ليدخل على المنصور فقيل له إنه نائم فقال: إن كان صنع له شيء ينام منه فقد مات فدخلوا عليه فإذا هو ميت فدفن في قصره. وأرادوا قتل ابن الجزار الذي صنع له المنوم فقام معه إسحاق وقال: لا ذنب له إنما داواه بما ذكره الأطباء غير أنه جهل أصل المرض وما عرفتموه وذلك أنني في وكان نقش خاتمه: بنصر الباطن الظاهر ينتصر الإمام أبو الطاهر. وكان يشبه بأبي جعفر المنصور من خلفاء بني العباس لأن كلا منهما اختلت عليه الدولة وأصفقت عليه الحروب وكاد يسل من الخلافة فهب له ريح النصر وتراجع له أمره حتى لم يبق مخالف. وأولاده: أبو تميم المعز لدين الله: وحيدرة مات بمصر في جمادى الآخرة سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة وصلى عليه العزيز بالله . وهاشم مات بمصر في ربيع الأول سنة ثمان وستين وثلاثمائة وصلى عليه العزيز بالله . وطاهر مات في المحرم سنة تسع وخمسين وثلاثمائة بالمغرب . وأبو عبد الله الحسين مات بالمغرب . وخمس بنات: هبة وأروى وأسماء متن بمصر أيام المعز لدين الله. وأم سلمة ماتت بمصر أيام العزيز بالله . ومنصورة ماتت بالمغرب . وقضاته: أحمد بن محمد بن أبي الوليد. ثم محمد بن أبي المنصور. ثم عبد الله بن قاسم. ثم علي بن أبي سفيان. ثم أبو محمد زرارة. ثم أبو حنيفة النعمان بن محمد التميمي. وحاجبه: جعفر بن علي.
|